من سيرة الإمام الهادي عليه السلام (01)

0

لم تكن المشاكل الداخليّة الّتي واجهها الشيعة بأقلّ من المشاكل الّتي كانت تضغط من خارج المجتمع الشيعيّ، خاصّة وأنّ المشاكل الداخليّة نفسها كان لها أكبر الأثر في إيجاد المشاكل الخارجيّة. لذا فقد بذل أئمّة الشيعة جهوداً مضنية في سبيل تنقية الفكر الشيعيّ من انحراف الغلاة، وتنحية المغالين عن مذهب الحقّ. إلّا أنّ الغلاة كانوا ينسبون أنفسهم للأئمّة لدوافع انتهازيّة ونفعيّة، أو بسبب تفكيرهم الخاطى‌ء، بل وكانوا يتصوّرون تصدّي الأئمّة لهم نوعاً من التقيّة. وأمّا في المناطق البعيدة فلولا وجود العلوم الشيعيّة والفقه الشيعيّ لانخدع الكثير منهم بادّعاءات الغلاة، ولكان لذلك تأثيره الكبير في تشويه سمعة الشيعة في أذهان الفرق الأخرى.
واصطدم الإمام الهادي عليه السلام – كما هو الحال بالنسبة لسائر الأئمّة عليهم السلام – بالغلاة، وكان من بين أصحابه من يدّعي نفس ذلك الادّعاء.
فقد كان أحمد بن عيسى من علماء الشيعة المعتدلين، وكان شديد التمسّك بالأئمّة عليهم السلام ، ويعارض أي نوع من الغلوّ، وكتب مرّة إلى الإمام عليه السلام يسأله عن معتقدات وأفكار تُنسب إليه، وهي ممّا تشمئز منه النفوس، وفي رسالته يقول للإمام عليه السلام : (… ولا يجوز لنا ردّها إذا كانوا يروون عن آبائك عليهم السلام ولا قبولها لما فيها).
فكتب عليه السلام : “ليس هذا ديننا فاعتزله”(1).
وللإمام عليه السلام ردود كتبها ردّاً على معتقدات الغلاة من أمثال عليّ بن حسكة. وبعض الأحيان كان يَرِدُ اللعن منه عليه السلام عليهم. وأعلن عليه السلام في كتاب آخر غضبه على ابن بابا القمّيّ وقال: “لقد ظنّ أنّي بعثته نبيّاً وأنّه بابي”. وقال عنه أيضاً: “إذا قدرتم عليه فاقتلوه”(2). وقد ادّعى محمّد بن نصير النمير النبوّة – وهو رئيس فرقة النميرة أو النصيريّة(3) – وأشاع أنه قد أُرسل نبيّاً من جانب الإمام الهادي عليه السلام …
ومن أصحاب الإمام الهادي عليه السلام الّذين تحوّلوا إلى غلاة أحمد بن محمّد السياريّ الّذي حكم أغلب من كتب في رجال الشيعة بغلوّه واعتبروه فاسد المذهب، فهو قد ألّف كتاب “القراءات” الذي يضمّ الكثير من الروايات الّتي تقول بتحريف القرآن. ومن المؤكّد أنّ مثل هذا الكتاب لا يحوي سوى أقاويل باطلة.

الإمام الهادي عليه السلام وأصالة القرآن

من الانحرافات الّتي أشاعها غلاة الشيعة وأساؤوا فيها إلى سمعة هذا المذهب على مرّ التاريخ قضيّة تحريف القرآن، وهي القضيّة الّتي تمسّ أهل السنّة أيضاً، نظراً لاحتواء كتبهم على بعض الأحاديث الدالّة على تحريف القرآن.
وفي نفس الوقت لم يكن بين أهل السنّة ولا بين الشيعة الإماميّة من يعتقد بتحريف القرآن، بل كانوا على العكس من ذلك يعارضون هذا الأمر بشدّة. ومع ذلك فإنّ الّذي يظهر في كتاب (الانتصار) للخيّاط المعتزليّ شيوع نسبة تهمة تحريف القرآن إلى الشيعة على الألسن. وكان أئمّة الشيعة عليهم السلام إزاء مثل هذه الاتّهامات الباطلة يعطون الأصالة للقرآن دوماً في مقابل الروايات، ويعتبرون كلّ حديث مخالف للقرآن باطلاً. كما كان الكثير من أهل السنّة يعتقد بنفس هذا المبدأ أيضاً. فقد نقل ابن شعبة الحرّانيّ صاحب كتاب (تحف العقول) رسالة مستفيضة عن الإمام الهادي عليه السلام يؤكّد فيها بشدّة على أصالة القرآن، وكونه المعيار لقياس صحة الروايات، إضافة إلى اعتبار القرآن النصّ الوحيد الّذي تتّفق جميع الفرق والمذاهب على الاعتقاد به.
وقد قسّم الإمام عليه السلام أوّلاً الأخبار إلى صنفين:
الأوّل: الأخبار الصحيحة الّتي يلزم اتّباعها والإقرار بها.
الثاني: الأخبار المنافية للحقّ والّتي يلزم اجتنابها وعدم قبولها.
ثمّ أشار عليه السلام إلى إجماع الأمّة على أنّ القرآن حقّ وأنّه لا تشكّ فيه فرقة. ثمّ قال: فإذا وافق القرآن خبراً فلم تقبله جماعة فالحقّ قبوله والإقرار به، فإنّ الكلّ مجمعون على صحّة القرآن، ثمّ مثّل لذلك بخبر الثقلين…(4)

موقف الإمام الهادي عليه السلام من فتنة خلق القرآن‌

إنّ من أهمّ القضايا الّتي تعرّض لها العالم السُنّيّ في بداية القرن الثالث الهجريّ، وأدّت به إلى التشتّت والفرقة قضيّة الصراع على مسألة خلق القرآن أو قدمه. وهذه المسألة أشاعها أحمد بن أبي داوود، وتبعه على ذلك المأمون الّذي عمّت الأمّة فتنة كبرى في زمانه، وتبعه المعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن. وكأنّ هذه المسألة مسألة يتوقّف عليها مصير الأمّة الإسلاميّة. وسعى هؤلاء الحكّام إلى إكراه جميع العلماء والمحدّثين على الاعتقاد بخلق القرآن، وسمّيت هذه القضيّة تاريخيّاً باسم محنة القرآن.
وكان أحمد بن حنبل على رأس أهل الحديث الّذي يعتقدون بعدم خلق القرآن، وتعرّض إثر ذلك للكثير من الضغط من جانب الحكومة العبّاسيّة. وفي نفس الوقت لمّا جاء المتوكّل من بعد المعتصم عاضد ابن حنبل وتآزرا على إنهاء القضيّة لصالح مذهب ابن حنبل.
ولقد دخلت جميع المذاهب والفرق في ذلك المعترك، وأظهر كلّ واحد منها وجهة نظره الخاصّة في هذا الموضوع. لكنّ روايات أهل البيت عليهم السلام وآراء أصحاب الأئمّة لم تبحث في هذه القضيّة بل التزموا الصمت إزاءها. وقد بيّن الإمام الهادي عليه السلام الرأي السديد في هذه المناورة السياسيّة الّتي ابتدعتها السلطة, فقد روي عنه أنّه كتب إلى بعض شيعته ببغداد:
“بسم الله الرحمن الرحيم, عصمنا الله وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فأعظم بها نعمة وإلّا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له وتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلّا الله وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين. جعلنا الله وإيّاك من الّذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون”(5).
وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام يقول: “لا خالق ولا مخلوق، ولكنّه كلام الخالق”(6).
ومن الطبيعيّ أنّ مثل هذا الكتاب، وما شابهه من مواقف، أدّى إلى عدم تورّط الشيعة في هذه المحنة الّتي لا نهاية لها.

ثقافة الزيارة في تراث الإمام الهادي عليه السلام

إنّ تركيز أسس الإمامة والولاية وتقويض دعائم الظلم والاستبداد يفرض الالتفات إلى أمر هامّ هو أنّ المذهب الشيعيّ غنيّ بثقافة الزيارة. وأمّا سائر الفرق الإسلاميّة فهي لا تمتلك ما يمتكله الشيعة من هذا التراث الغنيّ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الأدعية المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام .
وهذا ما يعكس الصورة الباطنيّة للتشيّع والّتي خلقت العرفان الشيعيّ، وبلورت لدى المجتمع الشيعيّ مبادى‌ء الإخلاص الدينيّ وتزكية النفس.
وتعدّ ظاهرة الزيارة للأئمّة عليهم السلام إحدى وسائل الإمام الهادي عليه السلام في إيصال المفاهيم الفكريّة والروحيّة لشيعته ومواليه من أجل تركيز هذه المفاهيم السليمة وتنمية الجانب الروحيّ والفكريّ لأصحابه. وهذه الوسيلة لا تُثير الشكّ والريب مع سهولتها في الانتشار وظهور أثرها في الأمّة.
وما ورد عن الإمام الهادي عليه السلام وحفظه لنا التاريخ من الوثائق المهمّة في هذا المضمار ما يلي:
1- الزيارة الجامعة.
2- زيارة أمير المؤمنين عليه السلام في يوم الغدير.
3- زيارات متعدّدة للأئمّة عليهم السلام .
ونحاول هنا إلقاء الضوء على دلالات ومضامين الزيارة الجامعة ليتّضح من خلال ذلك أهميّة هذا الأسلوب في التربية.

تأمّلات في الزيارة الجامعة

هي من أشهر زيارات الأئمّة الطاهرين عليهم السلام وأعلاها شأناً، وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، فقد أقبل أتباع أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم على حفظها وزيارة الأئمّة بها خصوصاً في يوم الجمعة.
أمّا سند الزيارة الجامعة فقد حاز درجة عالية من الصحّة، حيث رواها الشيخ الطوسيّ في (التهذيب)، ورئيس المحدّثين الصدوق في (الفقيه) و(العيون) وغيرهما، وقال العلّامة المجلسيّ: إنّ هذه الزيارة من أصحّ الزيارات سنداً، وأعمقها مورداً، وأفصحها لفظاً وأبلغها معنى، وأعلاها شأناً(7).
وقد روى هذه الزيارة محمّد بن إسماعيل البرمكيّ عن موسى بن عبد الله النخعيّ عن الإمام عليّ الهادي عليه السلام، وهي تفيض بالأدب الرائع، وبجواهر الفصاحة والبلاغة، وجمال التعبير ودقّة المعاني، الأمر الّذي يدلّل على صدورها عن الإمام عليه السلام .
واهتمّ العلماء اهتماماً بالغاً بشرح الزيارة الجامعة لما فيها من المطالب العالية، والأسرار المنيعة، والأمور البديعة.
محتوياتها: الدعوة إلى التشيّع والاتّباع الكامل لأهل البيت عليهم السلام .
تعتبر زيارة الجامعة الكبرى من النتاجات المهمّة للإمام الهادي عليه السلام ، ومن الوثائق الّتي نستلُّ منها ملامح التصوّر السليم للفكر الدينيّ، وفي استعراضنا للزيارة وتركيزنا على الأفكار الأساس فيها تنجلي لنا المنهجيّة الحركيّة والفكريّة، أمّا أبرز مضامينها فهي:

1- اصطفاء أهل البيت عليهم السلام

ففي قوله عليه السلام : ” السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي…” يلفت الإمام عليه السلام الأنظار إلى ما يلي:
أ- أنّ الله اختصّ أهل البيت عليهم السلام بكرامته فجعلهم موضع الرسالة ومختلف الملائكة.
ب- أنّ هذا الجعل الإلهيّ نابع من الصفات الكماليّة الّتي يبلغون القِمّة فيها كالعلم والحلم والكرم والرحمة.
ج- كون أهل البيت موضع الرسالة إنّما هو لاختيار الله لهم ونتيجة لتكاملهم وتعيينهم كأمناء لمنصب القيادة العليا للبشريّة، فهم دعائم الأخيار وساسة العباد وأركان البلاد.

2- حركة أهل البيت عليهم السلام

من الأمور المستفادة من الزيارة الجامعة أنّ المسيرة البشريّة تنقسم دائماً إلى خطّين هما: خطّ الهدى، وخطّ الضلالة، بقيادة أئمّة الهدى وأئمّة الضلالة. وأئمّة أهل البيت عليهم السلام هم أئمّة الهدى. أمّا غيرهم ممّن تصدّى للإمامة ويخالفهم في خطّهم ونهجهم فهو من أئمّة الضلال. فلذلك لا يكون التلقّي إلّا منهم ولا يكون نهج التحرّك إلّا نهجهم، لذا يقول عليه السلام : ” السلام على أئمّة الهدى ومصابيح الدجى وأعلام التقى وذوي النهى…”.
فالأئمّة هم: “ذوو الحجى وكهف الورى وورثة الأنبياء والمثل الأعلى…”.
ومن خلال هذه المقاطع يشير الإمام عليه السلام إلى أنّ حركة أهل البيت عليهم السلام حركة أصيلة ذات عمق في المسيرة النبويّة الراشدة. وكلّ حركة تدّعي المنهج الدينيّ أو الإصلاح الدنيويّ ولا تسير على خطاهم فهي منحرفة لأنّ أهل البيت عليهم السلام محلّ معرفة الله ومساكن بركته ومعادن حكمته وحفظة سرّه وحملة كتابه وأوصياء أنبيائه.

تتمة هذا البحث في المقال التالي إن شاء الله تعالی

……………………….

1- رجال الكشي، م. س: 518 ـ 519
2- م.ن: 518 ـ 519
3- فرقة النصيريّة من فرق غلاة الشيعة، وهم يعرفون الآن باسم (العلويّة) و(النصيريّة)
4- تحف العقول، م.س: 338 ـ 356
5- أمالي الصدوق، م.س: 1/489، وهناك نصّ يشير إلى موقف الأئمّة عليهم السلام من هذه المسألة، قال أبو هاشم الجعفري: خطر ببالي أنّ القرآن مخلوقٌ أم غير مخلوق، فقال أبو محمّد عليه السلام: “يا أبا هاشم: الله خالقُ كلِّ شيء، وما سواه مخلوق” المناقب: 2/467.
6- بحار الأنوار، م. س: 89/121
7- بحار الأنوار، م. س: كتاب المزار

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.