تاريخ حياة الإمام الهادي عليه السلام (02)
سلوك الخلفاء في عهد الإمام الهادي عليه السلام:
انّ استمرار النّضال والمعارضة من أهل بيت النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلفاء الغاصبين الظّالمين يعتبر من الصفّحات الدّمويّة المليئة بالفخر والاعتزاز من تاريخ الإسلام والتّشيّع. فأئمّتنا الكرام عليهم الصّلاة والسّلام كانوا مغضبين للحكّام المستبدّين واذنابهم الظّالمين بما يتميزّون به من مواقف صُلبة غير متخاذلة أزاء الظّلم، ومن مواقف شجاعة في الدّفاع عن الحقّ والعدالة، ولمّا كان الخلفاء الغاصبون يعلمون انّ أئمّة الشّيعة ينتهزون كلّ فرصة لهداية النّاس واحقاق الحقّ والدّفاع عن المظلوم والوقوف في وجه الظّلم والفساد فانّهم كانوا يشعرون بالخطر الجسيم يهدّدهم من جانب هذه الجماعة الّتي كرّست كلّ جهودها للهداية والإرشاد والصّمود.
والخلفاء العبّاسيون (الّذين حلّوا محلّ الخلفاء الأمويّين الظّلمة بالتّآمر والخداع وحكموا النّاس باسم الخلافة الإسلاميّة) هم كأسلافهم الغاصبين لم يدّخروا جهداً لقمع أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلويث سمعتهم، وحاولوا بكلّ ما أوتوا من قوّة ان يشوّهوا الصّورة النقيّة لقادة المسلمين الحقيقيّين ويسقطوهم عن منزلتهم الرّاقية، واستعملوا الدّسائس المختلفة لأبعاد أولئك الكرام عن مقام قيادة النّاس ومحو حبّ الأمّة لهم…
وحِيَل المأمون العبّاسيّ للوصول الى هذا الهدف وخططه الجهنّميّة لإظهار حكومته بمظهر الشّرعيّة والقانونية واستلام منصب القيادة واخفاء شمس الإمامة، ليست مخفيّة على المطّلعين على تاريخ الأئمة(عليهم السلام) والخلفاء، وقد أشرنا الى بعض جوانب هذا الموضوع خلال دراستنا لحياة الإمام الثّامن والإمام التّاسع (عليهما السلام).
فبعد المأمون استمرّ المعتصم العبّاسيّ في نفس تلك الخطط والمؤامرات الّتي كان ينفذها سلفه في أهل بيت النّبوّة والإمامة ومن هنا فقد استقدم الإمام الجواد (عليه السلام) من المدينة الى بغداد وجعله تحت المراقبة الشّديدة ثمّ بالتّالي أدّى به الى القتل، وسجن أيضاً بعض العلويّين بذريعة انّهم لم يرتدوا الملابس السّوداء (وهي الملابس الرّسميّة للعبّاسيّين) حتّى ماتوا في السّجن (أو قتلهم)(1).
وقد مات المعتصم في سامرّاء عام «227» هجري(2)، فحلّ محلّه في الحكم ابنه الواثق، واقتفى اثر ابيه المعتصم وعمّه المأمون.
وكان الواثق مثل سائر الخلفاء المتظاهرين بالإسلام مرفّهاً وشرّاباً للخمر، وكان مفرطاً في هذه المجالات بحيث كان يلجأ لتناول بعض العقاقير الخاصّة لتوفّر له امكانية الاستمرار في لذّاته، وكانت هذه العقاقير هي التي أدّت به في نهاية الأمر الى الموت(3)فمات في سامرّاء سنة «232» هجريّة.
وسلوك الواثق مع العلويّين لم يكن قاسياً ولهذا السّبب تقاطر العلويّون وآل أبي طالب على سامرّاء في زمانه واجتمعوا فيها وقد عاشوا في رفاه نسبي خلال تلك الفترة، ولكنّهم تفرقوا خلال حكم المتوكّل(4).
وبعد الواثق جاء أخوه المتوكّل وأصبح خليفة، ويعتبر من اكثر الحكّام العبّاسيّين انحطاطاً وسقوطاً وأشدّهم جريمة، وقد عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) المتوكّل اكثر من سائر الخلفاء العبّاسيّين، واستمرّت فترة معاصرته له اكثر من أربعة عشر عاماً كانت هذه الفترة الطّويلة من أصعب وأقسى السّنين في حياة هذا الإمام الكريم واتباعه المخلصين، وذلك لانّ المتوكّل كان من اكثر خلفاء بني العبّاس كفراً وكان رجلاً خبيثاً وساقطاً، وكان قلبه مملوءاً بالحقد والعداوة لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وأهل بيته الكرام وشيعته، وقد واجه العلويّون في ظلّ حكومته القتل أو دسّ السّم أوانّهم فرّوا وتواروا عن الانظار(5).
وكان المتوكّل يحثّ النّاس (بواسطة نقل أحلام له ورؤى كاذبة) على اتّباع «محمّد بن إدريس الشّافعي» الّذي كان ميّتاً في زمانه(6). وكان هدفه من هذا هو صرف النّاس عن اتبّاع الأئمة (عليهم السلام).
وفي سنه «236» هجرية أمر بهدم قبر سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وهدم ما حوله من الدّور وان يعمل مزارع، ومنع النّاس من زيارته، وخُرّب وبقي صحراء(7).
وكان خائفاً من ان يغدو قبر الإمام الحسين (عليه السلام) قاعدة ضدّه، ومن ان يصبح نضاله واستشهاده (عليه السلام) ملهماً لتحرك ونهوض شعبيّ في مقابل ظلم خلافته، اِلاّ انّ الشّيعة ومحبيّ سيّد الشّهداء لم يكفّوا إطلاقاً وتحت أي ظرف من الظّروف عن زيارة تلك البقعة الطّاهرة، حتّى انّه قد نُقل انّ المتوكّل قد هدّم ذلك القبر الشّريف سبع عشرة مرّة، وهدّد الزّائرين بمختلف التّهديدات وجعل مخفرين للمراقبة في أطراف القبر، ومع كلّ هذه الجرائم فانّه لم يفلح في صرف النّاس عن زيارة سيّد الشّهداء، فقد تحمّل الزّائرون مختلف أصناف التّعذيب والإيذاء وواصلوا الزّيارة(8). وبعد قتل المتوكّل عاد الشّيعة بالتّعاون مع العلويّين لتعمير وإعادة بناء قبر الإمام الحسين (عليه السلام)(9).
وقد أغضب المسلمين هدمُ قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، فراح أهل بغداد يكتبون الشّعارات المضادّة للمتوكّل على الجدران وفي المساجد، ويهجونه بواسطة الشّعر. وهذه الابيات من الشّعر من جملة الهجاء الّذي قيل في ذلك الطّاغية المستبدّ:
«بالله ان كانت أميّة قد أتت قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فـلقد أتـاه بنو أبيه بمثله هذا لعمري قبرُه مهدوما
أسفوا على ان لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبّعوه رميما»(10)
أجل ان النّاس الّذين لا تمتّد أيديهم الى وسائل إعلام عصرهم ويرون المنابر والمساجد والاجتماعات والخطب في أيدي عملاء السّلطة العبّاسيّة يعبّرون عن غضبهم واعتراضهم بهذة الصّورة.
وقد استغلّ الشّعراء الملتزمون الّذين يشعرون بالمسؤولية ما لديهم من فنّ وقريحة فأنشدوا قصائد ضدّ المتوكّل ونبهوا النّاس على جرائم بني العبّاس، وفي المقابل فانّ المتوكّل لم يتورّع عن ارتكاب أيّ جريمة في سبيل اسكات الأصوات المعترضة والمخالفة، وكان يقمع بعنف العلماء والشّعراء وسائر الفئات الّتي عجز عن تطويعها وإخضاعها للتّعاون معه والاستسلام له وكان يعرّضها للقتل بأفجع الصّور.
فمثلاً يعقوب بن السّكيّت (وهو شاعر واديب شيعيّ مشهور بحيث يطلق عليه انّه الإمام في العربيّة) ندبه المتوكّل الى تعليم ولديه: «المعتزّ» و«المؤيّد»، فنظر المتوكّل يوماً الى ولديه وقال لابن السّكّيت: من احبّ اليك هما أو الحسن والحسين ؟ فقال ابن السّكيّيت: قنبر ـ يعني مولى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ـ خير منهما !
فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات(11). (رضوان الله تعالى عليه).
وقد اطلق المتوكّل يديه في نهب بيت مال المسلمين كسائر الخلفاء، وكان مسرفاً كما كتب المؤرّخون في تاريخ حياته، حيث بنى القصور المتعدّدة والمتنوّعة، وأنفق على «برج المتوكّل» (الّذي لا يزال قائماً اليوم في سامرّاء) مليوناً وسبعمائة ألف دينار من الذّهب !…(12).
ومن المؤلم حقّاً انّه الى جانب هذا الإسراف والتّبذير يعيش العلويّون وأهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضيق وعسر بحيث انّ «طائفة من النّساء العلويّات في المدينة ما كن يملكن ملابس كاملة تتيسّر فيها إقامة الصّلاة وإنّما كان لديهنّ ثوب رثّ بال يتعقبن عليه أثناء أداء الصّلاة ويعتمدن في امرار المعاش على الخياطة، واستمرت هذه الصّعوبة والضيق معهنّ حتى مات المتوكّل»([13]). وحقد المتوكّل وعداؤه لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) قد دفعه الى سقوط ورذالة لا تُصدّق، حيث كان المتوكّل يأنس الى النّواصب وأعداء أهل البيت وقد اصدر أوامره لأحد المضحكين والمثرثرين ان يسخر ويستهزأ في مجلسه بأمير المؤمنين (عليه السلام) بصورة مخجلة، والمتوكّل يتفرّج على طريقة أدائه وأطواره ويشرب الخمر ويقهقه قهقهة السّكارى !(14)
وصدور مثل هذه الأعمال من المتوكّل ليس بالأمر العجيب وإنّما الغريب والمؤلم هو وضع الّذين ينصّبون أمثال هذه الخنازير المنحطّة الوسخة حكاماً ويعدّونهم خلفاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن جملة اولي الأمر للمسلمين، ويشيحون بوجوههم عن الإسلام الحقيقي وأهل بيت نبيّه الطّاهرين ويتّبعون أمثال هؤلاء الخلفاء ! أسفاً على الإنسان كيف ينحدر في الضّلال الى هذه المستويات.
أجل انّ جنون المتوكّل في الايذاء والجريمة قد بلغ الذّروة حتّى انّه في بعض الاحيان كان هو بنفسه يعترف بذلك !
يقول الفتح بن خاقان (وهو وزيره):
دخلت يوماً على المتوكّل فرأيته مطرقاً متفكّراً فقلت: يا أمير المؤمنين ! ما هذا الفكر ؟ فوالله ما على ظهر الارض أطيب منك عيشاً ولا أنعم منك بالاً. فقال: يا فتح أطيب عيشاً منّي رجل له دار واسعة وزوجة صالحة ومعيشة حاضرة لا يعرفنا فنؤذيه ولا يحتاج الينا فنزدريه…!!(15)
وقد بلغ ايذاء المتوكّل وتعذيبه لاهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الى الحدّ الّذي كان يعذّب فيه النّاس ويعاقبهم بذنب المحبّة والاتّباع للأئمة الكرام، ولهذا فقد أصبح الأمر صعباً جدّاً على أهل بيت الطّهارة.
وعيّن المتوكّل عمر بن فرح الرخجي والياً على مكة والمدينة، وكان يكفّ النّاس عن الإحسان الى آل أبي طالب ويتشدّد كثيراً في هذا الأمر فامتنع النّاس خوفاً على أنفسهم عن بذل الرّعاية والحماية للعلويّين وأمست الحياة صعبة جدّاً على أهل بيت أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)…(16).
——————————————————————————–
(1) ـ مقاتل الطالبين: ص 589.
(2) ـ المختصر في أخبار البشر ج 1 ص 34.
(3) ـ تتمة المنتهى : ص 229 ـ 231.
(4) ـ مقاتل الطالبين: ص 593.
(5) ـ مقاتل الطالبين: ص 597 ـ 632.
(6) ـ تاريخ الخلفاء: ص 351 ـ 352.
(7) ـ تاريخ الخلفاء: ص 347.
(8) ـ مقاتل الطالبيين: ص 597 ـ 599، تتمة المنتهى: ص 240 فما بعد.
(9) ـ مقاتل الطالبين: ص 599.
(10) ـ تاريخ الخلفاء: ص 347.
(11) ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 348 ـ ثتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 342 ـ المختصر في أخبار البشر: ج 2 ص 41 (وهناك أقوال اخرى مذكورة في كيفية استشهاده ).
(12) ـ تاريخ اليعقوبي: ص 491.
(13) ـ تتمة المنتهى: ص 238.
(14) ـ تتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 338.
(15) ـ تاريخ الخلفاء: ص 353.
(16) ـ تتّمة المنتهى: ص 238.