أمثله تقریبیه لنزع الروح ..

0

وفی هذه السطور الیسیره سنحاول تقریب الموقف بأمر حسّی وآخر روائی . لو تصوّرنا الریموت (Remote) الذی یتم بواسطته التحکّم بجمیع البرامج المنصوبه فی ذاکره جهاز التلفزیون، بل له القدره على نصب برامج وقنوات جدیده بحسب القدره المتاحه لجهاز الاستقبال، فهذا التصور سینفعنا فی تقریب فکره الموت.
فلنفترض أنّ المستعمِل لجهاز الریموت بمثابه ملک الموت، وانّ البرامج المنصوبه هی بمثابه الروح، وأمّا نفس الجهاز العارض ــ التلفزیون ــ بجمیع أدواته هو البدن.
لو تصوّرنا ذلک فانّ مستعمل جهاز الریموت له القدره على جذب البرنامج والقناه التی یطلبها بواسطه الریموت، فالإشاره منه هی بمثابه دعوه ملک الموت، وظهور المطلوب والمدعو هو بمثابه حصول الاستجابه لتلک الدعوه.
وهکذا الحال فی صوره استلال الروح من البدن، فانّ ملک الموت یوجه دعوته فتستجیب الروح له اضطراراً, فلا تملک غیر الاستجابه، کما أنّ تلک البرامج لا تملک من نفسها غیر الاستجابه لإشاره الریموت المنطلقه بفعل الشخص المستعمِل له.
ویمکن تقریب وتصویر ذلک ببیان أخر له جذور روائیه وإشارات معصومه، ننطلق منها بتأمّل ورویّه.
هناک جمله من الروایات تتحدّث عن أنّ الشخص الذی یحین موعده استیفاء روحه من قِبل ملک الموت یکون قد نفد کلّ ماله فی الحیاه الدنیا من طعام وشراب وهواء، کما هو الحال فی قصه الکلیم موسى (علیه السلام)، فقد روی (انّه لمّا أتاه أجله واستوفى مدّته وانقطع أکله أتاه ملک الموت …)(۱) ، وغیر ذلک ممّّا یٌفید هذا المعنى.
وعلیه فانّ الروح التی من وظائفها إعمال البدن وإداره شؤونه تحتاج إلى إمداد مستمر، ودون ذلک الإمداد سوف یفسُد الجسد فلا یمکنها بعدئذٍ البقاء فیه لحظه واحده(۲)، فإذا نفد ذلک المدد والمخزون الخاص بالعبد فانّ دعوه الموت سوف تأتیه مباشره بلا فصل، أی: إنّ الروح سوف تطلب مکاناً أخر بعد عروض التلف والفساد على البدن، وحیث انّ تعلّقها فی الحیاه الدنیا منحصر فی خصوص البدن الذی حلّت فیه فانّها سوف تضطرّ للذهاب إلى عالم ونشأه أخرى.
فانقطاع الهواء عنه ــ مثلاً ــ لنفاد رزقه سوف یعطی مُبرّراً للروح بالخروج إلى عالم ونشأه أخرى هی باطن هذا العالم المادی والذی یُسمى بالبرزخ.
وهذا یعنی أنّ الروح ذاتها لیست بحاجه إلى ذلک الهواء أو الغذاء فانّها وجود مجرد غنی عن الماده، وانّما أفعالها الإرادیه للبدن سوف تتوقّف، لأنّ ماده البدن التی تضمن استمراره هو وجود الغذاء والهواء، وعند فقدان أو نفاد ذلک تجد النفس أو الروح ذاتها مضطرّه للخروج إلى عالم ونشأه اُخرى.
فعندما یدعوها ملک الموت تستجیب لذلک، فتکون دعوه ملک الموت لها تعبیراً آخر عن نفاد أرزاق ذلک البدن الذی یعتاش علیه.
وإذا کنا لا نفهم ذلک ولا نستوعبه فلسببین هما:
الأول: إننّا لم نتعرّض للموت مسبقاً لتکون الدنیا تجربه تؤیّد هذا المعنى، ونعنی بذلک خصوص الموت الاضطراری، وأمّا الاختیاری فعلى فرض حصوله فانّ دائرته محدوده جداّ، ولا نفهم سرّه ومغزاه.
الثانی: شدّه الانغماس فی عالم الماده الظلمائی الذی یحجب عنّا الکشف أو الوقوف على تلک الحقائق.
وعلى أی حالٍ، فانّ ذلک الداعی موجود والدعوه منه قریبه ولو بعد حین، ولذا ینبغی بل یتعیّن على کلّ واحد منّا إعداد العدّه وتجهیز متاع السفر، فانّ الطریق طویل ولا یناسبها الزاد القلیل،لا سیّما أنّ المقصد هو دار بقاء لا دار فناء، فـ ( تجهزوا رحمکم الله! فقد نُودی فیکم بالرحیل، وأقلّوا العُرجه على الدنیا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتکم من الزاد، فانّ أمامکم عقبه کؤودا(۳)، ومنازل مخوفهً مهولهً، لابد من الورود علیها، والوقوف عندها …) (۴).
والعاقل من اتّعظ بما هو واقع أو لابدّ من وقوعه، فیستعدّ لذلک وإن کان کارهاً له، ( فجدیر بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنیسه، ومنکر ونکیر جلیسه، والقبر مقرّه، وبطن الارض مستقرّه والقیامه موعده، والجنه أو النار مورده أن لا یکون له فکر إلاّ فی الموت ولا ذکر إلاّ له، ولا استعداد إلاّ لأجله… فانّ کلّ ما هو آت قریب، والبعید ما لیس بآت ) (۵).
ولا ریب أنّ الذی یُبغّض إلینا الموت ویعمّق النفور منه هو إتباع الهوى وطول الأمل، وما طول الأمل إلاّ انعکاس فعلی لحبّ الدنیا والذی هو رأس کلّ خطیئه.
روی أنّ معروفاً الکرخی& أقام الصلاه یوماً فقال لمحمد بن توبه: تقدّم، فقال محمد بن توبه: إنّی إن صلیت بکم هذه الصلاه لم أصلِّ بکم غیرها.
فقال معروف: وأنت تحدّث نفسک أن تُصلی صلاه اُخرى؟! نعوذ بالله من طول الأمل فانّه یمنع من خیر العمل(۶).
والحمد لله ربّ العالمین وصلى الله على سیدنا محمد وآله الطاهرین .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
۱ ــ الآمالی للشیخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی  ص ۳۰۳، نشر مؤسسه البعثه، الطبعه الأولى، ۱۴۱۷ هـ .
۲ ــ ورد فی روایات کثیره من طرق الفریقین معاً ما توحی بوجود الروح داخل الجسد، وهذا المعنى بحاجه إلى تحقیق، فنحن لا نعلم هل أنّ الجسد هو ظرف للروح کما هو المذکور فی ثقافه وفهم العرف أو أنّ الروح هی ظرف الجسد ــ وهو ما نمیل إلیه ــ فیکون الجسد داخلاً ولیس العکس.
وهناک فهم أخر یُوحی بوجود نوع من الممازجه بین الروح والجسد، فکلاهما ظرف وکلاهما مظروف، وهذا غیر مقبول لکون الروح وجود حقیقه تختلف فی عالمها ومواصفاتها کاملاً عن وجود حقیقه الجسد، فتلک وجود ملکوتی وهذا وجود ملکی.
وعلى أی حال، فالذی نستقربه هو ظرفیه الروح للجسد، بمعنى أنّ الروح متصرّفه بالجسد کاملاً من خلال أحاطتها بالجسد لا من خلال تواجدها فیه، ومن هُنا نفهم بوضوح معنى الامتداد الأفاقی للروح والوجود الکلی السعی لها، وفی المقام أسرار موقوفه على أصحابها.
۳ ــ الکؤود: الصعبه المرتقى.
۴ ــ المصدر السابق: ۱۴۷۵٫
۵  ــ إحیاء علوم الدین لأبی حامد محمد بن محمد الغزالی: ۱۴۶۸ ــ نشر مؤسسه الریّان للطباعه والنشر والتوزیع، الطبعه الأولى، ۲۰۰۵م ــ بیروت.
۶ ــ المصدر السابق: ۱۴۷۵٫    

Leave A Reply

Your email address will not be published.