الضرر والهلاک فی النصوص والآثار
بسم الله الرحمن الرحیم
والحمد لله، والصلاه والسلام على خیر خلقه، وأشرف بریته، محمد وآله الطاهرین، واللعنه على أعدائهم إلى قیام یوم الدین.
وبعد:
فقد جاءت الآیات الشریفه لتأمر بالتذکیر بأیام الله، وبتعظیم شعائر الله سبحانه.
قال تعالى: (ذلِکَ وَمَن یُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)(۱).
وورد عن الأئمه الأطهار (علیهم السلام) أوامر کثیره تحث على إحیاء أمرهم (علیهم السلام)، (۲) خصوصاً ذکرى عاشوراء.
ولا یصغى إلى الشبهات التی تثار حول کون عاشوراء من هذه
(۱) سوره الحج الآیه ۳۲٫
(۲) وسائل الشیعه ج ۱۴ ص ۵۰۱، والأمالی للطوسی ج ۲ ص ۲۲۸ والبحار ج ۱ ص ۲۰۰ وراجع کامل الزیارات ص ۱۷۵ وقرب الإسناد ص ۱۸ وتفسیر القمی ج ۲ ص ۲۹۲ وثواب الأعمال ص ۲۲۳٫
الصفحه ۱۰
الشعائر، أو لیست منها، فإنها لا تعدو کونها شبهه فی مقابل بدیهه، یلقیها غافل تاره، وحاقد أخرى، وجاحد تاره ثالثه.
هذا، وقد ظهرت عبر التاریخ أسالیب متنوعه تهدف إلى إحیاء أمرهم، من قبل المتمسکین بکتاب الله، الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، والمعتصمین بولایه أهل بیت النبوه، ومعدن الرساله، ومختلف الملائکه..
وکان من هذه الأسالیب: مواکب الحزن، التی قد یکون فیها لطم الخدود والصدور، وضرب الظهور بالسلاسل. وحتى جرح الرؤوس.
وهی أمور لم یستسغها البعض، فأثار عاصفه من التنفیر منها ـ زاعماً أنها من مظاهر الجهل والتخلف تاره. وأن فیها أذى للجسد أخرى، وأن الأذى یدخلها فی دائره الضرر، والضرر حرام عقلاً، وشرعاً. مدعیاً: إن حرمه الأذى کحرمه الظلم وحرمه شرب الخمر، وأکل المیته، وما إلى ذلک. بمعنى أنه کلما تحقق عنوان الضرر لحقته الحرمه.
أما قول من یقول: إن هذه الأسالیب توجب وهناً فی المذهب، وإساءهً لسمعته، وتنفیراً للناس منه.
فهو لیس موضع نقاش، لأن معناه: إن ذلک إذا لم یتعنون بهذا العنوان، فهو جائز فی حد نفسه، فتکون حرمته، أو وجوبه، أو استحبابه، أو کراهیته، رهناً بما یعرض له من عناوین، وما یترتب علیه من آثار.
لکن المهم هو اکتشاف الواقع، ومعرفه إن کانت قد تعنونت تلک المراسم بأی من تلک العناوین الموجبه لهذا الحکم أو ذاک، وربما یصیب الفقیه أو غیره فی تشخیص ذلک، وربما یخطئ.
وفی جمیع الأحوال نقول: إن هذا القول لیس هو محط نظرنا هنا.
الصفحه ۱۱
بل محط نظرنا هو الإجابه على أسئله کثیره وردت علینا حول دعوى أن الحرمه ثابته للطم المؤلم، وضرب الرؤوس، من حیث إنه ضرر، والضرر حرام شرعاً وعقلاً.
فمست الحاجه إلى معالجه هذا الموضوع، معالجهً تمیط اللثام عن الواقع والحقیقه من خلال النصوص الإسلامیه، التی لابد أن یکون أی رفض، أو قبول، مستنداً إلیها، ومرتکزاً علیها.
فتتبعنا تلک النصوص، حتى التاریخیه منها، وأوردنا منها ما یصلح أن یکون حجه ودلیلاً.
فکانت نتیجه سعینا هذا: هو هذا البحث المقتضب الذی بین یدی القارئ الکریم، فنحن نقدمه إلیه، ورجاؤنا الأکید هو أن یتحفنا بملاحظاته، وینبهنا ویلفت نظرنا إلى ما یمکن أن نکون قد غفلنا عنه، إن رأى أن هناک ما یلزم التنبیه علیه، ولفت النظر إلیه، وسوف نکون من الشاکرین.
والحمد لله، والصلاه والسلام على عباده الذین اصطفى، محمد وآله الطاهرین.
۷ / ۱۲ / ۱۴۲۲ هـ
جعفر مرتضى العاملی
الصفحه ۱۲
الصفحه ۱۳
بدایه وتوطئه:
لقد ورد إلینا سؤال عن مشروعیه جرح الرأس، وإیذاء الجسد باللطم، وبضرب السلاسل على الظهور، ونحو ذلک مما یجری فی مراسم عاشوراء، حیث إن البعض یصّر على الإعلان بتحریمه، مدعیاً أنه من الضرر الحرام، ثم هو لم یزل یرمی من یفعل ذلک بالجهل والتخلف. مع مزید من الإصرار على التشنیع على ما یجری فی موسم عاشوراء، بأسلوب مرّ وکریه، وشرس، یختزن فی طیاته خلجات وانفعالات متراکمه، تفوح منها روائح الحقد الکریه، الذی أرید التنفیس عنه بهذه الطریقه.
ومهما یکن الحال، فإن هذا الأمر یحتاج فی إیضاح وجه الحق فیه إلى جهات من البحث والبیان، نوجزها فی ضمن ما یلی من مطالب:
الفصل الأول: أدله الحرمه، وما فیها
الصفحه ۱۶
الصفحه ۱۷
توطئه:
إن من المعروف: أن الأمور کلها على الإباحه ما لم یرد الدلیل الدال على أن للمورد حکماً خاصاً به. وعلى هذا الأساس نقول: إن من یدَّعی حرمه هذا اللطم المؤلم، أو ضرب السلاسل، وجرح الرؤوس، فعلیه أن یأتی بالدلیل، لننظر فیه. وقد أورد القائلون بالتحریم، أدله على مدَّعاهم، هی:
أدله القائلین بالحرمه:
استدل القائلون بحرمه جرح الرؤوس، بالأدله التالیه:
الدلیل الأول على التحریم:
النواهی الشرعیه عن إلقاء النفس فی التهلکه. وعمده أدلتهم على ذلک(۱) هو الآیـه الشریفه: (وَأَنْفِقُوْا فِی سَبِیلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَى التّهْلُکَهِ…)(۲).
(۱) قد ذکر هذه الأدله الشیخ الأنصاری (رحمه الله) فی فرائد الأصول ج۱ ص۱۷۶ ط مؤسسه النعمان ـ بیروت سنه ۱۴۱۱ هـ.
(۲) سوره البقره ۱۹۵٫
الصفحه ۱۸
واستدلوا أیضاً بقوله تعالى: (…فَلْیَحْذَرِ الّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِیبَهُمْ فِتْنَهٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ)(۱).
وبقوله تعالى: (…وَیُحَذّرُکُمُ اللّهُ نَفْسَهُ…)(۲)، ونحو ذلک..
المناقشه:
أولاً:
إنه لیس فی اللطم العنیف، وجرح الرأس، وضرب السلاسل هلاک، لیقال: إنه إذا لطم أو جرح رأسه، فإنه یلقی بنفسه إلى التهلکه.
ثانیاً:
إنه لو سلم أن ذلک قد یحصل، فإن الحرام منه یکون خصوص ما یؤدی إلى ذلک، أو خیف أن یؤدی إلیه. أو احتمل ذلک احتمالاً یعتدّ به العقلاء، ویقفون عنده ولا یتجاوزونه، وإلا للزم تحریم رکوب الدابه، والسیاره، والقطار، والطائره، فإن احتمالات الهلاک فیها أکثر من اللطم المؤلم، وضرب السلاسل، وجرح الرأس.
ثالثاً:
إن قوله تعالى: (…وَلاَ تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَى التّهْلُکَهِ…)(۳)، ناظر إلى التهلکه فی الآخره، لأنها تتحدث عن الإنفاق فی أمر الجهاد، وأن الامتناع عن هذا الإنفاق یعرِّض الإنسان لعقاب الله سبحانه، وللهلاک فی الآخره.
رابعاً:
وأما سائر الآیات التی ذکروها دلیلاً فهی لا تدل على ذلک، إذ هی ناظره إلى العذاب الإلهی فی الآخره، کما یظهر لمن یرجع إلیها.
فإن الله سبحانه حین یحذر الناس نفسه، إنما یحذرهم من العذاب
(۱) سوره النور/ ۶۳٫
(۲) سوره آل عمرآن/ ۲۸٫
(۳) سوره البقره / ۱۹۵٫
الصفحه ۱۹
الذی یواجههم به فی الآخره.
کما أنه قد حذّرهم من الفتنه من جهه، ومن العذاب الألیم من جهه أخرى، والعذاب الألیم إنما هو فی الآخره، وأما الفتنه فلیست هی الهلاک والموت، وذلک ظاهر.
الدلیل الثانی على التحریم:
إن ضرب الرؤوس بالسیوف، والظهور بالسلاسل، ونحو ذلک فیه توهین للمذهب، ومن موجبات السخریه والاستهزاء به.
مناقشه هذا الدلیل:
ونقول: إن هذا الدلیل غیر مقبول لأکثر من جهه وسبب.
أولاً:
إنه لا یدل على الحرمه الذاتیه للجرح، والضرب بالسلاسل واللطم، بمعنى أن الضرب والجرح لو خلیِّ وطبعه فهو حرام. بل هو على ضد ذلک أدل وأظهر، لأنه یعتبر أن الحرمه إنما نشأت من عنوان عارض على الضرب، واللطم المؤلم وجرح الرأس، هو وهن المذهب، وإیجاب السخریه.
فمعنى ذلک: أن الضرب نفسه لو أوجب عز المذهب، لکان راجحاً ومطلوباً شرعاً، فأین هی الحرمه الذاتیه لنفس الضرب، واللطم، والجرح؟!.
ألیس هذا ظاهر الدلاله على أن نفس الفعل، لا اقتضاء فیه لشیء، ولکن التحریم قد کان بسبب الوجوه، والاعتبارات العارضه علیه.
الصفحه ۲۰
ولسنا نناقش فی هذا الأمر، بل هذا هو ما أفتى به فقهاؤنا، ولیس هو محل الکلام، بل هو رجوع منه عن مدعاه.
ثانیاً:
إن وظیفه الفقیه هی أن یخبر عن الحکم الشرعی، على سبیل الاشتراط والتعلیق، فیقول: إن لزم من هذا الفعل توهین المذهب، فحکمه کذا.
والمکلف هو الذی یتولى تطبیق هذا الحکم على مورده، حین یرى أنه قد تعنون بذلک العنوان.
فإن کان العنوان هو توهین للمذهب فعلاً، فإن علیه أن یلتزم بحکم التوهین، وإن کان هو الإعزاز للمذهب، فإنه یؤدی واجبه فی فعل ما فیه هذا الإعزاز.
وإذا رأى الفقیه أن المورد قد تعنون بعنوان التوهین للمذهب، فإن رؤیته هذه لا تلزم الآخرین فی شیء، بل یکون فی ذلک کواحد من الناس، یطبق لنفسه، وقد یخطئ فی التطبیق، وقد یصیب. ولیس لصفه الاجتهاد أثر فی تطبیقه هذا، ولا هی توجب میزه له.
إلا إذا کان هذا الفقیه حاکماً، ورأى أن ثمه مصلحه للإسلام فی المنع عنه، وأصدر حکماً ولائیاً ـ لا مجرد فتوى ـ فإنه یطاع فی هذه الحاله.
ولکن ذلک لا یصیّره حراماً ذاتاً، ولا قبیحاً عقلاً. بل تبقى حرمته تابعه للعناوین العارضه له.
ثالثاً:
إننا إذا أردنا مجاراه بعض الناس فی الحدیث عن التطبیقات الخارجیه، باعتبارنا من أفراد هذا المجتمع، فإننا نقول:
إن دعوى لزوم التوهین قد تکون صحیحه فی بعض المواطن، لا
الصفحه ۲۱
فی جمیعها، فلا تُقبل دعوى ذلک فی جمیع المواطن. خصوصاً فی بلاد شیعه أهل البیت (علیهم السلام). فإنه لا یلزم التوهین فی قم المقدسه مثلاً. بل یلزم من ذلک تقویه الدین وعزته.
وسیأتی المزید من توضیح هذه النقطه إن شاء الله تعالى.
الدلیل الثالث على التحریم:
إن ضرب الرؤوس، واللطم المؤلم، وضرب السلاسل، فیه إیذاء للنفس، وإضرار بها، وهو محرم عقلاً وشرعاً.
مناقشه هذا الدلیل:
ونقول: إن هذا الدلیل لا یمکن قبوله، وذلک للأمور التالیه:
أولاً:
إن من الواضح: أن جرح ولطم الإنسان نفسه وإیلامها، لیس من قبیل الظلم القبیح ذاتاً، والحرام شرعاً. إذ لو کان کذلک لم یجز الحکم باستحباب الجرح فی بعض الموارد، کالحجامه، والختان، وثقب أذن المولود.
ولم یجز نتف شعر الحاجبین للمرأه، وغیر ذلک مما ورد فی الروایات.
فإن الحرام والقبیح لا یصیر مستحباً.
وتجویز ارتکابه فی مورد التزاحم لا یغیره عن صفه القبح والحرمه الواقعیه.
کما أنه لو کان ضرراً حراماً، أو کان قبیحاً عقلاً، کالظلم، لم یجز الإقدام علیه، فی موارد المعالجه، خصوصاً فی الأمور التی هی غیر ذات أهمیه، کعملیات التجمیل، وإزاله البثور عن الجلد. ونحو ذلک.
الصفحه ۲۲
بل إن بعض أنواع هذا الجرح، ومستویاته، لیس فیه اقتضاء القبح، فلیس هو من قبیل الکذب الذی إن لم یطرأ علیه عنوان حسن، فإنه یبقى على صفه القبح الذی تقتضیه طبیعته.
بل هو خاضع فی حسنه وقبحه للعناوین الطارئه علیه، فقد یحسن، وقد یقبح، وقد یرجح، وقد یکون مرجوحاً. کما سیتضح.
وستأتی شواهد ذلک إن شاء الله تعالى.
ثانیاً:
إن جعل اللطم، والجرح من مصادیق الضرر غیر ظاهر الوجه، فإن للألم مراتب، ولا شک فی أن بعض مراتب الألم لیست ضرراً.
بل إن بعض مراتب وموارد الجرح أیضاً، لیست ضرراً فالتعمیم على سبیل ضرب القاعده، والقول بأن الضرر حرام بقول مطلق، فی غیر محله.
ثالثاً:
ما هو الدلیل على حرمه الضرر والإیذاء، فإن کان الدلیل على حرمه الضرر، هو حکم العقل بوجوب دفع ما یقطع بأن فیه مضره على الإنسان. بل حکمه بوجوب دفع الضرر المظنون، بل والمحتمل أیضاً. فهو أیضاً لا یمکن القبول به، ولا الالتفات إلیه. کما سیتضح فی الفصل التالی:
الصفحه ۲۳
الإضرار والإقدام على الضرر:
بدایه نقول:
هناک حالتان یختلف الحکم فیها:
الأولى:
الإضرار بالغیر، بأن یتعمد شخص الإضرار بالغیر، فهذا لا شک فی حرمته، بأی مستوى کان، إذ إن أی اعتداء على حقوق الناس، أو تعد على حدودهم، مرفوض وممنوع عنه شرعاً. حتى لو کان هذا التعدی للحدود بمثل غمز جسد الطرف الآخر، أو الجلوس على فراشه، أو التصرف فی آنیته، بدون إذنه، فکیف بما هو أشد من ذلک. کضربه، أو جرحه.
غیر أن الشارع قد أذن ببعض التصرفات المرتبطه بالغیر، منها ما یصل إلى حد الجرح، مثل الختان، وثقب أذن المولود. بل هو قد أذن أو أوجب القتل أیضاً ـ کما فی حالات الجهاد، والقصاص، ونحو ذلک.
الثانیه:
الإضرار بالنفس، بأن یفعل الإنسان بنفسه ما یؤلمها، ویؤذیها، أو یدخل النقص علیها، ولهذا الضرر والأذى حالات ومراتب.
فإن کان مجرد أذى وألم، فإنه لیس من الأمور التی یحکم العقل بقبحها، کما أنه لا دلیل على حرمته شرعاً. بل لقد صرح الشارع للإنسان بإیلام بل بجرح نفسه فی موارد کثیره. وستأتی أمثله ذلک.
وهذا یکشف عن أن مجرد الألم لیس ضرراً على الحقیقه، أو أنه لیس ضرراً فی أکثر موارده، وأن إطلاق الضرر علیه، فیه مسامحه. وحتى لو کان ضرراً على الحقیقه، فإنه لیس حراماً شرعاً، ولا قبیحاً عقلاً.
نعم، لو کان الضرر لیس مجرد ألم أو جرح، بل هو بمستوى قطع الأعضاء أو التسبب ببعض الأمراض الصعبه، فذلک مما لم یأذن الشارع به. إلا فی موارد معینه کما سنرى.
وبعد ما تقدم نقول:
الصفحه ۲۴
العقلاء واحتمالات الضرر:
إننا حین نراقب السلوک العام للعقلاء، وهم یواجهون المخاطر، بهدف أن نتلمس ما فیه تنوع، یفید فی إعطاء صوره عن جهات البحث وموارده، فإننا نقول:
إن العقلاء یقدمون على الکثیر من الموارد التی یحتمل فیها الهلاک، ومنها ما هو من سنن الحیاه فیهم، التی لیس فقط لم یمنع عنها الشارع، بل هو قد حث علیها، وعمل على تنظیمها، والحفاظ على استمرارها، مثل:
إقدام النساء على الحمل، مع وجود احتمال حصول الموت حال الولاده، وقد حصل ذلک بالفعل کثیراً، وقد اعتبر الشارع من تموت حال الولاده بمثابه شهیده..
وفی سیاق آخر، فإن العقلاء یمارسون رکوب القطارات، والطائرات، والسیارات, والصعود إلى مواضع خطره فی الأشجار الباسقه، أو الأبنیه الشاهقه، لمعالجه الأعمال فیها، وفی ذلک ما فیه من تعریض للنفس إلى المهالک، وقد حصل ذلک بالفعل، فهلکت أنفس کثیره، ولم یمتنع العقلاء عن تلک الأمور، کما لم یمنعهم الشارع عنها أیضاً.
بل إن بعض الناس یعطی إحدى کلیتیه لمریض آخر یعز علیه. أو فی مقابل مال یحتاج إلیه.
وهذا یدل على أن احتمال الضرر ـ ولو کان هذا الضرر هو الهلاک ـ لا یوجب امتناع العقلاء عن السعی نحو أهدافهم، فکیف إذا کان هذا الضرر، مجرد جرح، لا یلبث أن یندمل، أو ألم لا یلبث أن یزول.
فلو کان ذلک مما تمنعه العقول، لتوقفت کثیر من الأعمال، ولفشلت کثیر من الخطط.
الصفحه ۲۵
وهذا یدل على أن ثمه حیثیات أخرى تدخل فی حسابات العقلاء، فی إقدامهم وإحجامهم، حیث یکون للمنافع والمضار، وللعناوین العامه، وغیر ذلک دور فی القبول وأثر فی الرفض، وأثر فی الإقدام والإحجام.
العقلاء والضرر المحتم:
بل إننا نشاهد فی هذه العقود المتأخره، فریقاً من الناس یقدمون على أمور فیها الهلاک المحتم لأنفسهم، مثل الإضراب عن الطعام حتى الموت، وذلک من أجل الضغط على حکامهم لتلبیه مطالب لهم، معیشیه، أو سیاسیه، أو غیرها. ولا یستقبح ذلک الناس منهم، ولا ینکرونه علیهم، بل هم یعطونهم کل الحق فی ذلک.
بل أصبح ذلک من الأسالیب الشائعه. فلو کان قبیحاً عقلاً لوجب أن یکون الأمر مختلفاً.
الشرع لا یشرع القبیح:
وواضح: أن الأمور القبیحه عقلاً، لا یمکن أن یشرعها الله سبحانه، ولا أن یأمر أنبیاءه بممارستها، فهو تعالى لا یأمر بالظلم، ولا بکفران النعمه، ولا بالإساءه إلى محسن.
وها نحن نجد أن الله تعالى، قد أمر نبیه إبراهیم (علیه السلام) بذبح ولده النبی إسماعیل (علیه السلام)، رغم أن مقام النبی إسماعیل (علیه السلام) هو مقام النبوه.
ولم یطلب النبی إبراهیم (علیه السلام) من ربه البیان، ولا اعترض النبی إسماعیل (علیه السلام)، على أبیه، بأن هذا الذی ترید أن تفعله قبیح شرعاً، فکیف تقدم علیه، وکیف یمکن أن یأمرک الله تعالى به.
الصفحه ۲۶
قاعده وجوب دفع الضرر:
وعلى کل حال، فإن القدر المتیقن هو وجوب دفع الضرر، فی صوره ما إذا کان الضرر کبیراً یصل إلى حدّ التسبیب بالهلاک، أو الابتلاء بمرض صعب، دون أن یکون فی مقابل ذلک ما هو أهم وأعظم. من المصالح والقضایا التی تحتم علیهم التضحیه والإقدام.
وذلک موضع إجماع، کما ذکره علماؤنا قدس الله أسرارهم(۱). ویمکن القبول بأن مقتضی الحرمه موجود، کالحفاظ على النوع الإنسانی، أو نحو ذلک. إلا إذا زوحم بمقتضی آخر أقوى منه، فالتأثیر یکون للأقوى.
ولکن الضرر الذی هو دون ذلک، کالجرح الیسیر الذی لا یؤدی إلى إتلاف عضو، والمرض الیسیر کالزکام ونحوه، فقد یقال: إن العقل لا یحکم بلزوم دفعه، ولیس فیه اقتضاء لشیء بعینه، بل الأمر تابع فیه للعناوین والحالات الطارئه. فی کل مورد بخصوصه.
للتوضیح فقط:
ولمزید من التوضیح لمراتب الضرر وحالاته، نقول:
۱ ـ إن هناک ما هو قبیح ذاتاً، فلا یمکن أن یکون حسناً، مهما طرأ علیه من أحوال. وذلک مثل الظلم، ومجازاه الإحسان بالإساءه، وهناک ما هو حسن کذلک کالعدل وشکر المنعم. فإن الظلم قبیح فی جمیع
(۱) راجع: الجواهر ج۵ ص۱۰۴ و۱۰۵٫
الصفحه ۲۷
الأحوال، بمجرد وجوده وتحقق عنوانه. والعدل حسن کذلک. ویستحیل أن یکون الظلم حسناً، والعدل قبیحاً.
وجرح النفس واللطم لیس من هذا القبیل حتماً وجزماً، فقد یکون الجرح حسناً ومحبوباً للشارع، کالحجامه ونحوها.
۲ ـ هناک ما فیه اقتضاء القبح، بمعنى أنه لو خلی وطبعه، لکان على ما هو علیه من الاقتضاء المؤثر. إلا إذا زاحمه مقتضٍ آخر، کأن طرأ علیه عنوان یحبه الشارع، فإنه یصیّره بذلک حسناً، وذلک کالکذب، فإنه إذا طرأ علیه عنوان نجاه نبی من القتل مثلاً، فإن اقتضاءه للحرمه یزول، ویحل محله اقتضاء آخر، فیصیر نفس الإخبار بخلاف الواقع حسناً وواجباً.
وکذلک الحال بالنسبه إلى ما یکون فیه اقتضاء الحسن، کالصدق مثلاً. فقد یصبح حراماً، کالمثال المذکور آنفاً.
وقتل النفس من هذا القبیل، فإنه لیس قبیحاً ذاتاً. إذ لو کان کذلک لم یصح الأمر به على سبیل العقوبه، أو القصاص، ولم یصح أمر الله سبحانه نبیه إبراهیم (علیه السلام). فإن القبیح ذاتاً لا یمکن أن یصبح حسناً أصلاً، تماماً کما هو الحال فی الظلم مثلاً، فإنه کلما وجد، یوجد على صفه القبح، وحین یزول عنه القبح، فإنه لا یعود ظلماً، بل یصیر عدلاً، أو إحساناً.
وقطع الأعضاء أیضاً کذلک، فإن فیه اقتضاء القبح، ولکن إذا توقف العلاج على قطعها، أصبح ذلک سائغاً، وربما لازماً، وواجباً أیضاً.
۳ ـ وهناک ما لا اقتضاء فیه لحسن ولا لقبح، بل هو فی ذلک تابع للعناوین التی تطرأ علیه، وذلک مثل القیام، الذی قد یکون مبغوضاً حراماً، کما إذا کان تعظیماً لفاجر، وقد یکون راجحاً محبوباً کما إذا کان تعظیماً لمؤمن.
الصفحه ۲۸
وبعدما تقدم نقول:
قد یقال: إن ما یفعله الناس فی حیاتهم العادیه, مما یسبب لهم تعباً، ونصباً، کقلع الصخور، وحمل الأثقال، والعمل فی الحقول حتى تجرح آلات العمل أیدیهم، وتلفح الشمس وجوههم، وکذا ما یدخل فی سیاق أهدافهم العقلائیه مثل: ثقب الأنوف والآذان، لتعلیق الخزائم، والأقراط، وکذلک الختان، ونتف النساء لشعر الحاجبین، أو نتف شعر الأنف والإبطین. وکذلک الوشم، وغیر ذلک، إن ذلک کله.
قد یقال: إنه من هذا القسم الأخیر، مع أنه یتضمن جرحاً، ووخزاً بالأبر، وألماً. فإن تَعَلُق غرضهم بهذا الأمر، هو الذی جعل الإقدام علیه راجحاً بنظرهم، إذ أنهم لا یفعلون ذلک من أجل العبث واللهو.
ولیس ترک بعضهم لمثل هذه الأعمال، لأجل أن عقولهم قد منعتهم، من حیث إنها تحکم بقبحها ذاتاً، وإنما استثقالاً منهم للألم، وإیثاراً للراحه، وحباً بها، أو لعدم میلهم إلى تلک الأمور، لأنهم لا یرون لها قیمه تذکر.
وفیما بین هذین الحدین: أعنی قتل النفس من جهه، ونتف الشعر أو الوشم وثقب الأذن من جهه أخرى. مراتب بعضها أشد من بعض، ومنها المرض الیسیر کالزکام، الذی حکم کثیر من الفقهاء(۱) بأنه لا یسوِّغ الانتقال من الوضوء إلى التیمم.
(۱) جواهر الکلام ج۵ ص۱۰۵ عن المعتبر، والمبسوط، وظاهر تحریر الأحکام، والشرایع بل فی المبسوط نفی الخلاف عنه وعن الخلاف والمنتهى: بل ربما استظهر الإجماع علیه. والموجود فیهما المرض لا یخاف منه التلف، ولا الزیاده فیه وذهب إلیه صاحب الجواهر أیضاً.
الصفحه ۲۹
ومن هذه المراتب، ما ورد عن الشارع الأمر به استحباباً، أو طلباً لتأکید حاله الصحه والسلامه البدنیه، مثل ما ورد من الحث على الحجامه، أو الأمر بالفصاد، والختان، وثقب الأذن، ونحو ذلک مما فیه جرح وإدماء(۱).
وجرح الرؤوس فی مراسم عاشوراء، وکذلک ضرب السلاسل، فضلاً عن اللطم، لیس بأشد من أمر الحجامه، فضلاً عما هو أعظم منها کما سنرى. فکیف یدَّعى أن ذلک حرام ذاتاً، أو قبیح عقلاً، وأنه من الضرر الواجب دفعه؟! إن هذه الدعوى فیها الکثیر من المجازفه. خصوصاً إذا لاحظنا أنه لا یترتب على هذه الأفعال، لا هلاک، ولا مرض، بحسب العاده.
وفی مختلف الأحوال. فإن ذلک کله إذا تعنون بعنوان راجح: واجب أو مستحب، فإنه یأخذ حکم ذلک العنوان. وإذا تعنون بما هو مبغوض ومرجوح، فکذلک.
(۱) ویلاحظ أن الشارع الحکیم، الذی شرع أحکاماً تقوم على أساس الرفق والرحمه بالحیوان، والمنع من التعدی علیه وأذاه. قد شرع أیضاً لزوم شق سنام الإبل حین الإحرام، وفی بعض الروایات أن ذلک بمنزله التلبیه، مع أن ذلک فیه بعض الأذى لذلک الحیوان.
الصفحه ۳۰
الأدله السمعیه على حرمه الضرر
هذا کله لو کان الدلیل على حرمه الضرر المحتمل أو المظنون، أو المقطوع به، هو العقل، أما لو کان الدلیل علیه هو الأدله السمعیه، فنقول:
إنه لیس ثمه من دلیل سمعی، قادر على إثبات أن الإضرار بالنفس، وإیذاءها محرم بجمیع مراتبه، بل إن ذلک لم یقل به أحد ممن یعتد
بقوله من العلماء. فالقدر المتیقن من الإیذاء المحرم، هو ما یؤدی إلى الهلاک، أو ما کان ضرراً بالغاً، یصل إلى حد قطع عضو، أو التسبب بحدوث مرض عضال.
ولم یوردوا أدله سمعیه على ذلک سوى ما ذکرناه، من الاستناد إلى قوله تعالى: (…وَلاَ تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَى التّهْلُکَهِ…)، وقد ذکرنا فیما تقدم: أنها إنما تنهى عن الهلاک الأخروی الذی هو التعرض لغضب الله عز وجل، بسبب عدم امتثال أوامره فی الإنفاق فی الجهاد. فالتهلکه فی الآیه هی الأخرویه. وهناک إشکالات أخرى على استدلالهم بهذه الآیه تقدمت، فلا حاجه لإعادتها.
واستدلوا له أیضاً بقوله تعالى: (…وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ إِنّ اللّهَ کَانَ بِکُمْ رَحِیماً)(۱). حیث دل على حرمه قتل النفس، ولا سیّما بملاحظه الآیه التالیه لها، وهی قوله تعالى: (وَمَن یَفْعَلْ ذلِکَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِیهِ نَاراً وَکَانَ ذلِکَ عَلَى اللّهِ یَسِیراً).
ولکن فی دلاله هذه الآیه أیضاً مناقشات. لکن الذی یهون الخطب، هو: أن حرمه أنْ یقتل الإنسان نفسه، مما لا ریب فیها، ولا شبهه تعتریها، حتى إنها قد تلحق بالضروریات.
فلا حاجه إلى إقامه الأدله على ذلک، ولا ضروره للنقض والإبرام فیها.
وأما ما دون القتل من مراتب الأذى، فلا یمکن الحکم بحرمته بصوره قاطعه، بل لا شک فی جواز بعض مراتبه کما ظهر مما تقدم، وسیزید وضوح ذلک فیما یأتی أیضاً.
(۱) سوره النساء ۲۹ ـ ۳۰٫
الصفحه ۳۱
الفصل الثانی:الضرر والهلاک فی النصوص والآثار
الصفحه ۳۲
الصفحه ۳۳
ما یؤدی إلى نقصٍ أو هلاک. فی النصوص والآثار.
قد أشرنا فی المطالب المتقدمه، إلى کثیر مما یفید فی استفاده حکم إلحاق الإنسان بنفسه الأذى والألم، وحتى الجرح.
ونقول هنا:
إن هذا الذی ذکرناه توضحه نصوص کثیره، تفوق حد التواتر، وهی على درجه کبیره من التنوع، فی سیاقاتها، وفی مضامینها، کلها تدل على أن الضرر ذو مراتب، وعلى أن ما کان من مراتبه محکوماً بالحرمه، فلیس لأجل أن حرمته ذاتیه، أو لأنه قبیح عقلاً، بل هو تابع فی ذلک لما یعرض له من عناوین، وأنه قد تعرض علیه عناوین مختلفه الأحکام، فمنها ما هو حرام، ومنها ما هو واجب، ومنها المستحب والمکروه، والمباح.
بل قد قلنا: إنه حتى قتل النفس، لیس حراماً ذاتاً، وإنما المیزان هو ما یطرأ علیه من عناوین. ولذلک أمر الله تعالى نبیه إبراهیم (علیه السلام) بذبح ولده. کما أن الشارع قد أوجب هذا القتل، کما فی صوره القصاص، وکما فی قوله تعالى، مخاطباً بنی إسرائیل:
الصفحه ۳۴
(…فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِکُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ…)(۱).
وعلى کل حال، فإن ثمه نصوصاً کثیره قد تحدثت عن حکم ما فیه أذى وجرح، قد یصل إلى حد إتلاف بعض الأعضاء، أو فوق ذلک، أو دونه. کما سنرى وهناک نصوص تحدثت أیضاً عما فیه خوف ضرر تاره, وعما فیه خوف هلاک أخرى.
وهی نصوص تضمنت أقوالاً، وأفعالاً، للأئمه أنفسهم (علیهم السلام) تاره, وفی حضورهم أخرى.
وفی تلک النصوص الحدیث المرسل والمسند، وفیها الصحاح والحسان، وغیر ذلک.
وکلها تؤکد حقیقه واحده، وتشیر على أمر فارد، وهو أن جمیع ذلک لیس قبیحاً عقلاً، وأن فی بعضه اقتضاء للقبح، قد یزیله ویحل محله مقتضٍ آخر، وقد یبقى على حاله. وبعضه لا دلیل على وجود اقتضاء ذلک فیه أصلاً.
وکلا الصنفین یکون خاضعاً فی موارده للعناوین الطارئه، وتابعاً فی أحکامه، للوجوه والاعتبارات المختلفه. فإذا کان جرح الرأس، واللطم وغیر ذلک من موارد ومصادیق إحیاء أمرهم (علیهم السلام)، الذی ورد الأمر به عنهم، ومنهم (علیهم السلام) فإن ذلک الضرب والجرح والألم یصبح من الأمور المحبوبه والمطلوبه لله تعالى.
بل لقد صدر عن الأنبیاء والأئمه (علیهم السلام)، أو بحضورهم کما
(۱) سوره البقره ۵۴٫
الصفحه ۳۵
نطقت به النصوص والآثار الآتیه، ما هو أعظم من اللطم، أو جرح الرؤوس:
وکفى شاهداً على ذلک ما فعله النبی یعقوب بنفسه (على نبینا وآله وعلیه الصلاه والسلام) حین بکى على ولده، حتى ابیضت عیناه من الحزن. وکاد أن یهلک کما قال له أبناؤه.
وقال له أبناؤه: (قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْکُرُ یُوسُفَ حَتّى تَکُونَ حَرَضاً أَوْ تَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ)(۱).
وهذا خیر دلیل على أن فعل ما یؤدی إلى العمى أو إلى الهلاک، لیس قبیحاً عقلاً، ولا هو حرام ذاتاً، بل هو تابع للعناوین التی تَعْرُضُ له، أو توجب المصیر إلیه.
فإلى ما یلی من نصوص وآثار تظهر هذه الحقیقه وتؤکدها. وسوف نحاول أن نتجنب قدر الإمکان ما یرتبط بمراسم عاشوراء، فنقول:
المعصوم واحتمال الضرر الکبیر والهلاک:
إننا إذا انتقلنا إلى عالم النصوص الوارده عن النبی وأهل بیته الطاهرین (صلوات الله وسلامه علیهم) أجمعین، فسوف یکون أمامنا موارد کثیره تدخل فی هذا السیاق، وتشیر إلى هذا الاتجاه، فهناک موارد أوجبها الشارع، أو مارسها أهل الشرع، بمرأى وبمسمع من المعصوم، رغم أنها قد کان فیها احتمال الهلاک ملموساً وظاهراً. أو کان فیها الضرر البالغ محققاً تاره، ومظنوناً، أو محتملاً أخرى.
(۱) سوره یوسف، الآیه ۸۴٫
الصفحه ۳۶
ونذکر من ذلک ما یلی:
۱ ـ الکلینی: عن أحمد بن محمد بن سعید، عن جعفر بن عبد الله العلوی، وأحمد بن محمد الکوفی، عن علی بن العباس، عن إسماعیل بن إسحاق، جمیعاً عن أبی روح فرج بن قره، عن مسعده بن صدقه، قال حدثنی ابن أبی لیلى، عن أبی عبد الرحمن السلمی، قال: قال أمیر المؤمنین صلوات الله علیه:
((أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنه)), إلى أن قال:
((وقد بلغنی أن الرجل منهم کان یدخل على المرأه المسلمه، والأخرى المعاهده، فینتزع حجلها، وقُلبها، وقلائدها، ورعاثها، ما تمنع (تمتنع خ.ل.) منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرین، ما نال رجلاً منهم کلم، ولا أریق له (لهم خ. ل) دم. فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما کان به ملوماً، بل کان عندی به (به عندی خ. ل) جدیراً))(۱).
فهو (علیه السلام) لا یلوم من یموت من المسلمین أسفاً لأجل سلب امرأه کافره حجلها، وقُلبها، ورعاثها، رغم أنه لیس هو مسؤولاً عن
(۱) الکافی ج۵ ص۴ ونهج البلاغه، الخطبه رقم ۲۷ والبیان والتبیین ج۲ ص۵۴ والکامل للمبرد ج۱ ص۲۰ والعقد الفرید ج۴ ص۶۶ ومصادر نهج البلاغهج۱ ص۳۹۵ـ۳۹۷ عنهم والأخبار الطوال ص۲۱۱ وأنساب الأشراف ط الأعلمی ص۴۴۲ ومعانی الأخبار ص۳۰۹ والأغانی ج۱۵ ص۴۵ والغارات ۴۷۶ ووسائل الشیعه وعن التهذیب للطوسی ج۲ ص۴۱۶ ط أمیر بهادر والبحار ط حجریه ج۸ ص۶۹۹و۷۰۰٫
الصفحه ۳۷
حمایتها، لأنها معاهده لمده على متارکه الحرب، حتى إذا انقضت تلک المده، فربما تعود إلى حرب المسلمین، وإلى السعی فی أذاهم وقتلهم.
بل إنه (علیه السلام) یرى أن من یموت أسفاً لهذا الأمر جدیرٌ بذلک. رغم أن ما جرى لهذه الکافره المعاهده هو مجرد سلب حلیها منها، دون أن تتعرض لضرب، ولا لهتک، ولا لأسر، ولا لقتل.
فإذا کان الموت أسفاً على سلب امرأه کافره غیر موجب للّوم، بل هو مما یجدر بالإنسان المسلم أن یوصله أسفه إلیه، فالموت حزناً على الحسین (علیه السلام)، وأسفاً لما جرى علیه، وعلى أصحابه لا یوجب اللوم، بل یکون فی محله. والموت فی هذه الصوره، لا یکون قبیحاً عقلاً، ولا حراماً ذاتاً، بل هو قد أخذ مشروعیته من هذا العنوان العارض علیه، فما بالک باللطم المؤلم، أو جرح الإنسان الرأس، الذی لا یؤثر على حیاه الإنسان بشیء؟!
۲ ـ قد أوجب الله تعالى جهاد العدو أو أجازه ـ ونقصد به الجهاد الابتدائی، لا الدفاعی ـ مع ما فی هذا الجهاد من احتمال القتل، أو قطع بعض الأعضاء، أو الجرح. فلو کان القتل حراماً ذاتاً، فإنه یجب التحرز عن کل ما یؤدی أو یحتمل أن یؤدی إلیه. ویکون کالظلم، الذی لا یمکن أن یکون حلالاً فی أی وقت من الأوقات، فضلاً عن أن یکون واجباً.
۳ ـ قد أمر الله سبحانه بنی إسرائیل أن یقتلوا أنفسهم، فقال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ یَا قَوْمِ إِنّکُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَکُمْ بِاتّخَاذِکُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِکُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ عِنْدَ بَارِئِکُمْ فَتَابَ عَلَیْکُمْ
الصفحه ۳۸
إِنّهُ هُوَ الْتّوّابُ الْرّحِیمُ)(۱).
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنّا کَتَبْنَا عَلَیْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِیَارِکُم مَا فَعَلُوهُ…)(۲). فلو کان القتل قبیحاً ذاتاً، لم یأمرهم الله سبحانه به.
۴ ـ وقد قال الله تعالى لنبیه: (…فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُکَ عَلَیْهِمْ حَسَرَاتٍ…)(۳).
وقال: (فَلَعَلّکَ بَاخِعٌ نّفْسَکَ عَلَى آثَارِهِم إِن لّمْ یُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِیثِ أَسَفاً)(۴).
وقال تعالى: (لَعَلّکَ بَاخِعٌ نَفْسَکَ أَلّا یَکُونُوا مُؤْمِنِینَ)(۵) فهو (صلى الله علیه وآله) یعرض نفسه لأمور صعبه، تصل به إلى حد الهلاک، من أجل أناس یعلنون الحرب علیه، ویقتلون ذویه وأصحابه، ویفتکون حتى بمثل عمه حمزه، وعبیده بن الحارث، وغیرهما ولو قدروا على قتله هو أیضاً، لاعتبروا ذلک من أعظم الأعیاد عندهم.
مع أن بإمکانه (صلى الله علیه وآله) أن لا یهتم لهذا الأمر.
وهذا یشیر إلى أن هذا المستوى من التعامل مع القضایا، أمر مسموح به، بل هو راجح، یستحق علیه رسول الله (صلى الله علیه وآله) هذه التسلیه الإلهیه، ولا یمکن أن یکون ما یفعله الرسول (صلى الله علیه وآله) من موارد
(۱) سوره البقره / ۵۷٫
(۲) سوره النساء / ۶۶٫
(۳) سوره فاطر / ۸٫
(۴) سوره الکهف / ۶٫
(۵) سوره الشعراء / ۳٫
الصفحه ۳۹
القبح العقلی، ولا هو محرم ذاتاً فی أی حال من الأحوال.
وبعد هذا، أفلا یحق لنا نحن أن نأسف إلى حد الموت لقتل الإمام الحسین (علیه السلام)، أو إلى حد إلحاق بعض الأذى والألم بأجسادنا؟.
۵ ـ قد تقدم أن الله تعالى قد أمر النبی إبراهیم (علیه السلام) بذبح ولده. وقد أطاعه ولده فی هذا الأمر. فهل یصح: أن یقال: إن الله تعالى، قد أمره بما هو قبیح عقلاً، وحرام ذاتاً؟!
۶ ـ روایه الفرار من الطاعون:
وقد أظهرت الروایات أیضاً: أن الفرار من الطاعون لیس واجباً، بل هو رخصه. وذلک معناه: أنه لا حرمه ذاتیه، ولا قبح عقلیاً، فی البقاء فی محیط الطاعون، إذا کان هناک ما هو أهم منه.
فعن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن حماد بن عثمان، عن الحلبی، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الوباء یکون فی ناحیه المصر، فیتحول الرجل إلى ناحیه أخرى، أو یکون فی مصر فیخرج منه إلى غیره؟!
فقال: ((لا بأس، إنما نهى رسول الله (صلى الله علیه وآله) عن ذلک لمکان ربیّه(۱) کانت بحیال العدو، فوقع فیهم الوباء، فهربوا منه، فقال رسول الله (صلى الله علیه وآله): الفارّ منه کالفارّ من الزحف، کراهیه أن تخلو مراکزهم))(۲).
(۱) الربیه والربیئه: العین على العدو، ولا یکون إلا على جبل، أو شرف..
(۲) الکافی ج۸ ص۹۳ ط مطبعه النجف ـ النجف الأشرف / العراق ـ والوسائل ط مؤسسه آل البیت ج۲ ص۴۲۹ و۴۳۰٫
الصفحه ۴۰
وقریب من ذلک: ما رواه الصدوق عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الولید، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن أبیه، عن فضاله، عن أبان الأحمر، عن أبی عبد الله (علیه السلام).
وثمه روایات أخرى بهذا المضمون أیضاً، فراجع(۱).
ففی هذه الروایه:
أولاً: إنه (علیه السلام) لم یحتم على ذلک السائل التحول والابتعاد عن موضع الخطر، بل قال له: لا بأس.
إلا أن یقال: إن کلمه (لا بأس) قد وردت فی مورد توهم الحظر، فهی تدل على عدم حرمه الفرار من الطاعون فی الحالات العادیه، وأما أنه واجب أو راجح أو مباح، فإنه (علیه السلام)، لم یکن بصدد بیان ذلک.
ثانیاً: إنه (علیه السلام) قد أوضح أن النبی قد حتم على ربیه أن لا تهرب من الطاعون، لکی لا تخلو تلک المراکز منهم. واعتبر ذلک کالفرار من الزحف. والمراد بالربیئه، الکمین المراقب، والراصد للعدو.
وذلک معناه: أن دفع الضرر النوعی، مقدم على دفع وتحاشی الضرر الشخصی. فلا بد من دفع الأول، ولو بقیمه تعریض النفس للثانی.
فلا یصح قولهم: إن فعل ما فیه ضرر، قبیح بحکم العقل؟!. وحرام بذاته شرعاً.
ألیس هذا یدل على أن القبح لیس ذاتیاً، وإنما الأمر مرهون بالعناوین العارضه، فقد تکون من موجبات التحریم، وقد یزول ذلک الموجب، ویحل محله ما یجعله راجحاً، بل واجباً.
(۱) معانی الأخبار ص۲۵۴ والوسائل ط مؤسسه آل البیت ج۲ ص۴۳۰ و۴۳۱ وفی هامشه عن علل الشرائع ج۲ ص۵۲۰ ومسائل علی بن جعفر ص۱۱۷٫
الصفحه ۴۱
افعل حتى لو مرضت:
۷ ـ ومما یدل على عدم الحرمه الذاتیه، وعدم القبح العقلی، لما یعتبره الناس ضرراً، ما دلَّ على لزوم القیام ببعض الأعمال، التی فیها أذى، لا یرضى الناس بتعریض أنفسهم إلیه فی الظروف العادیه.
ونذکر من ذلک:
أ: ما رواه الشیخ عن محمد بن علی، عن محمد بن الحسن، عن سعد بن عبد الله، وأحمد بن إدریس، عن أحمد بن محمد، عن الحسین بن سعید، عن النضر بن سوید، عن هشام بن سالم، عن سلیمان بن خالد، وحماد بن عیسى، عن شعیب، عن أبی بصیر. وفضاله عن حسین بن عثمان، عن ابن مسکان، عن عبد الله بن سلمیان، جمیعاً عن أبی عبد الله (علیه السلام): أنه سئل عن رجل کان فی أرض بارده، فتخوَّف إن هو اغتسل أن یصیبه عنت من الغسل، کیف یصنع؟.
قال: ((یغتسل، وإن أصابه ما أصابه))(۱).
ب: وبهذا الإسناد، عن حماد، وعن حریز، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل تصیبه الجنابه فی أرض
(۱) تهذیب الأحکام ج۱ ص۱۹۸ والاستبصار ج۱ ص۱۶۲ وسائل الشیعه ط مؤسسه آل البیت ج۳ ص۳۷۴٫
الصفحه ۴۲
بارده، ولا یجد الماء، وعسى أن یکون الماء جامداً؟ فقال:((یغتسل على ما کان)).
حدثه رجل: أنه فعل ذلک، فمرض شهراً من البرد، فقال:((اغتسل على ما کان، فإنه لا بد من الغسل))(۱).
ولعل مورد هذه الروایه هو تعمد الجنابه، بعد دخول الوقت، ومع علمه بوجود البرد، أو بفقدان الماء. فأراد (علیه السلام): أنه غیر معذور فیما أقدم علیه، من حیث إن فیه تضییعاً متعمداً للصلاه المفروضه، فجاء هذا الحکم فی حقه، على سبیل العقوبه له.
فقد حتم علیه أن یغتسل، ویتحمل آثار ما أقدم علیه.
فلو کان هذا الإقدام على الضرر قبیحاً عقلاً، وحراماً ذاتاً، لم یکن معنى لتجویزه، فضلاً عن الأمر به على نحو الإلزام.
ذبح إبراهیم (علیه السلام) لولده:
۸ ـ وقد ذکرنا فی الفصل السابق أن الله سبحانه قد أمر نبیه إبراهیم (علیه السلام) بأن یذبح ولده إسماعیل، وقد أطاع الله فی ذلک، وشارکه فی هذه الطاعه ولده إسماعیل.
حزن حتى الموت:
۹ ـ ومما له ارتباط بأحداث عاشوراء، نشیر إلى مورد واحد فقط،
(۱) تهذیب الأحکام ج۱ ص۱۹۸ والاستبصار ج۱ ص۱۶۳،ووسائل الشیعه ط مؤسسه آل البیت ج۳ ص۳۷۴٫
الصفحه ۴۳
هو ما ذکره المؤرخون أیضاً: أن الرباب بنت امرئ القیس بن عدی، زوجه الإمام الحسین (علیه السلام) قد بقیت سنه بعد الحسین (علیه السلام)، (لم یظلها سقف بیت حتى بلیت وماتت کمداً)(۱).
ومن المفترض: أن یکون هذا الأمر بمرأى وبمسمع من الإمام السجاد (علیه السلام)، لاسیما بعد أن طال علیها الأمر، ومضت الأشهر الکثیره، حتى بلیت، وهلکت.
فکیف لم ینهها (علیه السلام) عن هذا؟.
ولو أنه نهاها، فلا نظن أنها کانت تعصی له أمراً، ما دامت متفانیه فی حب أبیه سید شباب أهل الجنه، وهی لم تکن لتحب الوالد، ثم تعصی أمر ولده وسید الخلق من بعده، والذی لم تر منه إلا کل خیر ورفق ومحبه. فسکوته عنها إمضاء لفعلها، ودلیل على أن ذلک الفعل لیس قبیحاً ذاتاً، ولا حراماً شرعاً.
وقد بقیت أمثله أخرى صریحه فی تجویز أو استحباب أو إیجاب أمور فیها احتمالات الهلاک، سنشیر إلیها فی فصل: مراسم عاشورا، إن شاء الله.
(۱) الکامل لابن الأثیر ج۴ ص۳۹ المطبوع مع تاریخ القرمانی، وسکینه بنت الحسین (علیه السلام) ص۶۸، تألیف الدکتوره عائشه بنت الشاطئ. ومصادر ذلک کثیره، تجدها فی ترجمه الرباب فی مختلف کتب التراجم التی تعرضت لحالها.
الصفحه ۴۴
الجرح قد یجب وقد یستحب:
هذا. وقد ورد ما یدل على استحباب أو وجوب جرح الإنسان نفسه فی موارد عدیده. مما یعنی أن بعض موارد الجرح لا اقتضاء فیها للحرمه، فضلاً عن أن تکون من موارد الحرمه الذاتیه، أو القبح العقلی. ونذکر من هذه الموارد ما یلی:
۱ ـ الحجامه، فإنها مستحبه، والروایات فیها کثیره.
۲ ـ ثقب أذن المولود، فإن ذلک من السنه، فقد روى الکلینی بسند صحیح، عن أحمد بن محمد بن عیسى، عن محمد بن عیسى، عن عبد الله بن سنان، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال:((ثقب أذن الغلام من السنه، وختان الغلام من السنه)) (۱).
وروى علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن الحسین بن خالد قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن التهنیه بالولد متى؟
فقال: إنه قال: ((لما ولد الحسن بن علی هبط جبرئیل بالتهنیه)) إلى أن قال: ((ویعق عنه، ویثقب أذنه، وکذلک حین ولد الحسین…))الخ(۲).
۳ ـ والختان مستحب أیضاً، وروایاته کثیره، ومنها صحیحه ابن سنان المتقدمه.
وروى الکلینی أیضاً، عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن النوفلی، عن السکونی، عن أبی عبد الله عن علی (علیهما السلام):((إذا أسلم
(۱) الکافی ج۶ ص۳۶٫
(۲) الکافی ج۶ ص۳۴٫
الصفحه ۴۵
الرجل اختتن، ولو بلغ ثمانین))(۱).
وهناک روایات صحیحه أخرى، وردت فی الکافی وغیره من کتب الحدیث، تدل على استحباب الختان. فلیراجعها من أراد.
وقد یجب الختان لأجل الحج.
مع أن الختان جرح للجسد، وفیه ألم وأذى.
۴ ـ خفض النساء: وقد روی عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن هارون بن مسلم، عن مسعده بن صدقه، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قـال: ((خفض النساء مکرمه))(۲).
فالحکم باستحباب ذلک کله، أو بوجوبه، یدل على أنه لیس فقط قبیحاً عقلاً، ولا هو حرام ذاتاً، وإنما یدل على أنه لا اقتضاء فیه للحرمه أصلاً، بل تکون حرمته أو وجوبه بسبب صیرورته مورداً للعنوان الحرام أو الواجب، أو غیره.
وفی غیر السیاق المتقدم نذکر:
۵ ـ إن الزهراء (علیها السلام) کانت تطحن بالرحى حتى مجلت یداها(۳).
بل لقد قال الراوندی: (کانت فاطمه جالسه قدامها رحى، تطحن بها الشعیر، وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسین فی ناحیه الدار
(۱) الکافی ج۶ ص۳۷٫
(۲) الکافی ج۶ ص۳۴ و۳۷٫
(۳) البحار ج۴۳ ص۸۴٫
الصفحه ۴۶
یبکی)(۱).
فلو کان الإدماء، أو إلحاق الأذى، والألم بالنفس حراماً ذاتاً، أو قبیحاً عقلاً، لم یجز للزهراء (علیها السلام) أن تفعل ما یوجب ذلک.
۶ ـ إن الشارع قد حکم بجواز الفصد، وإخراج الدم. وهذا شاهد آخر على ما ذکرناه.
۷ ـ جواز نتف الشعر، الذی ورد التصریح بجوازه فی الراویات (کما فی الوسائل وغیرها).
والکلام فیه کالکلام فیما سبقه.
جواز الجرح لرغبه دنیویه:
۸ ـ وأخیراً نقول: إن الفقهاء یحکمون بجواز إجراء عملیات هدفها مجرد التجمیل، تلبیه لرغبه شخصیه ولهدف دنیوی بحت، وهو أن یصیر ذلک الشخص بعدها أکثر مقبولیه وجمالاً، بنظر الآخرین.
وقد أفتى الفقهاء بما یشیر إلى مسایره الشارع له فی ذلک، فقد حکموا بأنه یسمح بالتیمم بدلاً عن الوضوء، ویسمح له بالصلاه من جلوس، أو فی حال الاستلقاء، وأن یومئ للسجود، ویعفى له عن دم الجروح فی الصلاه أیضاً، وما إلى ذلک.
وکل ذلک یدل على أنهم یرون: أن عروض عنوان المصلحه له ـ ولو کانت شخصیه، وغیر ذات أهمیه، یکفی فی تسویغ الإقدام على هذا الجرح.
(۱) الخرائج والجرائح ج ۲ ص ۵۳۰ و۵۳۱٫
الصفحه ۴۷
فما یقال: من عدم جواز أن یجرح الإنسان نفسه، وأنه محرم، وقبیح بذاته، لا یمکن قبوله. فإن المحرم بذاته شرعاً، القبیح عقلاً، لا یمکن أن یصیر حلالاً أو حسناً، فضلاً عن أن یصبح مستحباً، أو واجباً فی بعض الموارد.
کما أننا لا نجد فی کثیر من الموارد المشار إلیها ـ کمورد الجراحه للتجمیل ـ مصلحه تلزم بالترخیص بهذا الحرام، فضلاً عن أن تجعله واجباً.
مفارقه ظاهره:
ومن الطریف هنا: أن بعض من لا یبیح جرح الرأس فی عاشوراء قد أجاز الملاکمه وغیرها من الألعاب القتالیه الخطره، والتی لا شک فی تأثیرها السلبی على سلامه الأشخاص، وعلى حیاتهم.
والمسوغ لذلک عنده هو أن لهذه المباریات غرضاً عقلائیاً!!
مع العلم بأن هذه المباریات، فضلاً عما یصاحبها من أخطار، وما ینشأ من جرح وأذى . إنما ترتکز فی کثیر من الأحیان إلى المقامرات والرهانات.