نهج المساواة عند علي عليه السلام (01)

0

عانت البشرية كثيراً ولا تزال من سياسات التفرقة والتمييز بين الناس، على أساس عرقي عنصري، أو ديني طائفي، أو اقتصادي طبقي.
حيث تعتقد فئة مهيمنة بأفضليتها على الآخرين، وتستأثر عليهم بالامتيازات، وتعاملهم باعتبارهم بشراً أو مواطنين من درجة أدنى.
وتعبر كلمة تمييز عن عملية حرمان فرد أو جماعة ما من التساوي في الفرص والحقوق والواجبات.

من الناحية العلمية لم تثبت صحة أي من النظريات العنصرية، التي تدعي رقي بعض السلالات والأعراق البشرية، وتخلف البعض الآخر، فجوهر الإنسانية واحد في كل الأعراق والسلالات، والاستعدادات والقدرات متشابهة، بيد أن للبيئة والمحيط دوراً في تنمية المواهب وإبراز القدرات، فقد تتراكم ظروف تاريخية واجتماعية مثبطّة لعوامل النهوض والتقدم عند بعض الأمم والشعوب، بينما تنقدح شرارة الانطلاق عند أمم أخرى، لعوامل وأسباب موضوعية، تناقشها أبحاث فلسفة التاريخ والحضارة.

ولعلّ في نبوغ كفاءات متميزة، وعبقريات رائدة، من مختلف الأعراق والمجتمعات، ما يكفي دليلاً على سقوط دعاوى النظريات العنصرية.
كما يشهد تاريخ البشرية، بتوارث وتعاقب التقدم الحضاري بين أمم الأرض، فليس هناك عرق أو سلالة تحتكر مسيرة الحضارة في التاريخ.
وقد تعرض العلماء لقضية العنصرية ولما سمي بالتفوق العنصري أو العرقي، وأشبعوها درساً وتحليلاً، وتبين لهم تهافت الادعاءات القائلة بوجود فروقات عرقية جوهرية بين البشر. وتوضيحاً لذلك فقد اجتمع لفيف من العلماء والمختصين في علوم الوراثة وعلم الأحياء العام البيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الانتربولوجيا علم الإنسان، وأصدروا من مقر اليونسكو في باريس، بياناً عاماً يشرحون فيه بطلان النظريات العنصرية.

كما أن الانتماء الديني لا يصلح مبرراً لسياسة التفرقة والتمييز، فما من دين صحيح يشجّع أتباعه على الاستئثار والجور، فقد بعث الله تعالى أنبياءه وأنزل شرائعه، لبسط العدل والخير بين الناس، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾.

وأي فئة تمارس التمييز بين الناس، وتدعو أتباعها لتجاهل حقوق الآخرين باسم الدين، لابد وأن تكون مخطئة في فهم الدين، أو قاصدة إساءة استغلاله.بهذا يتضح خطأ ما تستند إليه سياسات التمييز من مبررات نظرية.

وعلى الصعيد الأخلاقي، فإن التمييز بين الناس في ما يجب أن يتساووا فيه، يعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان، واعتداءً على كرامته، وجوراً وظلماً لمن تمارس تجاههم هذه السياسة.

فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولى على ما يلي:
يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
وتقول المادة الثانية: لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر.

التمييز.. مخاطر وأضرار
أما على مستوى النتائج العملية، فإن سياسات التمييز تؤدي إلى أضرار بالغة، وأخطار جسيمة، من أبرزها ما يلي:
أولاً: إضعاف الوحدة الاجتماعية، فلا يتحقق التماسك أبداً بين فئات مجتمع يتعالى بعضها على البعض الآخر، ويستأثر عليه بالامتيازات والمكاسب. و ما يظهر من حالة وحدة واتحاد، لا يعدو أن يكون حالة فوقية سطحية مصطنعة، لا تلبث أن تخبو وتتوارى عند أي امتحان حقيقي.

ثانياً: تهديد الأمن والاستقرار، فالمتضررون من التمييز تنمو في نفوسهم وأوساطهم ردات فعل تدفعهم للانتقام، وللدفاع عن كرامتهم، ولردّ العدوان على حقوقهم، وقد تنشأ في هذا الوسط عناصر متطرفة خارج إطار السيطرة والانضباط.مما يدخل المجتمع في معادلة الفعل وردّ الفعل، ويسبب حالة القلق والاضطراب.

ثالثاً: الاستغلال الخارجي، فلكل أمة ومجتمع أعداء ومنافسون خارجيون، يهمّهم استغلال الأوضاع الداخلية، والتسلل من الثغرات ونقاط الضعف، ووجود فئة من المجتمع تشعر بالغبن وانتقاص الحقوق، يتيح للأعداء الخارجيين أفضل الفرص، وخاصة في هذا العصر الذي تستغل فيه القوى الكبرى شعارات حقوق الإنسان، ودعاوى الدفاع عن الأقليات.

رابعاً: وأد الطاقات وتهميش الكفاءات، وضعف الاستفادة من قدرات أبناء المجتمع، مادام المقياس هو الانتماء العرقي أو الديني أو الطبقي، وليس الكفاءة والإخلاص.

بين الماضي والحاضر
كانت شريعة روما تقسم الناس إلى أحرار وغير أحرار، وهؤلاء الأحرار كانوا أيضاً طبقتين: الأحرار الأصلاء وهم الرومانيون، وغير الأصلاء وهم اللاتين أما غير الأحرار فكانوا أربعة أنواع: الأرقاء، والمعتقون، وأنصاف الأحرار، والأقنان التابعون للأرض. وكان الأحرار الأصلاء وحدهم المتمتعين بالحقوق السياسية، في معظم الفترات التي مر بها تاريخ روما، أما غيرهم فكانوا محرومين منها.

وكان المجتمع الإيراني في عهد الساسانيين مؤسساً على اعتبار النسب والحِرَف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر، ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها.

وقبل ميلاد المسيح عليه السلام بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، التي وضعت قانوناً يعرف بـ‍ منوشاستر يقسم أهل البلاد إلى أربع طبقات، هي: البراهمة وهم الكهنة ورجال الدين،وطبقة شتري وهم رجال الحرب، وطبقة ويش وهم رجال الزراعة والتجارة، وطبقة شودر وهم رجال الخدمة للطبقات الثلاث.

وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً ألحقتهم بالآلهة. وكانت الطبقة الرابعة شودر تمثل المنبوذين الذين لا يتمتعون بأية قيمة أو حقوق. وفي عام 1948م بدأت الحكومة الهندية مقاومة هذا التقسيم الطبقي، ومع أنه حدث بعض التقدم، إلا أن آثار ورواسب هذه الحالة لا تزال قائمة في كثير من أنحاء الهند.

وعانى الزنوج السود في الولايات المتحدة الأمريكية تمييزاً عنصرياً واسع النطاق، فترة ما قبل القرن التاسع عشر، ومنذ بداية القرن التاسع عشر، أصبح هناك قوانين في مختلف الولايات الأمريكية، لإقرار حالة الفصل والعزل العنصري بين البيض والسود، بأن يستخدم كل منهما مرافق عامة منفصلة، فقد فرضت ولاية أوكلاهوما مثلاً على السود والبيض استخدام أكشاك هاتف منفصلة، كما خصصت ولاية أركنساس موائد منفصلة للمقامرة، بينما استخدمت كثير من المحاكم أناجيل منفصلة للحلف عند الشهادة، كما تبنت بعض الولايات الجنوبية قوانين جردّت السود من حقوقهم الانتخابية.

واستمرت حالة التمييز والفصل العنصري طوال القرن التاسع عشر تقريباً، ثم بدأت في التراجع والانهيار التدريجي في العقد الثاني من القرن العشرين، وفي عام 1969م ألزمت المحكمة الأمريكية العليا المدارس العامة، في المناطق المختلفة، الكف فوراً عن سياسة الفصل الاجتماعي.

وحتى خلال الثمانينيات تعرض السود للفصل الاجتماعي في مجال الإسكان، ورغم صدور الكثير من القوانين التي تمنع التمييز والفصل العنصري في أمريكا، إلا أن الحالة تتجاوز القوانين في العديد من الموارد والمواقف، حيث لا يزال السود يعيشون في مستوى أقل تقدماً من البيض، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.

وفي أوربا كان التمييز الديني موجوداً لعدة قرون، من القرن الخامس إلى القرن السادس عشر الميلادي، وموجهاً بصفة أساسية ضد اليهود الأوربيين، حيث كان عليهم في كثير من البلاد، عدا الأندلس، حينما كانت في ظل الحضارة الإسلامية، كان عليهم أن يعيشوا داخل أحياء الأقليات اليهودية المعروفة باسم الجيتو. كما كانت القوانين تحظر عليهم امتلاك الأراضي، والانضمام إلى النقابات الحرفية، أو ممارسة الطب أو القانون،مما أدى إلى تعذر حصولهم على العمل، إلا في تلك الأعمال التي يتجنبها النصارى.

وانتهجت حكومة البيض في جنوب أفريقيا أسوأ ألوان سياسات التمييز العنصري في هذا العصر، حيث احتكرت السلطة السياسية الأقلية البيضاء، المنحدرة من أصول أوروبية، من أحفاد المستوطنين الهولنديين الأوائل، الذين يعرفون باسم الأفريكانيين، وهم يشكلون نسبة 14% من السكان، ومارسوا تجاه الأغلبية السوداء من السكان الأصليين، سياسة الفصل والتمييز العنصري الأبارتيد، والتي أعلنها الحزب القومي عند مجيئه إلى الحكم عام 1948م، وقد حددت للسود مساحات خاصة لحياتهم لا تتجاوز 13% من مجموع مساحة البلاد، وكان عليهم إبراز هويات شخصية للدخول إلى الأحياء التي يقطنها البيض، وكانت مدارس الدولة معزولة عزلاً عنصرياً كاملاً، كما لم يكن ممكنا لغير البيض الالتحاق بالوظائف المتقدمة المخصصة للبيض، واستمرت هذه السياسة حتى عام 1991م، حيث ألغيت بفضل صمود ونضال الشعب، والتضامن الدولي معه.

وبقيت إسرائيل قلعة شاهقة للممارسات العنصرية الظالمة، محصنة ومحمية بدعم أمريكي شامل، تطرد وتهجر أبناء فلسطين وأهلها الشرعيين، وتستورد اليهود الغرباء من مختلف بقاع الأرض، ليستوطنوا أراضي الفلسطينيين، ويسومونهم الجور والظلم.
وهناك في عديد من بلدان العالم حالات من التمييز بين الناس معلنة أو غير معلنة، تتم بمختلف الأشكال والعناوين.

Leave A Reply

Your email address will not be published.