اسس المرجعیة الدینیة
یمکن القول ان مصطلح المرجعیة مأخوذ من بعض الروایات التی أرجعت الناس الى الفقهاء، من قبیل ما جاء فی التوقیع الشریف من قوله((علیه السلام)): «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلى رواة احادیثنا»(1).
إلا أن هذه الظاهرة المهمة فی حیاة مدرسة أهل البیت، لم تکن تملک ـ باستمرار ـ الأبعاد القیادیة کلها، ومنذ عصر الغیبة.
صحیح أنّ الأمة ـ بمقتضى توجیهات ائمة اهل البیت((علیهم السلام)) ـ کانت تدرک أنّ القیادة الحقیقة متوافرة فی هذه الفئة، باعتبارها الأقرب إلى القیادة المعصومة علماً وسلوکاً، وباعتبار ما جاء من روایات تؤکّد على اشتراط الفقه فی القاضی واشتراط العلم فی الامام، وانّ الفقیه هو الحصن لهذه الاُمّة وما إلى ذلک. صحیح انّ بعض علماء مدرسة اهل البیت((علیهم السلام)) استطاعوا بقدرتهم العلمیة الضخمة ان یمسکوا بزمام الفتوى فی مجمل کیان مدرسة اهل البیت((علیهم السلام)) من قبیل الشیخ المفید والشیخ الطوسی والشهید الاول، وإنّ عظمة الشیخ الطوسی((رحمه الله)) أدّت إلى سدّ أبواب الاجتهاد لعشرات السنین ـ کما یقال ـ إلاّ انّ ذلک کان یتبع القدرات الشخصیة لامثال هؤلاء العظماء، لا إلى وجود مبدأ مقرّر فی الحیاة الشیعیة یصل إلیه هؤلاء وغیرهم بشکل طبیعی.
وحدة الولایة وتعددها
هذا من جهة المرجعیة الفتوائیة، فاذا أضفنا إلى ذلک النقاط الأخرى التی تمتعت بها المرجعیة وهی مسألة (الولایة)، أدرکنا بوضوح أکثر عدم وجود هذه الصفات بشکل مستمر وعلى مرّ العصور.
وواضح انّ (ولایة الأمر) لا تبعیض فیها بین النفوس والاعراض والاموال، ولا بین منطقة ومنطقة من العالم. فالدولة الاسلامیة واحدة، والقانون واحد، وولیّ الامر هو ولیّ الأمر على الجمیع، هذا طبعاً إذا رفضنا النظرات التجزیئیة التی ولّدتها عصور التمزّق فی الخلافة، الأمر الذی ترک آثاره حتى على نظر الفقهاء إلى النظام السیاسی الاسلامی.
إذا نظرنا للموضوع بهذه الروح وتصفّحنا تاریخ اهل البیت((علیهم السلام)) أدرکنا حقیقتین أساسیتین:
الاولى ـ لزوم وحدة الولیّ وعدم تعدّده، وهی حقیقة یؤدّی إلیها النظر فی کل أدلّة الولایة، وملاحظة عدم وجود نصّ عام أو إطلاق فیها یجعل الولایة لکلّ فقیه، وهو ما أثبتناه فی البحث السابق، بل هو واضح تماماً، إذا أدرکنا لوازمه، ومنها ان نتصوّر مئات القیادات والرؤوس (المتساویة فی الصلاحیة) للدولة الاسلامیة. وهذا أمر لا یقبله منطق سلیم، فضلاً عن انّه مما أکّدت الروایات الاسلامیة رفضه(2).
الثانیة ـ انّ مثل هذه الخصائص لم تکن متجلّیة فی أیّ شخص باعتباره مرجعاً فی الفتوى وولیّاً عاماً للمسلمین أو الشیعة بالخصوص، له حقّ التصرّف فی الأموال وغیرها.
بل انّنا نجد الفقهاء ـ حتّى أواخر القرن الخامس الهجری ـ یحارون فی أمر التصرّف فی سهم الامام((علیه السلام)) من الخمس، ثمّ تحوّل الرأی عن ذلک بعد وضوح انّ الخمس لم یکن لشخص الامام بل لمنصبه، باعتباره راعیاً للامّة ومطبّقاً للشریعة. ومع ذلک، وجدنا الأمر متردّداً بین الدفع الشخصی المباشر لهذه الضرائب المالیة أو اللجوء إلى خصوص الفقهاء، کما رأى العلامة المجلسی((رحمه الله)) حتى کان الشیخ الانصاری الاعظم((رضی الله عنه)) الذی یقول: «فلو طلب الفقیه الزکاة والخمس من المکلّف، فلا دلیل على وجوب الدفع إلیه شرعاً، نعم لو ثبت شرعاً اشتراط صحّة ادائها بدفعه إلى الفقیه مطلقاً، أو بعد المطالبة وأفتى بذلک الفقیه وجب اتباعه…»(3).
وهکذا نجد صاحب الحدائق یردّ على نظریة العلاّمة المجلسی فیقول: «انّا لم نقف له على دلیل»(4).
وعلى أیّ حال، فاننا نتصوّر انّ (المرجعیة) تُعدّ ظاهرة متقدّمة وناجعة، طرحت نفسها بحقّ فی التاریخ الشیعی، وتطوّرت بمرور الأیام وتعقّد العلاقات ونموّ الحاجة إلى قیادة علمائیة جامعة للشتات، وموحِّدة للصفوف، إن على صعید الفتوى أو على صعید القیادة، وهذا تاریخها الناصع یوضّح لنا بما لا یقبل الشکّ انّها ـ وعلى الرغم من بعض الضعف فی نظامها ـ کانت رأس الحربة فی محاربة البدع والانحرافات، لا بل فی محاربة الاستعمار والاستبداد، على الرغم من أنّها لم تکن تملک سلطة رسمیة، إلاّ فی بعض العصور، کالمحقّق الثانی فی عصر الدولة الصفویة، والمرحوم کاشف الغطاء فی عصر الدولة القاجاریّة. بل ربما کانت محاربة فی کلّ مکان، وانّما کانت تعتمد فقط على النفوذ المعنوی والعلمی الذی تملکه بین الجماهیر المؤمنة.
الاسس التی قامت علیها المرجعیة
انّها مجموعة من أسس فقهیة، وأخرى نابعة من طبیعة الوضع الاجتماعی وتعقیده وشدّة الضغط المعادی، والحاجة الى الوحدة فی المواجهة.
اما الاسس الفقهیة فیمکن ان نحصرها فیما یلی:
1 ـ أدلّة التقلید، بما فیها مسألة اشتراط الاعلمیة.
2 ـ أدلّة ولایة الفقیه.
ولسنا بحاجة إلى توضیح الاسس الطبیعیة والاجتماعیة التی تطلّبت هذه الحالة فهی واضحة.
وقد تعاظمت هذه الاسس حتى بلغت بالمرجعیة إلى حدّ القیادة الفعلیة العملیة السائدة، وهناک طُرحت فی البین تساؤلات کثیرة:
منها: فی مجال کیفیة انتخاب المرجع، وهل تُترک على عواهنها؟ باعتبار انّ اللـه تعالى أعلم حیـث یجعل رسالتـه، وهـی عبارة منقولة عن المرحوم الامام الاصفهانی، أو انّ من الطبیعی ان توضع صیغة عملیّة معقولة فی البین، خاصةً بعد ملاحظة التآمر الکبیر على مدرسة اهل البیت((علیهم السلام)) والتخطیط المعادی الذی یسعى لضربها وإجهاضها.
ومنها: فی مجال إمکانیة تعدّد المراجع، أی تعدّد المواقف القیادیة من جهة، والمواقف السلوکیّة الشرعیة من جهة أخرى، لا بین منطقتین متباعدتین فقط، بل وحتّى فی مدینة واحدة، کالنجف الاشرف وقم المقدسة وغیرهما.
ومنها: مسألة ضرورة الاستعانة بشورى فقهاء، أو إمکان تفرد الفقیه فی الفتوى مع وجود الاختلاف فی الاذواق، وتشعّب شؤون الحیاة وتعقّد العلاقات الاجتماعیة، وإمکان تسرّب عناصر الضغط المصلحیة أحیاناً إلى مناصب مهمّة تترک أثرها على مسیرة الأمّة.
کلّ هذه التساؤلات کانت تُطرح، إلاّ أنها کانت تختفی تماماً بملاحظة الآثار الایجابیة الکبرى التی تترکها المرجعیّة فی الحیاة من جهة، وعدم تحوّل هذه التساؤلات إلى مشاکل حقیقیة، باعتبار ما کان علیه الوضع الشیعی من تشرذم وتفرّق وضعف لا یشعر معه الانسان العادی بحرج کبیر فی تعدّد الفتاوى والمرجعیات والقرارات، من جهة اخرى.
أضف إلى ذلک، أنّ العداء الاستکباری والتحامل، لم یکن بلغ إلى حدّ التحرّک إلى الداخل الشیعی بشکل قویّ، باعتبار عدم ادراکه ـ کما یبدو ـ لعمق هذا النفوذ المعنوی.
المرجعیة بعد انتصار الثورة الاسلامیة
وبعد نجاح الثورة الاسلامیة الکبرى فی إیران بقیادة المرجع الاسلامی العظیم الامام الخمینی((رضی الله عنه))، هذه الثورة التی قلبت الموازین العالمیة رأساً على عقب، وعطّلت الکومبیوتر السیاسی الغربی، وبعثت من الرمیم حسّاً إسلامیاً ضخمـاً فـی الجماهیر الاسلامیة فی کلّ مکان بلزوم العودة إلى الذات، وصیاغة الحیاة القرآنیة من جدید.
بعد هذا الانتصار الکبیر، طرحت المرجعیة الدینیة نفسها من جدید فی الساحة، کأقوى ما تکون، واشتدّ التآمر على کلّ الوجود المرجعی بشکل قویّ أیضاً، لم یسبق له مثیل، إلاّ أن الذی کان یُبقی تلک التساؤلات فی مستوى عدم الأهمیّة أمور:
1 ـ انّ القیادة الفعلیة للأمّة کانت بید المرجعیة نفسها.
2 ـ انشغال القیادة بلملمة الامور وصیاغة أرکان الدولة ودفع خطط الاعداء.
3 ـ وعی المرجعیة الاخرى لضرورة دعم الثورة الاسلامیة بکلّ قوّة.
4 ـ التأیید الجماهیری القاطع للقیادة الثوریة الاسلامیة. إلى الحدّ الذی لم یکن لیسمح لأیّ خلاف ان یترک أثره على الساحة، حتّى انّه عندما اختلف أحد المتصدّین للامور المرجعیة مع الثورة، وراح یعارض مسیرتها، رفضته الجماهیر الاسلامیة نفسها وتخلّت عنه، وهکذا مرّت هذه الفترة بسلام.
إلاّ أن الذی بعث التساؤلات من جدید هو رحیل الامام الخمینی القائد المثالی العظیم((رضی الله عنه))، وانتقال القیادة إلى تلمیذ مخلص من تلامذته، وفقیه کبیر واع لکلّ مشاکل الخطّ ومعالم الطریق، إلاّ انّه لم یکن فی مقام أحد المراجع المعروفین. ثم تتابعت الأحداث بوفاة مراجع الأمّة، کالامام الخوئی والامام الکلبایکانی وغیرهم، الأمر الذی بعث التساؤلات الماضیة من جدید.
ومما جعل الاجابة عن تلک التساؤلات أمراً محتّماً، جملةُ ظواهر جدیدة منها:
الاولى ـ ارتفاع العداء الکافر، ومحاولات التسلّل إلى حصن المرجعیة الحصین، حتّى عادت إذاعات الکفر تتدخّل فی هذا الموضوع المقدّس. بل وراح بعض العملاء من الحکّام یضغطون لتحقیق مآربهم.
الثانیة ـ طرح مرشحین للمرجعیة یعرف الواعون من الأمّة سوابق بعضهم وعدم صلاحیتهم لذلک، ومدى خطورتهم على مستقبل الصحوة الاسلامیة وعلاقات الامّة بالقیادة نفسها.
الثالثة ـ التفسیرات الجدیدة لموضوع الأعلمیة الدخیلة فی صیاغتها المرجعیة، باعتبارها أوسع مما تصوّره فقهاؤنا (رحمهم الله) من القدرة الأکبر على الاستنباط، وخصوصاً فی بعض الابواب الفقهیة، إلى حدّ جعلها جزءاً من الأعلمیة یُضاف إلیها جزءٌ آخر مهمّ هو القدرة على استیعاب الحوادث الزمانیة والمکانیة، ومصلحة الأمّة الاسلامیة، ومعرفة الترابط بین الهیکلیة الاسلامیة کلّها، بما فیها من أحکام للحیاة ومفاهیم تصوّریة،تترک آثارها على صعید العمل، ونظریات تمیزها عن النظریات الأخرى، کالاشتراکیة والرأسمالیة، وغیر ذلک من عناصر لها أثرها الکبیر فی عملیة الاستنباط.
وهکذا برزت من جدید مشاکل (الأعلمیة) و(الانتخاب الاصلح) و(المرجعیة الرشیدة) وغیر ذلک.
مقترحات حول مستقبل المرجعیة
قبل کلّ شیء نجد انفسنا بحاجة إلى التأکید من جدید، على انّ الحالة الشعبیة العامّة لا تتحمّل مطلقاً قیادتین فعلیّتین وولیّین فعلیّین کما مرّ، وأکّدنا ذلک من ذی قبل. فینبغی على المخلصین لمصالح الامة ومستقبل الثورة الاسلامیة والکیان الإمامی ان یدرکوا ذلک ویعملوا ما أمکنهم على تحقیق أحد أمرین:
الاول ـ توحید المرجعیة والقیادة إذا أرید للمرجعیة ان تحتفظ بما تملکه الیوم من خصائص.
الثانی ـ ان تعود المرجعیة إلى وظیفتها الحقیقیة فی المجال الافتائی، مع السعی لتوحید الموقف الافتائی العام، من خلال انضمام باقی المجتهدین إلى حوزة المرجع الاعلى، المنتخب بطریقة واقعیة تُبعد الامّة عن الوقوع فی الهلکات، وعدم الافتاء العامّ للناس لیتوحّد الموقف الافتائی. أو أن نطرح فکرة (شورى الافتاء) من أول الامر، وهی فکرة منسجمة تمام الانسجام، مع کلّ الادلّة التی تطرح التقلید کنظام شرعی مقبول.
المصادر :
1- وسائل الشیعة ج18، الباب الحادی عشر، الحدیث التاسع.
2- منها ما جاء فی صحیحة الحسین بن أبی العلاء: قلت لأبی عبدالله((علیه السلام)): «تکون الارض لیس فیها إمام؟ قال: لا، قلت: یکون إمامان؟ قال لا: إلاّ وأحدهما صامت». الکافی ج1، ص178. وهو ما أیدته روایات أخرى من قبیل ما جاء فی علل الشرائع للصدوق، ص254 من قوله((علیه السلام)): «فإن قیل: فلم لا یجوز ان یکون فی الارض امامان فی وقت واحد أو أکثر من ذلک؟ قیل لعلل کثیرة، منها: انّ الواحد لا یختلف فعله وتدبیره، والاثنین لا یتّفق فعلُهما وتدبیرهما…».
3- الشیخ الأنصاری، المکاسب، ص154، ط تبریز.
4- الشیخ یوسف البحرانی، الحدائق، ج12، ص470
الموقع:erfan.ir