مفهوم العبادة في الشريعة الإسلامية 04
النُسُك:
المَنْسَك والمَنْسِك عند العرب: الموضع المعتاد الذي تعتاده، والمَنْسِك: الموقع الذي تذبح فيه النسيكة والنسائِك: أي الذبيحة، ونَسَكَ يَنْسِك نسْكًا إذا ذبح، وقولهم: نَسَك وتنسّك: إذا عبد وصار ناسكًا والجمع: نُسّاك(١)، قال الخليل: (النُسُك: العبادة، يقال: نَسَك ينْسُكُ نُسْكًا فهو ناسك)(٢)، وقولهم نسكَ الثوب: غسله بالماء وطَهّره(٣).
هذه هي أهم المعاني اللغوية التي جاءت لهذه المادة، ومن خلالها نظر العلماء إلى هذه اللفظة على أساس مرادفتها للفظة العبادة، لان المتأمل في معاني اللفظة، يجد أن فحواها يصب في معنى العبادة العامة، وان كانت عبادة غير شرعية، لأنها ليست بنية القربة لله تعالى، وإنما هي بنية القربة للأصنام، ومع ذلك فقد جعلها العلماء لفظة تدل على العبادة لان القران الكريم قد استعملها بهذا المفهوم في بعض الآيات، فكانت بذلك دالة على العبادة الشرعية الحقة بعد أن لم تكن كذلك.
والمتتبع لآيات القران الكريم، يجد إنها استعملت هذه المادة بصور متنوعة، غير مكتفية بصورة واحدة، فذكر القران لفظة (نُسُك) وأراد بها الذبح في قوله تعالى: )وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك( (البقرة: 196)، بمعنى ذبح شاةٍ (4)، كما انه استعمل اللفظة نفسها بمعنى العبادة في قوله تعالى:)قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين( (الإنعام: 162)، وقد ذكر الزمخشري أن المعنى في هذه الآية: (عبادتي وتقربي كله، وقيل: وذبحي، وقيل: صلاتي وحجي من مناسك الحج)(5) ، وكلام الزمخشري يبين لنا اختلاف العلماء في تفسير هذه اللفظة، فمن ذهب إلى القول بان المراد: الذبيحة في الحج، إنما أراد الملائمة مع قول الله تعالى، ] فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [ (الكوثر: 2) ، ذلك أنه جمع بين الصلاة والذبح ، إذن فهو في هذا المقام قد جمع أيضا بين الصلاة والنحر، ومن ذهب إلى القول بان المراد بالنُسُك هنا هو الحج، إنما أراد الجمع بين معنيي الصلاة والحج معًا، لتحقيق مبدأ الشمولية في العبادة أولا، وثانيًا ليجتمع ركنان مهمان من أركان الإسلام في خطاب الله تعالى ألا وهو الصلاة والحج، وفي ذلك يقول الطوسي: (وإنما ضم الصلاة إلى أصل واجبات الحج، لان فيها التعظيم لله تعالى عند التكبير)([1]) ، فالصلاة تفتح بالتكبير وأساسها التكبير، وكذلك الحج فان التكبير يعد لبّه وأساسه. ويبدو لي أن هذا القول أرجح من القول بان معنى النسك: العبادة العامة، وذلك نظرًا لوجود أمرين:
الأول: أن وجود العطف بين الصلاة والنُسُك يدل على إنهما أمران متغايران.
الثاني: أن الصلاة جزء من العبادة، فلا يمكن لله تعالى أن يعطف المعنى الجزئي للعبادة على معناها الكلي، فالعبادة عامة والصلاة خاصة، والعطف بينهما سيكون من باب الاعتباط، وحاشا لله أن يكون كلامه اعتباطًا، وفي ضوء ذلك فان تفسير لفظة النُسُك بمعنى الحج يكون ملائمًا للسياق القرآني في هذه الآية.
كذلك استعمل القران لفظة (مَنْسَك) بمعناها العبادي في قوله تعالى: )لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوه((الحج: 67)، فالمَنْسَك هنا يراد به جميع العبادات التي أمر بها الله ([2]) وبعضهم ذهب إلى أن المراد: العبد أو هي بمعنى متعبدًا في إراقة الدم بمنى وغيرها ([3]).
ومقام الآية يدلنا إلى اختيار القول الأول الدال على المعنى العبادي الخاص بالأحكام الشرعية من دون غيره من الآراء، لان الله تعالى لا يمكن أن يجعل الأمم تتيه في ظلمات الكفر والإلحاد، بل انه نوّرها بنور الهداية والإيمان برسله الذين حملوا رسالة الإخلاص الأبدي من عالم الظلمات إلى عالم النور، عالم مليء بالإيمان والعمل الصالح، عالم قائم على عبادة الله والاعتراف بربوبيته، ومن اجل ذلك فقد جعل الله لكل امة طريقة خاصة في العبادات، من خلال الأديان السماوية ، متمثلة بكتبها وصحفها التي انزلها الله تعالى على أنبيائه، فكانت ترسم لهم طريق الفوز بالجنة الأخروية.
كل هذه الآيات جعلت الكثير من العلماء والمفسرين يعتقدون بترادف لفظة النسك مع لفظة العبادة، لأنهما يحملان معنى واحدًا – وان كان مختلفا من حيث المفهوم الجاهلي لها والمفهوم الإسلامي- من خلال جعل النسك العبادة الخالصة لله تعالى، في حين كان النسك عبادة غير خالصة لله تعالى، وإنما كانت للأصنام، (لان القرابين والذبائح لها دلالات دينية قديمة، حيث كانت تقدم للآلهة)(4)، ولكن الملاحظ أن هذه اللفظة وان كان معناها يدل عل العبادة، إلا أنها ارتبطت بشكل خاص بفريضة الحج أكثر من غيره من الفرائض، وأصبحت مناسك الحج معروفة بتعاليمها وطقوسها والمراد بها عبادات الحج حصرًا(5)، كقوله تعالى: )فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا((البقرة: 200)، وهذا ما يؤكده احد الباحثين المعاصرين إذ يقول: (فالنسك في الأصل: العبادة مطلقًا، وكل حق لله تعالى يتقرب به من صلاة وغيرها، ثم صار علمًا بالغلبة على الحج والعمرة، أو على كل عمل من أعمالها)(6).
ويبدو لي أن القول بترادف هاتين اللفظتين أمر يدعو للتأمل والنظر، انطلاقا من القاعدة التي ذكرتها سابقًا من أن العبادة معنى عام، وتتمثل بجميع الأحكام الصادرة من لدن الله تعالى، وان الأخذ بهذه الأحكام ومحاولة تطبيقها على واقع الحال، يعد أمرا متمما لمعنى العبادة العام، ومن ذلك لفظة النسك، فكل معانيها اللغوية والقرآنية، تركز على ارتباطها بشعائر الحج وطقوسه الربانية، والدليل على ذلك أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمل المعنى نفسه لهذه اللفظة، إذ يقول: (خذوا عني مناسككم)(1) ويريد: شعائر الحج، فهذه إذن تحقق جانبًا مهما أو ركنًا مهمًا من أركان العبادة، فإذا كانت هذه اللفظة جزءًا من معنى عام، فلا يمكن إطلاقها على معنى كلي بصورة مطلقة، فالجزء ما هذا إلا مفردة واحدة من مفردات الكل، اللهم إلا إذا كان من باب المجاز، وهو غير موجود في هذا السياق لعدم وجود قرينة تدل عليه.
إذن هناك معنى العبادة الكل، ومعنى النُسك الجزء، فكل نسك عبادة، وليست كل عبادة نسك بدليل قوله تعالى: )قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين( (الإنعام: 162)، فالصلاة عبادة، والنسك عبادة أيضا لكن وجود العطف في هذه الآية دلّ على أن الصلاة تختلف عن النسك الذي فُسّر هنا بمعنى الحج (2)، ومع ذلك فكلاهما يعدّ عبادة، ومتمم لأركان الإسلام التي بينّها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ( بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا اله إلا الله وان محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت)(3).
تتمة هذا البحث في المقال التالي إن شاء الله تعالی
………………………
(١) ينظر: اللسان: (نسك).
(٢) العين: 5/ 314 (نسك)، ينظر: الصحاح (نسك).
(٣) ينظر: الدراسات الفقهية: 560.
(4) ينظر: تفسير الجلالين: 38، الدراسات الفقهية : 560 .
(5) الكشاف : 2/64، وينظر: التبيان : 4/235 ، كنز العرفان : 1/227 .
([1]) التبيان: 4/ 335.
([2]) ينظر: التبيان: 7/ 299، الدراسات الفقهية: 559.
([3]) ينظر: المصدران انفسهما.
(4) الألفاظ الإسلامية وتطور دلالتها: 24.
(5) ينظر: المفردات: 802، تفسير الجلالين: 200.
(6) الدراسات الفقهية: 560.
(1) سنن البيهقي الكبرى : 3/125 .
(2) ينظر: كنز العرفان: 1/ 227.
(3) صحيح البخاري: 1/12 .