القول بعداله جمیع الصحابه
ادعاء الاجماع على عداله جمیع الصحابه
یقول ابن حجر العسقلانی : اتفق أهل السنّه على أنّ الجمیع عدول ولم یخالف فی ذلک إلاّ شذوذ من المبتدعه (١).
لاحظوا هذه الکلمه : لم یخالف فی ذلک إلاّ شذوذ من المبتدعه.
ویقول الحافظ ابن حزم : الصحابه کلّهم من أهل الجنّه قطعاً (٢).
ویقول الحافظ ابن عبد البر : ثبتت عداله جمیعهم … ، لاجماع أهل الحق من المسلمین وهم أهل السنّه والجماعه (٣).
لاحظوا هنا ، أهل العلم یعلمون بأنّ الحافظ ابن عبد البر صاحب الاستیعاب متّهم بینهم بالتشیّع ، وممّن یتّهمه بهذا ابن تیمیّه فی منهاج السنّه ، لاحظوا ماذا یقول : لاجماع أهل الحق من المسلمین وهم أهل السنّه والجماعه ، فیظهر أنّ الاتّهام بالتشیّع متى یکون ، یکون حیث یروی ابن عبد البر روایهً تنفع الشیعه ، یروی منقبه لامیر المؤمنین ربّما لا یرتضیها ذلک الشخص ، فیتّهم ابن عبد البر بالتشیّع ، وإلاّ فهو یقول : لاجماع أهل الحق من المسلمین وهم أهل السنّه والجماعه على أنّهم کلّهم عدول.
وقال ابن الاثیر فی أُسد الغابه : کلّهم عدول لا یتطرّق إلیهم الجرح (۴).
فی هذه النصوص أمران :
الامر الاوّل : هو القول بعداله الصحابه کلّهم.
الامر الثانی : دعوى الاجماع على عداله الصحابه کلّهم.
مناقشه الاجماع :
فی مقابل هذا القول نجد النصوص التالیه : یقول ابن الحاجب فی مختصر الاُصول : الاکثر على عداله الصحابه. والحال قال ابن حجر : إنّ القول بعدالتهم کلّهم مجمع علیه وما خالف إلاّ شذوذ من المبتدعه.
یقول ابن الحاجب : الاکثر على عداله الصحابه ، وقیل : هم کغیرهم ، وقیل قول ثالث : إلى حین الفتن ، فلا یقبل الداخلون ، لانّ الفاسق غیر معیّن ، قول رابع : وقالت المعتزله : عدول إلاّ من قاتل علیاً (۵).
إذن ، أصبح الفارق بین المعتزله وغیرهم من قاتل علیاً.
یقول أهل الحق وهم أهل السنه والجماعه : إنّ من قاتل علیّاً عادل !
ویقول المعتزله : الذین قاتلوا علیّاً لیسوا بعدول.
هذه عباره مختصر الاُصول لابن الحاجب.
وراجعوا أیضاً غیر هذا الکتاب من کتب علم الاُصول.
ثمّ إذا دقّقتم النظر ، لرأیتم التصریح بفسق کثیر من الصحابه ، من کثیر من أعلام القوم ، أقرأ لکم نصّاً واحداً.
یقول سعد الدین التفتازانی ، وهذا نصّ کلامه ، ولاحظوا عبارته بدقّه : إنّ ما وقع بین الصحابه من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور فی کتب التواریخ ، والمذکور على ألسنه الثقات ، یدلّ بظاهره على أنّ بعضهم ـ بعض الصحابه ـ قد حاد عن طریق الحق ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وکان الباعث له الحقد والعناد ، والحسد واللداد ، وطلب الملک والرئاسه (۶).
وکما قرأنا فی اللیله الماضیه ، خاطب أبوبکر معشر المهاجرین : بأنّکم تریدون الدنیا ، وستور الحریر ، ونضائد الدیباج ، وتریدون الرئاسه ، وکلّکم یریدها لنفسه ، وکلّکم ورم أنفه.
یقول التفتازانی : وکان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد ، وطلب الملک والرئاسه ، والمیل إلى اللذّات والشهوات.
یقول : إذ لیس کلّ صحابی معصوماً ، ولا کلّ من لقی النبی بالخیر موسوماً.
وکان موضوع تعریف ابن حجر العسقلانی : من لقی النبی.
یقول سعد الدین : لیس کلّ من لقی النبی بالخیر موسوماً ، إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله ، ذکروا لها محامل وتأویلات بها تلیق ، وذهبوا إلى أنّهم محدودون عمّا یوجب التضلیل والتفسیق ، صوناً لعقائد المسلمین عن الزلل والضلاله فی حقّ کبار الصحابه ، سیّما المهاجرین منهم والانصار ، والمبشّرین بالثواب فی دار القرار (۷).
ففی هذا النص اعتراف بفسق کثیر من الصحابه ، واعتراف بأنّهم حادوا عن الحق ، بأنّهم ظلموا ، بأنّهم کانوا طلاّب الملک والدنیا ، وبأنّهم وبأنّهم ، إلاّ أنّه لابدّ من تأویل ما فعلوا ، لحسن الظنّ بهم !!
فظهر أنّ الاجماع المدّعى على عداله الصحابه کلّهم ، هذا الاجماع فی غیر محلّه وباطل ومردود ، ولاسیّما وأنّ مثل سعد الدین التفتازانی وغیره الذین یصرّحون بمثل هذه الکلمات ، هؤلاء مقدّمون زماناً على ابن حجر العسقلانی ، فدعوى الاجماع من ابن حجر ، هذه الدعوى ، مردوده ، ولا أساس لها من الصحه.
حینئذ یأتی دور البحث عن أدلّه القول بعداله الصحابه أجمعین ، أی أدلّه القول الاوّل.
الاستدلال بالکتاب والسنّه على عداله جمیع الصحابه
استدلّ القائلون بهذا القول ، بآیات من القرآن الکریم ، وبأحادیث ، وبأمر اعتباری ، فتکون وجوه الاستدلال لهذا القول ، ثلاثه وجوه : الکتاب ، السنّه ، والامر الاعتباری.
لنقرأ نصّ عباره الحافظ ابن حجر ، عن الحافظ الخطیب البغدادی ، فی مقام الاستدلال على هذه الدعوى.
یقول الحافظ ابن حجر : أنّ الخطیب فی الکفایه ـ فی کتابه الکفایه فی علم الدرایه ـ أفرد فصلاً نفیساً فی ذلک فقال :
عداله الصحابه ثابته معلومه ، بتعدیل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختیاره لهم ، فمن ذلک قوله تعالى :
الایه الاُولى : ( کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّه أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (۸).
الایه الثانیه : ( وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّهً وَسَطاً ) (۹).
الایه الثالثه : ( لَقَدْ رَضِیَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِینَ إذْ یُبَایِعُونَکَ تَحْتَ الشَّجَرَهِ فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمْ ) (۱۰).
الایه الرابعه : ( السَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَالاَْنْصَارِ وَالَّذِینَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَان رَضِیَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (۱۱).
الایه الخامسه : ( یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ حَسْبُکَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ ) (۱۲).
ثمّ الایه الاُخرى : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِینَ الَّذِینَ أُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ یَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَینْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِکَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) إلى قوله تعالى : ( إِنَّکَ رَؤُوفٌ رَحِیمٌ ) (۱۳) ، فی آیات یطول ذکرها.
ثمّ أحادیث شهیره ، یکثر تعدادها ، وجمیع ذلک یقتضی القطع بتعدیلهم ، ولا یحتاج أحد منهم مع تعدیل الله له إلى تعدیل أحد من الخلق (۱۴).
إذن ، تمّ الاستدلال بالکتاب والسنّه.
وامّا الاستدلال الاعتباری ، لاحظوا هذا الاستدلال أنّه یقول :
على أنّهم لو لم یرد من الله ورسوله فیهم شیء ممّا ذکرناه ، لاوجبت الحال التی کانوا علیها ، من الهجره والجهاد ونصره الاسلام وبذل المهج والاموال وقتل الاباء والابناء ، والمناصحه فی الدین وقوّه الایمان والیقین ، أوجب کلّ ذلک القطع على تعدیلهم ، والاعتقاد بنزاهتهم ، وأنّهم کافّهً أفضل من جمیع الخالفین بعدهم ، والمعدّلین الذین یجیؤون من بعدهم ، هذا مذهب کافّه العلماء ومن یعتمد قوله.
ثمّ روى الخطیب البغدادی بسنده إلى أبی زرعه الرازی قال : إذا رأیت الرجل ینتقص أحداً من أصحاب رسول الله ( صلى الله علیه وسلم ) فاعلم أنّه زندیق ، وذلک أنّ الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وإنّما أدّى إلینا ذلک کلّه الصحابه ، وهؤلاء یریدون أنْ یجرحوا شهودنا ، لیبطلوا الکتاب والسنّه ، والجرح بهم أولى وهم زنادقه (۱۵).
إذن الدلیل آیاتٌ من القرآن ، وروایات ، وهذا الدلیل الاعتباری الذی ذکرناه.
نصّ العباره ینقلها الحافظ ابن حجر ویعتمد علیها ، ثمّ یضیف الحافظ ابن حجر بعد هذا النص ، یقول : والاحادیث الوارده فی تفضیل الصحابه کثیره.
وفرق بین هذه العباره ، وبین المدعى ، کان المدّعى عداله الصحابه کلهم ، لکنْ تبدّل العنوان ، وأصبح المدّعى : الاحادیث الوارده فی تفضیل الصحابه کثیره.
ثم قال ابن حجر : من أدلّها على المقصود : ما رواه الترمذی وابن حبّان فی صحیحه من حدیث عبدالله بن مغفل قال : قال رسول الله ( صلى الله علیه وسلم ) : « الله الله فی أصحابی ، لا تتّخذوهم غرضاً ، فمن أحبّهم فبحبّی أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضی أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذانی ، ومن آذانی فقد آذى الله ، ومن آذى الله فیوشک أنْ یأخذه » (16).
فهذا حدیث من تلک الاحادیث التی أشار إلیها الخطیب البغدادی ، ولم یذکر شیئاً منها ، إلاّ أنّ أدلّها وأحسنها فی نظر ابن حجر العسقلانی هذا الحدیث الذی ذکره.
مناقشه الاستدلال :
فنحن إذن لابدّ وأنْ نبحث عن هذه الادلّه ، لنعرف الحقّ من غیره فی مثل هذه المسأله المهمّه.
قبل الورود فی البحث عن هذه الادلّه ، أُضیف أنّهم على أساس هذه الادلّه یقولون بحجیّه سنّه الصحابه ، ویقولون بحجیّه مذهب الصحابی ، ویستدلّون بهذه الادلّه من الایات والاحادیث ، مضافاً إلى حدیث یعتمد علیه بعضهم فی الکتب الاُصولیّه ، وإنْ کان باطلاً من حیث السند عندهم کما سنقرأ ، وهو : « أصحابی کالنجوم فبأیّهم اقتدیتم اهتدیتم ».
یدلّ هذا الحدیث على أنّ کلّ واحد واحد من الصحابه یمکن أن یُقتدى به ، وأن یصل الانسان عن طریق کلّ واحد منهم إلى الله سبحانه وتعالى ، بأن یکون واسطه بینه وبین ربّه ، کما سنقرأ نصّ عباره الشاطبی.
وبهذا الحدیث ـ أی حدیث أصحابی کالنجوم ـ تجدون الاستدلال فی کتاب المنهاج للقاضی البیضاوی ، وفی التحریر لابن الهمام وفی مسلّم الثبوت وإرشاد الفحول وغیر ذلک من الکتب الاُصولیّه ، حیث یبحثون عن سنّه الصحابه وعن حجیه مذهب الصحابی ، والصحابی کما عرفناه : کلّ من لقی رسول الله ورآه ولو مرّهً واحدهً وهو یشهد الشهادتین.
بل استدلّ الزمخشری بحدیث أصحابی کالنجوم فی تفسیره الکشّاف ، یقول : فإنْ قلت : کیف کان القرآن تبیاناً لکلّ شیء [ لانّ الله سبحانه وتعالى یصف القرآن بأنّه تبیان لکلّ شیء ، فإذا کان القرآن تبیاناً لکلّ شیء ، فلابدّ وأنْ یکون فیه کلّ شیء ، والحال لیس فیه کثیر من الاحکام ، لیس فیه أحکام کثیر من الاشیاء فیجیب عن هذا السؤال : ] قلت : المعنى : إنّه بیّن کلّ شیء من أُمور الدین ، حیث کان نصّاً على بعضها ، وإحاله على السنّه حیث أمر باتّباع رسول الله ( صلى الله علیه وسلم ) وطاعته وقال : ( وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) (۱۷) ، وحثّاً على الاجماع فی قوله : ( وَیَتّبِع غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ ) (۱۸) ، وقد رضی رسول الله لاُمّته اتّباع أصحابه والاقتداء بآثاره فی قوله : « أصحابی کالنجوم بأیّهم اقتدیتم اهتدیتم » ، فمن ثمّ کان القرآن تبیاناً لکلّ شیء (۱۹).
وأمّا التحقیق فی الادلّه التی ذکرها الخطیب البغدادی ، وارتضاها ابن حجر العسقلانی ، وحدیث أصحابی کالنجوم ، فیکون على الترتیب التالی :
الایه الاُولى : قوله تعالى : ( کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّه أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ ) (۲۰).
أولاً : الاستدلال بهذه الایه لعِداله الصحابه أجمعین موقوف على أنْ تکون الایه خاصه بهم ، والحال أنّ کثیراً من مفسّریهم یقولون بأنّ الایه عامّه لجمیع المسلمین.
لاحظوا عباره ابن کثیر یقول : والصحیح أنّ هذه الایه عامّه فی جمیع الاُمّه (۲۱).
ثانیاً : قوله تعالى : ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ ) فی ذیل الایه المبارکه حکمه حکم الشرط ، أی إنْ کنتم ، أی ما دمتم ، وهذا شیء واضح یفهمه کلّ عربی یتلو القرآن الکریم ، ونصّ علیه المفسّرون ، لاحظوا کلام القرطبی : ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ ) مدحٌ لهذه الاُمّه ما أقاموا على ذلک واتّصفوا به ، فإذا ترکوا التغییر ـ أی تغییر الباطل ـ وتواطؤوا على المنکر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم ، وکان ذلک سبباً لهلاکهم (۲۲).
وقال الفخر الرازی والنظام النیسابوری : وهذا یقتضی کونهم آمرین بکلّ معروف وناهین عن کلّ منکر ، والمقصود به بیان علّه تلک الخیریّه (۲۳).
وحینئذ نقول : کلّ من اتّصف بهذه الاوصاف ، فیکون خیر الاُمّه ، ونحن أیضاً نقتدی بهم ، وتعالوا أثبتوا لنا مَن المتصف بهذه الصفات لنقتدی به ، فیکون البحث حینئذ صغرویاً ، ویکون البحث فی المصداق ، ولا نزاع فی الکبرى ، أی لا یوجد أی نزاع فیها.
الایه الثانیه : قوله تعالى : ( وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمّهً وَسَطاً ) (۲۴).
هذه الایه مفادها ـ کما فی کثیر من تفاسیر الفریقین (۲۵) ـ أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الاُمّه الاسلامیّه أُمّه وسطاً بین الیهود والنصارى ، أو وسطاً بمعنى عدلاً بین الافراط والتفریط فی الاُمور ، فالایه المبارکه تلحظ الاُمّه بما هی أُمّه ، ولیس المقصود فیها أنْ یکون کلّ واحد من أفرادها موصوفاً بالعداله ، لانّ واقع الامر ، ولانّ الموجود فی الخارج ، یکذّب هذا المعنى ، ومن الذی یلتزم بأنّ کلّ فرد فرد من أفراد الصحابه کان ( خیر أُمّه أُخرجت للناس ) ( کذلک جعلناکم أُمّهً وسطاً ) أی عدلاً ، ومن یلتزم بهذا ؟
إذن ، لا علاقه للایه المبارکه بالافراد ، وإنّما المقصود من الایه مجموع الاُمّه من حیث المجموع.
الایه الثالثه : ( لَقَدْ رَضِیَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِینَ إِذْ یُبَایِعُونَکَ تَحْتَ الشَّجَرَهِ فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّکِینَهَ عَلَیْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِیباً ) (۲۶).
أوّلاً : هذه الایه مختصه بأهل بیعه الرضوان ، بیعه الشجره ، ولا علاقه لها بسائر الصحابه ، فیکون الدلیل أخص من المدّعى.
ثانیاً : فی الایه المبارکه قیود ، فی الایه رضا الله سبحانه وتعالى عن المؤمنین ، الذین بایعوا ( لَقَدْ رَضِیَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِینَ إِذْ یُبَایِعُونَکَ تَحْتَ الْشَّجَرَهِ ) ، ثمّ إنّ هناک شرطاً آخر وهو موجود فی القرآن الکریم ( إِنَّ الَّذِینَ یُبَایِعُونَکَ إِنَّمَا یُبَایِعُونَ اللهَ یَدُ اللهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ فَمَنْ نَکَثَ فَإِنَّمَا یَنْکُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ … ) إلى آخر الایه (۲۷).
قال المفسرون کابن کثیر والزمخشری وغیرهما : إنّ رضوان الله وسکینته مشروطه بالوفاء بالعهد وعدم نکث العهد (۲۸).
فحینئذ ، کلّ من بقی على عهده مع رسول الله فنحن أیضاً نعاهده على أنْ نقتدی به ، وهذا ما ذکرناه أوّلاً فی بدایه البحث.
الایه الرابعه : قوله تعالى : ( واَلسَّابِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَالاَْنْصَارِ وَالَّذِینَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَان رَضِیَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِی تَحْتَهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا أَبَداً ) (۲۹).
والاستدلال بهذه الایه لعداله عموم الصحابه فی غیر محلّه ، لانّ موضوع الایه ( السَّابِقُونَ الاَْوَّلُونَ ) ، وأیّ علاقه بعموم الصحابه ؟ تریدون من هذه الایه أنْ تثبتوا عداله مائه ألف شخص بالاقل ، وهی تقول ( السَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ ).
حینئذ من المراد من السابقین الاوّلین؟ قیل : أهل بدر ، وقیل : الذین صلّوا القبلتین ، وقیل : الذین شهدوا بیعه الشجره.
کما اختلفوا أیضاً فی معنى التابعین ( وَالَّذِینَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان ) على أقوال عدیده موجوده فی تفاسیرهم (۳۰).
وأخرج البخاری عن البراء بن عازب قیل له : طوبى لک ، صحبت النبی وبایعته تحت الشجره ، قال : إنّک لا تدری ما أحدثنا بعده (۳۱).
وإقرار العقلاء على أنفسهم حجه !!
ولیس المقرّ بذلک هو البراء وحده ، بل هذا وارد عن جمع من الصحابه وفیهم عائشه ، ولا یخفى اشتمال اعترافهم على الاحداث ، وهو اللفظ الذی جاء فی الصحاح عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فی أحادیث الحوض الاتیه.
الایه الخامسه : ( یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ حَسْبُکَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ ) (۳۲).
هذه الایه لو راجعتم التفاسیر لرأیتموها نازلهً فی واقعه بدر بالاتفاق ، وفی معنى الایه قولان :
القول الاول : أی یکفیک الله والمؤمنون المتّبعون لک.
القول الثانی : إنّ الله یکفیک ویکفی المؤمنین بعدک أو معک.
وکأنّ الاستدلال ـ أی استدلال الخطیب البغدادی ـ یقوم على أساس التفسیر الاوّل ، وإذا کان کذلک ، فلابدّ وأنْ یؤخذ الایمان والاتّباع والبقاء على المتابعه لرسول الله بعین الاعتبار ، ونحن أیضاً موافقون على هذه الکبرى ، وإنّما البحث سیکون بحثاً فی المصادیق.
الایه السادسه : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِینَ الَّذِین أُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ یَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَیَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِکَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِین تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالاِیمَانَ مِنْ قَبْلِهمْ یُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَیْهِمْ وَلاَ یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمْ حَاجَهً مِمَّا أُوتُوا وَیُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ کَانَ بِهِمْ خَصَاصَهً وَمَنْ یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِینَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ یَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِخْوَانِنَا الَّذِینَ سَبَقُونَا بِالاِْیْمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِی قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِینَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّکَ رَؤُوفٌ رَحِیمٌ ) (۳۳).
هذه کلّ الایات.
واستدلّ الخطیب البغدادی وابن حجر العسقلانی بهذه الایات المبارکه ، وفیها قیود وصفات وشروط وحالات ، فکلّ من اجتمعت فیه هذه الصفات والحالات فنحن نقتدی به ، لکن لابدّ وأنْ تکون الایه ناظره إلى عموم الاُمّه الاسلامیّه ، وإلاّ فکلّ فرد فرد من الاُمّه ، وحتّى من الصحابه ، یکون قد اجتمعت فیه هذه الصفات والحالات ؟ هذا لا یدّعیه أحد ، حتى المستدل لا یدّعیه.
بقی الکلام فی الحدیث الذی استدلّ به ابن حجر العسقلانی ، لانّ الخطیب لم یذکر حدیثاً !
الحدیث الاول : « الله الله فی أصحابی لا تتخذوهم غرضاً ، فمن أحبّهم فبحبّی أحبّهم ومن أبغضهم فببغضی أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذانی ، ومن آذانی فقد آذى الله فیوشک أن یأخذه ».
قال الشاطبی حیث استدلّ بهذا الحدیث : من کان بهذه المثابه حقیق أنْ یتَّخذ قدوه وتجعل سیرته قبله (۳۴).
ونحن أیضاً نقول : من کان بهذه المثابه ، حقیق أن یتّخذ قدوه وتجعل سیرته قبله.
وهل کلّ فرد فرد من الاصحاب یکون الانسان إذا أحبّه فقد أحبّ رسول الله ، وإذا أبغضه فقد أبغض رسول الله : « فبحبّی أحبّهم … فببغضی أبغضهم » ؟ کلّ فرد فرد هکذا ؟ لا أظنّ الخطیب البغدادی ، ولا ابن حجر العسقلانی ، ولا أیّ عاقل من عقلائهم یدّعی هذه الدعوى.
الحدیث الثانی : « أصحابی کالنجوم فبأیّهم اقتدیتم اهتدیتم ».
وقد أشرت إلى من استدلّ بهذا الحدیث ، بالتفسیر وعلم الاُصول ، وحتى فی الموارد الاُخرى ، وحتّى الکتب الاخلاقیّه أیضاً ، وحتّى فی الفقه یستدلّون بهذا الحدیث ، ولکن مع الاسف ، هذا الحدیث لیس بصحیح عندهم ، لاحظوا العبارات :
فی شروح التحریر ; قال أحمد بن حنبل : لا یصح (۳۵).
وفی جامع بیان العلم لابن عبد البر ; قال أبو بکر البزّار : لا یصح (۳۶).
وقال ابن حجر فی تخریج الکشّاف : أورده الدارقطنی فی غرائب مالک (۳۷).
وقال ابن حزم فی رسالته فی إبطال القیاس : هذا خبر مذکوب موضوع باطل لم یصح قط (۳۸).
وقال ابن حجر فی تخریج الکشّاف : ضعّفه البیهقی (۳۹).
وقال ابن عبد البر فی جامع بیان العلم : إسناده لا یصح (۴۰).
وذکر المنّاوی أنّ ابن عساکر ضعّف هذا الحدیث (۴۱).
وأورده ابن الجوزی فی کتاب العلل المتناهیه فی الاحادیث الواهیه.
وبیّن أبو حیّان الاندلسی ضعف هذا الحدیث فی تفسیره (۴۲).
وأورد الذهبی هذا الحدیث فی أکثر من موضع فی میزان الاعتدال ونصّ على بطلانه (۴۳).
وأبطل هذا الحدیث ابن قیّم الجوزیّه فی إعلام الموقعین (۴۴) ، وابن حجر العسقلانی فی تخریج الکشّاف المطبوع فی هامش الکشّاف (۴۵).
وذکر السخاوی هذا الحدیث فی المقاصد الحسنه وضعّفه (۴۶).
ووضع السیوطی علامه الضعف على هذا الحدیث فی کتاب الجامع الصغیر (۴۷).
وضعّفه أیضاً القاری فی شرح المشکاه (۴۸).
وأوضح ضعفه المنّاوی فی فیض القدیر (۴۹).
وفوق ذلک کلّه ، فإنّ شیخ الاسلام !! ابن تیمیّه ینصّ على ضعف هذا الحدیث فی کتاب منهاج السنّه (۵۰).
ویبقى الدلیل الاعتباری ، إنّه إذا لم نوافق على عداله کلّ فرد فرد من الصحابه ، فقد أبطلنا القرآن ، فقد أبطلنا السنّه النبویّه ، فقد بطل الدین !!
والحال إنّنا أبطلنا عداله الصحابه ، ولم یبطل الدین ، والدین باق على حاله ، والحمد لله ربّ العالمین.
یقولون هذا وکأنّ الطریق منحصر بالصحابه ؟! إنّ الطریق الصحیح منحصر بأهل البیت علیهم السلام ، وأهل البیت أدرى بما فی البیت ، أهل البیت هم القاده بعد الرسول.
_______________________________________________________
۱٫ الاصابه فی معرفه الصحابه ١ / ١٧ ـ ١٨.
۲٫ الاصابه فی معرفه الصحابه ١ / ١٩.
۳٫ الاستیعاب فی معرفه الاصحاب ١ / ٨.
۴٫ أُسد الغابه فی معرفه الصحابه ١ / ٣.
۵٫ مختصر الاُصول ٢ / ۶٧.
۶٫ شرح المقاصد ۵ / ٣١٠.
۷٫ شرح المقاصد ١ / ٣١٠.
۸٫ سوره آل عمران : ١١٠.
۹٫ سوره البقره : ١۴٣.
۱۰٫ سوره الفتح : ١٨.
۱۱٫ سوره التوبه : ١٠٠.
۱۲٫ سوره الانفال : ۶۴.
۱۳٫ سوره الحشر : ٨ ـ ١٠.
۱۴٫ الاصابه فی معرفه الصحابه ١ / ۶ عن الکفایه فی علم الروایه : ۴۶.
۱۵٫ الکفایه فی علم الروایه : ۴۶.
۱۶٫ الاصابه فی معرفه الصحابه ١ / ١٠.
۱۷٫ سوره النجم : ٣.
۱۸٫ سوره النساء : ١١۵.
۱۹٫ الکشاف فی تفسیر القرآن ٢ / ۶٢٨.
۲۰٫ سوره آل عمران : ١١٠.
۲۱٫ تفسیر ابن کثیر ١ / ٣٩٩.
۲۲٫ تفسیر القرطبی ۴ / ١٧٣.
۲۳٫ تفسیر الفخر الرازی ، تفسیر النیسابوری ٢ / ٢٣٢.
۲۴٫ سوره البقره : ١۴٣.
۲۵٫ مجمع البیان ١ / ٢۴۴ ، الکشاف ١ / ٣١٨ ، القرطبی ٢ / ١۵۴ ، النیسابوری ١ / ۴٢١ ، وغیرها.
۲۶٫ سوره الفتح : ١٨.
۲۷٫ سوره الفتح : ١٠.
۲۸٫ الکشاف ٣ / ۵۴٣ ، ابن کثیر ۴ / ١٩٩.
۲۹٫ سوره التوبه : ١٠٠.
۳۰٫ الدر المنثور ۴ / ٢۶٩ ، القرطبی ٨ / ٢٣۶ ، الکشاف ٢ / ٢١٠ ، ابن کثیر ٢ / ٣٩٨.
۳۱٫ صحیح البخاری ۵ / ١۶٠.
۳۲٫ سوره الانفال : ۶۴.
۳۳٫ سوره الحشر : ٨ ـ ١٠.
۳۴٫ الموافقات ۴ / ٧٩.
۳۵٫ التقریر والتحبیر فی شرح التحریر ، التیسیر فی شرح التحریر ٣ / ٢۴٣.
۳۶٫ جامع بیان العلم ٢ / ٩٠ ، إعلام المواقعین ٢ / ٢٢٣ ، البحر المحیط ۵ / ۵٢٨.
۳۷٫ الکاف الشاف فی تخریج احادیث الکشاف ( هامش الکشاف ) ٢ / ۶٢٨.
۳۸٫ انظر : البحر المحیط فی تفسیر القرآن لابی حیّان ۵ / ۵٢٨.
۳۹٫ الکاف الشاف ٢ / ۶٢٨.
۴۰٫ جامع بیان العلم وفضله ٢ / ٩٠.
۴۱٫ فیض القدیر فی شرح الجامع الصغیر ۴ / ٧۶.
۴۲٫ البحر المحیط ۵ / ۵٢٨.
۴۳٫ میزان الاعتدال فی نقد الرجال ١ / ۴١٣ ، ٢ / ١٠٢.
۴۴٫ إعلام المواقعین ٢ / ٢٢٣.
۴۵٫ الکاف الشاف ٢ / ۶٢٨.
۴۶٫ المقاصد الحسنه فی بیان کثیر من الاحادیث المشتهره على الالسنه : ٢۶ ـ ٢٧.
۴۷٫ الجامع الصغیر بشرح المناوی ۴ / ٧۶.
۴۸٫ المرقاه فی شرح المشکاه ۵ / ۵٢٣.
۴۹٫ فیض القدیر فی شرح الجامع الصغیر ۴ / ٧۶.
۵۰٫ منهاج السنه ٧ / ١۴٢.