المسيح عيسى بن مريم (علی نبینا و آله و علیهما السلام) جزء الثالث3
بإمكانك تقراء الجزء السابق: https://b2n.ir/h72243
الجزء الثالث
رابعها: ما بعد الولادة:
بعدما ولدت السيدة مريم(ع) رجعت تحمل وليدها على يديها إلى قومها، فلما رأوها تحمل طفلاً حديث الولادة ولم تكن امرأة متـزوجة سارعوا إلى اتهامها بالفحشاء، قال تعالى:- (فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً* يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً)[1] ، وللمفسرين كلام في تحديد المقصود من هارون الذي ورد ذكره في الآية المباركة، بعد اتفاقهم على أنه ليس شقيقاً للسيدة مريم(ع)، والذي ورد به النص عن النبي(ص) أنه رجل صالح، وقد كانت مريم تشبّه به، قال(ص): كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف الصلاح.[2]
وقد أظهر الله تعالى براءتها من خلال حصول المعجزة بكلام الطفل حديث الولادة في المهد على خلاف المتعارف، وقد تضمن كلامه(ع) أموراً ثلاثة:
1-أنه عبد الله، قد آتاه الله تعالى الكتاب وجعله نبياً.
2-أنه نبي من الأنبياء، وهو فيا لمهد، وقد آتاه الأنجيل وعلمه الحكمة.
3-ذكره جملة من الوصايا المهمة: الصلاة، الزكاة، البر بالوالدة، وعدم التجبر، وعدم الشقاء. قال تعالى:- (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلن نبياً* وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً* وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً).[3]
مصير المسيح:
لقد وقع الخلاف بين المسلمين والنصارى في مصير المسيح عيسى بن مريم(ع)، وما أنتهى إليه أمره، فالمعروف بين أكثر النصارى أنه قد قتل وصلب، وأختار جملة منهم والمسلمون عدم حصول ذلك، فهم ينفون وقوع عملية القتل، ويقررون أنه لا زال على قيد الحياة، وقد رفعه الله سبحانه وتعالى إليه، قال تعالى:- (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه في شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً* بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً).[4] والآية الشريفة صريحة الدلالة في نفي القتل والصلب عنه، وتثبت تحقق رفعه إلى السماء وأن رفعه لم يكن رفعاً معنوياً، بل كان الرفع رفعاً بالجسد والروح معاً. ولم تنف الآية حصول عملية القتل والصلب، وإنما أشارت إلى أن المصلوب شخص آخر غير المسيح عيسى(ع).
وقد وقع الكلام في سبب الاشتباه في قتلهم المسيح(ع)، فذكرت أقوال:
- أحدها: إن شبهه قد ألقي على رجل من أصحابه، فظن اليهود أنه المسيح، فأقدموا على قتله ومن ثمّ قاموا بصلبه.
وهذا يعني أن العناية الإلهية الخاصة قد تدخلت، فألقى الله تعالى شبهه على الرجل المذكور لينال سعادة الدنيا والآخرة بالشهادة.
وبكلمة، إن عملية الاشتباه لم تكن حقيقة، لأنهم فعلاً قد وجدوا شخصاً شبيهاً للسيد المسيح، وظنوا أنه هو السيد المسيح لاتفاقه وإياه في الملامح والصفات.
- ثانيها: إن اليهود قد اشتبهوا في رجل فقتلوه بزعم أنه المسيح(ع).
وهذا الوجه يحتمل أمرين:
1-أن يكون منشأ الاشتباه هو إلقاء الله تعالى صفات السيد المسيح وملامحه على الشخص المشتبه فيه، فيعود هذا القول للقول الأول.
2-أن يكون منشأ الاشتباه عدم احاطتهم بصفات السيد المسيح بصورة دقيقة، فعمدوا إلى قتل الشخص حدساً منهم أنه السيد المسيح، أو أن الصفات كانت واضحة ومعلومة لديهم، إلا أنهم أرادوا أن يقتلوا السيد المسيح فوقع القتل خطأ واشتباهاً على شخص غيره، وعلى كلا المحتملين سوف يكون هذا القول مغايراً للقول الأول.
ولا ينحصر الأمر في خصوص القولين الذين ذكرنا، بل هناك أقوال أخر يجدها القارئ عند الرجوع لكلمات الفسرين.
وكما وقع الاختلاف في منشأ الاشتباه، وقع الاختلاف أيضاً في الرجل الذي ألقي عليه شبه المسيح(ع)، أو الرجل الذي قتل عوضاً عنه، فذكرت أقوال أيضاً، فقيل: أنه يهوذا، وقيل: أنه طيفانوس، وقيل: غير ذلك.
وقد تضمنت النصوص أن زمان رفعه كان في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك.
وقد اختلف في عمره الشريف حين الرفع، والمعروف أنه ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: أنه اثنان وخمسون سنة، وقيل: أنه أربعة وستون سنة.
إن قلت: ما ذكرتموه من رفع المسيح عيسى(ع) وبقائه حياً ينافي ما جاء في القرآن الكريم، فلاحظ قوله تعالى:- (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك وافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا)[5] ، فإنها تدل صراحة على حصول الوفاة، وليس هذا إلا معنى موته وعدم بقائه على قيد الحياة، لأنه لا يقال للمتوفى أنه لا زال على قيد الحياة.
قلنا: لا كلام في اشتمال الآية الشريفة على التعبير بكلمة(متوفيك)، إلا أن الكلام في دلالة هذا التعبير على الموت من عدمه.
وإن شئت، قل: لقد تضمنت الآية الحديث عن وفاته، وليس الحديث عن مماته، وحتى تكون الآية الشريفة دالة على المدعى وهو موت المسيح عيسى(ع)، يلزم أن يكون بين التعبيرين اتحاد في المعنى، فيكون اللفظان مشيرين إلى معنى واحد، وحقيقة واحدة. أما لو كان بين المفردتين اختلاف وفرق، فلن يتم القول بموته.
والصحيح هو وجود الفرق بينهما، لأن الوفاة أعم من الموت، فإن الوفاة مأخوذة من وفى أي أخذ الشيء وافياً تاماً. فكل ما أخذ تاماً من دون نقص يقال عنه بأنه وفى. نعم من معانيها النوم، ومن معانيها الموت، وقد شاع استعمالها في الموت، لوجود جهة مشابهة في ذلك بينهما، فإن الإنسان عندما يموت يكون قد استوفى أيامه في الحياة الدنيا، فينتقل إلى العالم الآخر. ويساعد على ذلك قوله تعالى:- (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)[6] ، فإن (التي) في الآية الشريفة معطوفة على الأنفس، وعليه يكون معنى الآية الشريفة: أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها، ويتوفى الأنفس التي في منامها، فلو كان المقصود من التوفي في الآية هو الموت لن يكون معنى الآية مستقيماً، لأنه لن يكون بين الموردين فرق، إذ كلاهما قد أماته الله تعالى، فما هو وجه عرضهما بنحو الافتراق والاختلاف؟! وهذا يستدعي أن يكون المقصود من التوفي في الآية الشريفة معنى يختلف عن الموت حتى يستقيم معناها، وهذا يساعد على أن يكون المقصود منه هو المعنى اللغوي الذي ذكرناه، من الأخذ للشيء تاماً ومستوفياً لجميع أجزائه وما يرتبط به.
وعليه، سوف يكون معنى توفي عيسى(ع) أنه قد أخذ تاماً كاملاً من دون نقص، وقد أخذ بكل شيء كان مرتبطاً به، حتى قد ذكر أنه أخذت معه ملابسه الدنيوية.
وقد برر بعض الأعيان(قده) رفعه إلى السماء بأنه قد خلق من مادة أرضية متكونة من مريم العذراء، ومادة ملكوتية هي نفخة جبرائيل، وتجاذبت المادتان، فالأولى تجذب عيسى إلى عالمها، والثانية كذلك، وغلبت الثانية ورفعت عيسى(ع) إلى السماء. نعم قد أوقف هذا الرفع العلوي في خصوص السماء الرابعة، بسبب ما كان معه من حطام الدنيا، وهو مدرعة صوف، ولأن قلبه كان متوجهاً إلى أمه الحنينة الرؤوفة به، ولولا هذان الأمران ما كان لرفعه حد معين، وقد توقف في السماء الرابعة.[7]
ومقتضى التعليل المذكور جريانه في آدم(ع) فإنه أيضاً قد خلق من نفحتين مادية، وملكوتية، ومع ذلك لم يرفع للسماء، وهذا يشير إلى أن موجب الرفع من الأسرار الإلهية الخاصة، والتعليل المذكور لا شاهد عليه، ولا دليل.
المسيح في آخر الزمان:
وقد تحدثت النصوص عن نزول المسيح عيسى بن مريم(ع) في آخر الزمان، وهذا يؤكد ما ذكر من أنه لا زال على قيد الحياة، ولم يقتله اليهود. ويمكن تصنيف النصوص المتعرضة للحديث عن نزوله إلى طوائف ثلاث:
الأولى: ما تضمنته أنه ينـزل عند ظهور ولي النعمة الإمام صاحب الزمان(روحي لتراب حافر جواده الفداء).
الثانية: ما تضمنت نزوله عند خروج الدجال ليقوم بقتله.
الثالثة: ما تضمنت أن نزوله يكون من أشراط الساعة.
فمن الطائفة الأولى، ما جاء في أمالي الصدوق(ره) وغيره، عن معمر بن راشد قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: أتى يهودي النبي(ص)، فقام بين يديه يحد النظر إليه فقال: يا يهودي ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلَّه بالغمام؟ فقال له النبي(ص): إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، ولكني أقول إن آدم(ع): لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي فغفرها الله له. وإن نوحاً لما ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق فنجاه الله عنه. وإن إبراهيم(ع) لما ألقي في النار قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني منها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً. وإن موسى(ع) لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني، فقال الله جل جلاله: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى. يا يهودي، إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته النبوة. يا يهودي ومن ذريتي المهدي، إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته فقدمه وصلى خلفه[8]. ودلالته واضحة على أن المسيح(ع) إذا نزل من السماء صلى خلف الإمام صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء).
ومثله ذكر الكراجكي(ره) في التفضيل: قال: ومما نقلته الشيعة وبعض محدثي العامة أن المهدي(ع) إذا ظهر أنزل الله تعالى المسيح(ع) فإنهما يجتمعان فإذا حضرت صلاة الفرض قال المهدي للمسيح: تقدم يا روح الله يريد تقدم للإمامة، فيقول المسيح: أنتم أهل بيت لا يتقدمكم أحد فيتقدم المهدي(ع) ثم يصلي المسيح خلفه.
وقد أشير لهذا الأمر أعني صلاة المسيح(ع) بعد نزوله خلف صاحب الناحية المقدسة(عج) في كتاب كمال الدين، وغيره من المصادر الحديثية.
- ومن الطائفة الثانية، ما جاء في تفسير فرات الكوفي، عن جعفر بن محمد الفزاري، عن أبي جعفر الباقر(ع)، قال: يا خيثمة، سيأتي على الناس زمان-إلى أن قال-وحتى ينـزل عيسى بن مريم من السماء، ويقتل الدجال على يديه، ويصلي بهم رجل منا أهل البيت.
وهذا النص لم يتضمن ذكر مولاي ولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، إلا أنه قد نص على كونه شخصاً من أهل البيت(ع)، وهذا الإجمال يرفع من خلال ما تضمنته النصوص الأخرى من التصريح باسمه، فإنه لم يذكر أحد سواه. نعم قد تضمن أن الذي يتولى قتل الدجال هو المسيح عيسى بن مريم(ع)، وهذا موافق لما جاء في مصادر الجمهور، والذي عليه أعلام الطائفة أن الذي يتولى قتله هو الإمام صاحب الزمان(عج)، وعليه، لو أمكن رفع اليد عن هذا المقطع من باب التفكيك في الحجية، لو قيل به وقبل، أمكن الاستناد لبقية النص، وإلا لزم رفع اليد عنه، لتضمنه ما لا يمكن الالتـزام به من أن قاتل الدجال هو عيسى(ع).
ولا أقل من كونه معارضاً للنصوص المتضمنة أن قاتله هو ولي النعمة(عج)، والترجيح سيكون لتلك النصوص عليه.
- وأما نصوص الطائفة الثالثة، فهي ما تمسك به بعض الجمهور، إنكاراً منهم للقضية المهدوية تارة، ولصلاة المسيح خلفه بأبي وأمي مرة أخرى، ولدعوى ضعف النصوص التي تضمنت نزوله(ع) وصلاته خلفه(بأبي وأمي)، ولهذا جعل نزول المسيح لعالم الدنيا في آخر الزمان، واحدة من أشراط الساعة.
حتى أن التفتازاني، أوجد إشكالاً مفاده: كيف يصلي نبي من أنبياء أولي العزم خلف المهدي بن الحسن الذي سيظهر في آخر الزمان. قال: فما يقال إن عيسى يقتدي بالمهدي شئ لا مستند له فلا ينبغي أن يعول عليه، نعم هو وإن كان حينئذ من أتباع النبي فليس منعزلاً عن النبوة فلا محالة يكون أفضل من الإمام، إذ غاية علماء الأمة الشبه بأنبياء بني إسرائيل.
ولسنا بحاجة للرد عليه، إذ أن الرجوع لكلمات أصحابه يفيد بطلان دعواه، فقد أجاب عنه السيوطي في الحاوي للفتاوي، فقال: هذا من أعجب العجب! فإن صلاة عيسى خلف المهدي ثابتة في عدة أحاديث صحيحة بإخبار رسول الله وهو الصادق المصدق الذي لا يخلف خبره.[9]
وقد ألتـزم ابن حجر في صواعقه بتواتر النصوص الدالة على نزول المسيح عيسى(ع) من السماء، وصلاته خلف الإمام صاحب الزمان(عج)[10] ، فكيف يبقى مجال لمقولة التفتازاني.
خاتمة:
بقي أن نشير في نهاية المطاف للحديث حوله إلى نقطتين بنحو الخاتمة لهذا الموضوع، وإن كان حديث نزوله(ع) وصلاته خلف الناحية المقدسة(عج)، يحتاج بسطاً أكثر، نحيله إلى وقت آخر إن شاء الله.
الأولى: تحديد موضع نزول المسيح عيسى(ع):
وهذا ما لم تتعرض إليه النصوص، إذ لا يجد المراجع إليها إشارة فيها من قريب أو بعيد حول ذلك.
وقد احتمل بعضهم أن يكون ذلك في إحدى البلدان الغربية معللاً ذلك بتوفر أتباعه ووجودهم، والذين يدعون فيه الألوهية.
والاحتمال المذكور لا يخرج عن كونه احتمالاً، وما ذكر لا يصلح دليلاً، ولهذا لن ينفي غيره من المحتملات كإمكان نزوله في مكان آخر غير ما ذكر.
نعم تضمنت كتب الجمهور تحديد موضع نزوله، وهو دمشق، فإن تعاملنا مع ذلك على أنه قضية تاريخية أمكن الاستناد إليها، وهذا بخلاف ما لو كان قضية عقدية، فإنه يعتبر في النص صحة السند وعدم تضمنه ما لا يمكن الالتزام به.
الثانية: مدة بقائه في الأرض:
وقد اختلفت النصوص في تحديد مدة بقائه على الأرض بعد نزوله، مع اتفاقها على موته في عصر الإمام المنتظر(عج)، وأن الذي سوف يتولى الصلاة عليه هو الإمام صاحب الزمان(عج)، فحددت مدة بقائه بثلاثين سنة، كما أنها حددت بأربعين سنة. وليس مهماً جداً الإحاطة بمدة البقاء، ما دام أنه يموت بعد الانتصار المطلق للمولى ولي النعمة(بأبي وأمي).
انتهی
من موقع سماحة الشيخ محمد العبيدان القطیفی
الجزء الأول https://b2n.ir/z27993
الجزء الثاني https://b2n.ir/h72243
_________________________________
[1] سوره مریم آیات 27 تا 28 .
[2] نورالثقلین ج 4 ص 364 .
[3] سوره مریم آیات 30-32 .
[4] سوره نساء، آیات 157-158 .
[5] سوره آل عمران، آیه 55 .
[6] سوره زمر، آیه 42 .
[7] مواهب الرحمن، ج 5، ص 402 .
[8] امالی الصدوق، ص 181 .
[9] الحاوی للفتاوی، ج 2، ص 167 .
[10] الصواعق الحرقة، ص 99 .