الامام علي عليه السلام ومعاوية قبل الحرب
لما أراد الامام علي عليه السلام المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : « أما بعد فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر. وقد أردنا المسير إلى عدونا ، وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم ».
فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : « أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها. وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان.
كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ولكن الدنيا يطلبون. فسر بنا إليهم ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال. وإن أبو إلا الشقاق فذلك الظن بهم. والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، و [ لا ] يسمع إذا أمر ».
نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد ابن أبي الكنود ، أن عمار بن ياسر قام فذكر الله بما هو أهله ، وحمده وقال : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل. شخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم. فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا فوالله إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند الله ، وهو كرامة منه ».
وفي هذا الحديث : ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد ، فوالله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم في دين الله ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد صلىاللهعليهوآله ، من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه. وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم ـ فيما يزعمون ـ قطعين. قال : يعني رقيق.
فقال أشياخ الأنصار ، منهم خزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما : لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام؟ فقال : أما إني عارف بفضلكم ، معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب.
فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم. فقالوا : قم يا سهل بن حنيف. فقام سهل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت ، وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك. وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل ؛ فإنهم هم أهل البلدوهم الناس. فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب. وأما نحن فليس عليك منا خلاف ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك ».
نصر : عمر بن سعد ، عن أبي مخنف ، عن زكريا بن الحارث ، عن أبي حشيش ، عن معبد قال : قام علي خطيبا على منبره ، فكنت تحت المنبر حين حرض الناس وأمرهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام. فبدأ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
« سيروا إلى أعداء [ الله. سيروا إلى أعداء ] السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار ».
فقام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال : أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك ، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم. كلا ، ها الله إذا لا نفعل ذلك. فقام الأشتر فقال : من لهذا إيها الناس ؟ وهرب الفزاري واشتد الناس على أثره ، فلحق بمكان من السوق تباع فيه البراذين ، فوطئوه بأرجلهم وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم حتى قتل ، فأتى علي فقيل : يا أمير المؤمنين ، قتل الرجل. قال : ومن قتله؟ قالوا : قتلته همدان وفيهم شوبة من الناس. فقال : قتيل عمية لا يدري من قتله ، ديته من بيت مال المسلمين. وقال علاقة التيمي :
أعوذ بربي أن تكون منيتي / كما مات في سوق البراذين أربد
تعاوره همدان خفق نعالهم / إذا رفعت عنه يد وضعت يد
قال : وقام الأشتر فحمد الله وأثنى عليه فقال : « يا أمير المؤمنين ، لا يهدنك ما رأيت ، ولا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن. جميع من ترى من الناس شيعتك ، وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبون بقاء بعدك. فإن شئت فسر بنا إلى عدوك. والله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه ، وما يعيش بالآمال إلا شقى. وإنا لعلى بينة من ربنا أن نفسا لن تموت حتى يأتي أجلها ، فكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين ، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين [ بالأمس ] فأسخطوا الله ، وأظلمت بأعمالهم الأرض ، وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير ».
فقال علي عليهالسلام : « الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فله ما نوى وقد قضى ما عليه ». ثم نزل فدخل منزله.
نصر : عمر بن سعد قال : حدثني أبو زهير العبسي ، عن النضر بن صالح ، أن عبد الله بن المعتم العبسي ، وحنظلة بن الربيع التميمي ، لما أمر علي عليهالسلام الناس بالمسير إلى الشام ، دخلا في رجال كثير من غطفان وبني تميم على أمير المؤمنين ، فقال له التميمي : « يا أمير المؤمنين ، إنا قد مشينا إليك بنصيحة فاقبلها منا ، ورأينا لك رأيا فلا ترده علينا ، فإنا نظرنا لك ولمن معك. أقم وكاتب هذا الرجل ، ولا تعجل إلى قتال أهل الشام ، فإني والله ما أدري ولا تدري لمن تكون إذا التقيتم الغلبة ، وعلى من تكون الدبرة ».
وقام ابن المعتم فتكلم ، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل ما تكلم به ، فحمد على الله وأثنى عليه ، وقال :
« أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد ، ورب السموات السبع والأرضين السبع ، وإليه ترجعون. يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. أما الدبرة فإنها على [ الضالين ] العاصين ، ظفروا أو ظفر بهم. وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفا ، ولا ينكروا منكرا ».
فقام إليه معقل بن قيس اليربوعي ثم الرياحي فقال :
« يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء والله ما أتوك بنصح ، ولا دخلوا عليك إلا بغش ، فاحذرهم فإنهم أدنى العدو ».
فقال له مالك بن حبيب : يا أمير المؤمنين ، إنه بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف.
وقام إلى علي عياش بن ربيعة ، وقائد بن بكير العبسيان ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية ، فأحبسه أو أمكنا منه نحبسه حتى تنقضي غزاتك وتنصرف. فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم. فقال لهما علي : « الله بيني وبينكم ، وإليه أكلكم ، وبه أستظهر عليكم. اذهبوا حيث شئتم ». ثم بعث علي إلى حنظلة بن الربيع ، المعروف بحنظلة الكاتب (١) ،
وهو من الصحابة ، فقال : يا حنظلة ، أعلي أم لي؟ قال : لا عليك ولا لك. قال : فما تريد؟ قال : اشخص إلى الرها ، فإنه فرج من الفروج ، اصمد له حتى ينقضى هذا الأمر. فغضب من ذلك خيار بني عمرو بن تميم ـ وهم رهطه ـ فقال : إنكم والله لا تغروني من ديني. دعوني فأنا أعلم منكم. فقالوا : والله لئن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك ـ لأم ولده ـ ولا ولدها. ولئن أردت ذلك لنقتلنك. فأعانه ناس من قومه فاخترطوا سيوفهم ، فقال : أجلوني [ حتى ] أنظر. فدخل منزله وأغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية ، وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير ، ولحق ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية ، وخرج معه أحد عشر رجلا من قومه. وأما حنظلة فخرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه ، ولكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا ، فقال حنظلة حين خرج إلى معاوية :
يسل غواة عند بابي سيوفها / ونادى مناد في الهجيم لأقبلا
سأترككم عودا لأصعب فرقة / إذا قلتم كلا يقول لكم بلى
قال : فلما هرب حنظلة أمر علي بداره فهدمت ، هدمها عريفهم بكر بن تميم ، وشبث بن ربعي ، فقال في ذلك :
أيا راكبا إما عرضت فبلغن / مغلغلة عني سراة بني عمرو
فأوصيكم بالله والبر والتقي / ولا تنظروا في النائبات إلى بكر
ولا شبث ذي المنخرين كأنه / أزب جمال في ملاحية صفر
وقال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان :
أبلغ معاوية بن حرب خطة / ولكل سائلة تسيل قرار
انقبلن دنية تعطونها / في الأمر حتى تقتل الأنصار
وكما تبوء دماؤهم بدمائكم / وكما تهدم بالديار ديار
وترى نساؤهم يجلن حواسرا / ولهن من علق الدماء خوار
نصر : عمر بن سعد ، عن سعد بن طريف ، عن أبي المجاهد ، عن المحل ابن خليفة قال : قام عدي بن حاتم الطائي [ بين يدي علي عليهالسلام ] فحمد الله بما هو أهله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، ما قلت إلا بعلم ، ولا دعوت إلا إلى حق ، ولا أمرت إلا برشد. فإن رأيت أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم حتى تأتيهم كتبك ، ويقدم عليهم ررسلك ـ فعلت.
وتجر قتلاهم بقتلى حروب / وكما يقدم بالديار ديار
فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا ، والعافية أوسع لنا ولهم. وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم. وقد قدمنا إليهم العذر ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق ، فوالله لهم من الله أبعد ، وعلى الله أهون ، من قوم قاتلناهم بناحية البصرة أمس ، لما أجهد لهم الحق فتركوه ، ناوخناهم براكاء القتال حتى بلغنا منهم ما نحب ، وبلغ الله منهم رضاه فيما يرى ».
فقام زيد بن حصين الطائي ـ وكان من أصحاب البرانس المجتهدين فقال : الحمد لله حتى يرضى ، ولا إله إلا الله ربنا ، ومحمد رسول الله نبينا. إما بعد فوالله لئن كنا في شك من قتال من خالفنا ، لا يصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم. ما الأعمال إلا في تباب ، ولا السعي إلا في ضلال. والله يقول : ( وأما بنعمة ربك فحدث ). إنا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يبتغون دمه ، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم ، القليل في الإسلام حظهم ، أعوان الظلم ومسددي أساس الجور والعدوان. ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ، ولا التابعين بإحسان.
فقام رجل من طيئ فقال : يا زيد بن حصين ، أكلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن؟ قال : فقال زيد : ما أنتم بأعرف بحق عدي مني ، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس. قال : فقال عدي بن حاتم : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء. فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذي عليه.
نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة قال : دخل أبو زبيب بن عوف على علي فقال : « يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا ، وأعظمنا في الخير نصيبا ، ولئن كنا في ضلالة إنك لأثقلنا ظهرا وأعظمنا وزرا : أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله [ من طاعتك ] ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها. أليس الذي نحن عليه الحق المبين ، والذي عليه عدونا الغي والحوب الكبير؟ ».
فقال علي : « [ بلى ] ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولي الله تسيح في رضوانه ، وتركض في طاعته : فأبشر أبا زبيب ».
فقال له عمار بن ياسر : اثبت أبا زبيب ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله.
قال : فقال أبو زبيب : ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما. قال : وخرج عمار [ بن ياسر ] وهو يقول :
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي / سيروا فخير الناس اتباع علي
هذا أوان طاب سل المشرفي / وقودنا الخيل وهز السمهري
عمر بن سعد عن أبي روق قال : دخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهاز وعدة ، وأكثر الناس أهل قوة ومن ليس بمضعف وليس به علة. فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ، ولا من إذا أمكنه الفرص أجلها واستشار فيها ، ولا من يؤخر الحرب في اليوم إلى غد وبعد غد.
فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس ، وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا ، فإن يرد الله بهم خيرا لا يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي صلىاللهعليهوآله ، والقدم في الإسلام ، والقرابة من محمد صلىاللهعليهوآله . وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس.
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : « يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا الله يريدون أو لله يعملون ، ما خالفونا. ولكن القوم إنما يقاتلون فرارا من الأسوة ، وحبا للأثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلي إحن في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها أباءهم وإخوانهم ».
ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد. والله ما أظن أن يفعلوا ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المران ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمة بين الفريقين.
نصر : عمر بن سعد ، عن عبد الرحمن ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الله بن شريك قال : خرج حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام ، فأرسل إليهما علي : أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ؛ ألسنا محقين؟ قال : بلى. [ قالا : أو ليسوا مبطلين؟ قال : بلى ]. قالا : فلم منعتنا من شتمهم؟ قال : « كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرءون. ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ، ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر. و قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ، كان هذا أحب إلى وخيرا لكم ». فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك. وقال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يرفع ذكرى به ، ولكن أجبتك لخصال خمس : أنك ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأول من آمن به ، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد صلىاللهعليهوآله ، وأبو الذرية التى بقيت فينا من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد. فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح البحور الطوامي حتى يأتي على يومي في أمر أقوى به وليك وأوهن به عدوك ، ما رأيت أنى قد أديت فيه كل الذي يحق على من حقك.
فقال أمير المؤمنين علي : اللهم نور قلبه بالتقى ، واهده إلى صراط مستقيم ، ليت أن في جندي مائة مثلك ، فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين صح جندك ، وقل فيهم من يغشك.
ثم قال حجر فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن بنو الحرب وأهلها ، الذين نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها ، ولنا أعوان ذو وصلاح ، وعشيرة ذات عدد ، ورأي مجرب وبأس محمود ، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ؛ فإن شرقت شرقنا ، وإن غربت غربنا ، وما أمرتنا به من أمر فعلناه. فقال علي : « أكل قومك يرى مثل رأيك؟ » قال : « ما رأيت منهم إلا حسنا ، وهذه يدى عنهم بالسمع والطاعة ، وبحسن الإجابة ». فقال له علي خيرا.
قال نصر : وفي حديث عمر بن سعد قال : وكتب علي إلى عماله ، فكتب إلى مخنف بن سليم :
سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه ، وهب في نعاس العمي والضلال اختيارا له ـ فريضة على العارفين. إن الله يرضى عمن أرضاه ، ويسخط على من عصاه. وإنا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفئ ، وعطلوا الحدود ، وأماتوا الحق ، وأظهروا في الأرض الفساد ، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه وأدنوه وبروه فقد أصروا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف. وقديما ما صدوا عن الحق ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين. فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف علي عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلك تلقى هذا العدو المحل فتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، وتجامع الحق وتباين الباطل ؛ فإنه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد. وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكتب عبد الله بن أبي رافع سنة سبع وثلاثين.
فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع ، واستعمل على همدان سعيد بن وهب ـ وكلاهما من قومه ـ وأقبل حتى شهد مع علي صفين.
وكان علي قد استخلف ابن عباس على البصرة ، فكتب عبد الله بن عباس إلى علي يذكر له اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه علي :
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فالحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله. أما بعد فقد قدم على رسولك وذكرت ما رأيت وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي وسأخبرك عن القوم : هم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو عقوبة يخشاها. فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والإنصاف له والإحسان إليه ؛ وحل عقدة الخوف عن قلوبهم ، فإنه ليس لأمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم إلا قليل منهم. وانته إلى أمرى ولا تعده ، وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة ، وكل من قبلك فأحسن إليهم ما استطعت إن شاء الله. والسلام. وكتب عبد الله بن أبي رافع في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين.
وكتب : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأسود بن قطنة. أما بعد فإنه من لم ينتفع بما وعظ لم يحذر ما هو غابر ومن أعجبته الدنيا رضي بها ، وليست بثقة. فاعتبر بما مضى تحذر ما بقى ، واطبخ للمسلمين قبلك من الطلاء ما يذهب ثلثاه ، وأكثر لنا من لطف الجند ، واجعله مكان ما عليهم من أرزاق الجند ، فإن للولدان علينا حقا ، وفي الذرية من يخاف دعاؤه ، وهو لهم صالح. والسلام.وكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عامر. أما بعد فإن خير الناس عند الله عز وجل أقومهم لله بالطاعة فيما له وعليه ، وأقولهم بالحق ولو كان مرا ، فإن الحق به قامت السماوات والأرض. ولتكن سريرتك كعلانيتك ، وليكن حكمك واحدا ، وطريقتك مستقيمة ، فإن البصرة مهبط الشيطان. فلا تفتحن على يد أحد منهم بابا لا نطيق سده نحن ولا أنت. والسلام.وكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم ، فاقسمه من قبلك حتى تغنيهم ، وابعث إلينا بما فضل نقسمه فيمن قبلنا. والسلام.وكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فإن الإنسان قد يسره ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه وإن جهد. فليكن سرورك فيما قدمت من حكم أو منطق أو سيرة ، وليكن أسفك على ما فرطت لله فيه من ذلك. ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزنا ، وما أصابك فيها فلا تبغ به سرورا. وليكن همك فيما بعد الموت. والسلام.
وكتب إلى أمراء الجنود :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين. أما بعد فإن حق الوالي ألا يغيره على رعيته أمر ناله ولا أمر خص به ، وأن يزيده ما قسم الله له دنوا من عباده وعطفا عليهم. ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ، ولا أطوي عنكم أمرا إلا في حكم ، ولا أؤخر حقا لكم عن محله ، ولا أرزأكم شيئا ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء. فإذا فعلت ذلك وجبت عليكم النصيحة والطاعة. فلا تنكصوا عن دعوتي ، ولا تفرطوا في صلاح دينكم من دنياكم ، وأن تنفذوا لما هو لله طاعة ، ولمعيشتكم صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ولا يأخذكم في الله لومة لائم. فإن أبيتم أن تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون علي ممن فعل ذلك منكم ، ثم أعاقبه عقوبة لا يجد عندي فيها هوادة. فخذوا هذا من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم ، يصلح الله أمركم. والسلام.
وكتب إلى أمراء الخراج :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمراء الخراج (2)
. أما بعد فإنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ولم يحرزها. ومن اتبع هواه وانقاد له على ما يعرف نفع عاقبته عما قليل ليصبحن من النادمين. ألا وأن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه. فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم من خير ، وما سوى ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف ورحيم بالعباد. وإن عليكم ما فرطتم فيه ، وإن الذي طلبتم ليسير ، وإن ثوابه لكبير. ولو لم يكن فيما نهى عنه من الظلم والعدوان عقاب يخاف ، كان في ثوابه مالا عذر لأحد بترك طلبته فارحموا ترحموا ، ولا تعذبوا خلق الله ولا تكلفوهم فوق طاقتهم ، وأنصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية. لا تتخذن حجابا ، ولا تحجبن أحدا عن حاجته حتى ينهيها إليكم. ولا تأخذوا أحدا بأحد إلا كفيلا عمن كفل عنه ، واصبروا أنفسكم على ما فيه الاغتباط ، وإياكم وتأخير العمل ودفع الخير ، فإن في ذلك الندم. والسلام.وكتب إلى معاوية :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. سلام على من اتبع الهدى ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقى من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى. ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بونا بعيدا. واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية ، ولست تقول فيه بأمر بين تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها وركنت إلى لذتها ، وخلى فيها بينك وبين عدو جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها. فاقعس عن هذا الأمر ، وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك منه مجن. ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعية ، أو ولاة لأمر هذه الأمة بغير قدم حسن ، ولا شرف سابق على قومكم. فشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الشيطان من بغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان. فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء. وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك ، فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وامتنوا به علينا ، ولكنه قضاء ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدق. لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة. اللهم احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين.فكتب معاوية :
بسم الله الرحمن الرحيم
من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك ، فإن الأعمال بخواتيمها ، ولا تمحق سابقتك في حق من لا حق لك في حقه ، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، ولا تبطل إلا حجتك. ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا ؛ لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحق. فاقرأ سورة الفلق ، وتعوذ بالله من شر نفسك ، فإنك الحاسد إذا حسد.وكتب إلى عمرو بن العاص :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص. أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، وصاحبها مقهور فيها ، لم يصب منها شيئا قط إلا فتحت له حرصا ، وأدخلت عليه مؤونة تزيده رغبة فيها ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره. فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله فإن معاوية غمص الناس وسفه الحق والسلام .
وكتب إليه عمرو بن العاص :
من عمرو بن العاص إلى علي بن أبي طالب. أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق ، وأن تجيب إلى ما تدعون إليه من شورى. فصبر الرجل منا نفسه على الحق ، وعذره الناس بالمحاجزة. والسلام.
فجاء الكتاب إلى علي قبل أن يرتحل من النخيلة.
نصر : عمر بن سعد ، عن أبي روق قال : قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل بن ورقاء : إن يومنا ويومهم ليوم عصيب ، ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب ، صادق النية ، رابط الجأش. وايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منا ومنهم إلا الرذال. قال عبد الله بن بديل : والله أظن ذلك. فقال علي : ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما ، لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع. إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له. فطوبى للمجاهدين في سبيل الله ، والمقتولين في طاعته.
فلما سمع هاشم بن عتبة (3) مقالتهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : سربنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلوا حرامه وحرموا حلاله ، واستولاهم الشيطان ووعدهم الأباطيل ومناهم الأماني ، حتى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة إنجاز موعود ربنا. وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه رحما ، وأفضل الناس سبقة وقدما. وهم يا أمير المؤمنين منك مثل الذي علمنا. ولكن كتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين. فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك جذلة على من خالفك وتولى الأمر دونك. والله ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت ، وما تحت السماء مما أظلت ، وأني واليت عدوا لك ، أو عاديت وليا لك.
فقال علي : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ثم إن عليا صعد المنبر فخطب الناس ودعاهم إلى الجهاد ، فبدأ بالحمد لله والثناء عليه ثم قال :
إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ؛ فانصبوا أنفسكم في أداء حقه ، وتنجزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة ، وعراه وثيقة ، ثم جعل الطاعة حظ الأنفس برضا الرب ، وغنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة. وقد حملت أمر أسودها وأحمرها ، ولا قوة إلا بالله. ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له وما لا يدركه : معاوية وجنده ، الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدليهم بغروره. وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علمتم ، واحذروا ما حذركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما أنالكم من الأجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى. فلا أعرف أحدا منكم تقاعس عني وقال : في غيري كفاية ، فإن الذود إلى الذود إبل ، ومن لا يذد عن حوضه يتهدم. ثم إني آمركم بالشدة في الأمر ، والجهاد في سبيل الله ، وألا تغتابوا مسلما. وانتظروا النصر العاجل من الله إن شاء الله.
ثم قام الحسن بن علي خطيبا فقال :
الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، وأثنى عليه بما هو أهله.ثم قال :
إن مما عظم الله عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدي شكره ، ولا يبلغه صفة ولا قول. ونحن إنما غضبنا لله ولكم ؛ فإنه من علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه قولا يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدق الله فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربنا ، قولا يزيد ولا يبيد ؛ فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم ، واستحكمت عقدتهم. فاحتشدوا في قتال عدوكم : معاوية وجنوده ؛ فإنه قد حضر. ولا تخاذلوا ؛ فإن الخذلان يقطع نياط القلوب ؛ وإن الإقدام على الأسنة نجدة وعصمة ؛ لأنه لم يمتنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة ، وكفاهم جوائح الذلة ، وهداهم إلى معالم الملة.
والصلح تأخذ منه ما رضيت [ به ] / والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
ثم قام الحسين بن علي خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء ، [ و ] الشعار دون الدثار ؛ جدوا في إحياء ما دثر بينكم ، وإسهال ما توعر عليكم ، وألفة ما ذاع منكم.
ألا إن الحرب شرها ذريع ، وطعمها فظيع ، وهي جرع متحساة ، فمن أخذ لها أهبتها ، واستعد لها عدتها ، ولم يألم كلومها عند حلولها ، فذاك صاحبها. ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن ألا ينفع قومه : و [ أن ] يهلك نفسه. نسأل الله بعونه أن يدعمكم بألفته.
ثم نزل. فأجاب عليا إلى السيروالجهاد جل الناس ، إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه ، وفيهم عبيدة السلماني وأصحابه ، فقالوا له : إنا نخرج معكم ، ولا ننزل عسكركم ، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له ، أو بدا منه بغي ، كنا عليه. فقال علي : مرحبا وأهلا ، هذا هو الفقه في الدين ، والعلم بالسنة ، من لم يرض بهذا فهو جائر خائن. وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فيهم ربيع بن خشيم (4)
وهم يومئذ أربعمائة رجل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ، ولا غناء بنا ولا بك ولا المسلمين عمن يقاتل العدو ، فولنا بعض الثغور نكون به تم نقاتل عن أهله. فوجهه علي على ثغر الرى ، فكان أول لواء عقده بالكوفة لواء ربيع بن خثيم.
نصر : عمر بن سعد ، عن ليث بن سليم قال : دعا علي باهلة فقال : يا معشر باهلة ، أشهد الله أنكم تبغضوني وأبغضكم ، فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم. وكانوا قد كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين.
نصر ، عن عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزد عن عبد الله بن عوف ابن الأحمر ، أن عليا لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة ، وكان كتب علي إلى ابن عباس وإلى أهل البصرة :
« أما بعد فأشخص إلي من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكرهم بلائي عندهم ، وعفوي عنهم ، واستبقائي لهم ، ورغبهم في الجهاد ، وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل ».
فقام فيهم ابن عباس فقرأ عليهم كتاب علي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى إمامكم ، وانفروا في سبيل الله خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ؛ فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب ، ولا يدينون دين الحق ، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر والصادع بالحق ، والقيم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ؛ الذي لا يرتشي في الحكم ، ولا يداهن الفجار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
فقام الأحنف بن قيس فقال : نعم ، والله لنجيبنك ، ولنخرجن معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من الله العظيم من الأجر.
وقام إليه خالد بن المعمر السدوسي (5)
وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي (6) ، فقال : وفق الله أمير المؤمنين ، وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ، ولهم في الله مفارقون. فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا.
وأجاب الناس إلى المسير ، ونشطوا وخفوا ، فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدؤلي ، وخرج حتى قدم على على ومعه رءوس الأخماس : خالد بن المعمر السدوسي على بكر بن وائل ، وعمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس ، وصبرة بن شيمان الأزدي على الأزد (7) ،
والأحنف بن قيس على تميم وضبة والرباب ، وشريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية. فقدموا على علي عليهالسلام بالنخيلة. وأمر الأسباع من أهل الكوفة : سعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس ، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش وكنانة وأسد ، ومخنف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة ، وحجر بن عدي الكندي على كندة وحضر موت وقضاعة ومهرة ، وزياد بن النضر على مذحج والأشعريين ، وسعيد بن قيس بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير ، وعدي بن حاتم على طيئ ، ويجمعهم الدعوة مع مذحج وتختلف الرايتان : راية مذحج مع زياد بن النضر ، وراية طيئ مع عدي بن حاتم.
المصادر :
1- حنظلة بن الربيع ـ ويقال ابن ربيعة ـ بن صيفي ، ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب. وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مرة كتابا فسمى بذلك « الكاتب ». وكانت الكتابة قليلة في العرب. وكان ممن تخف عن علي عليهالسلام يوم الجمل. وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « لليهود يوم وللنصارى يوم ، فلو كان لنا يوم » فنزلت سورة الجمعة. انظر الإسابة ١٨٥٥ والمعارف ١٣٠.
2- في نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد ( ٤ : ١١٥ ) : « أصحاب الخراج ».
3- هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. وكان معه لواء علي رضي الله عنه يوم صفين ، وقتل في آخر أيامها. انظر الإصابة ٨٩١٣ والاشتقاق ٩٦.
4- خثيم ، بهيئة التصغير. انظر الاشتقاق ١١٢ وشرح الحيوان ( ٤ : ٢٩٢ ).
5- ترجم له في الإصابة ٢٣١٧ فيمن له إدراك.فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرنا ، ومتى دعوتنا أجبنا.
6- مرجوم ، بالجيم ، كان من أشراف عبد القيس ورؤسائها في الجاهلية ، وقد مدحه المسيب بن عباس. وكان ابنه عمرو سيدا شريفا في الإسلام. ذكره ابن حجر في الصحابة. انظر الإصابة ٥٩٥٤.
7- في الأصل : « سيمان » صوابه بالشين كما في الاشتقاق ٢٩٩.
فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : « أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها. وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان.
كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ولكن الدنيا يطلبون. فسر بنا إليهم ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال. وإن أبو إلا الشقاق فذلك الظن بهم. والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، و [ لا ] يسمع إذا أمر ».
نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد ابن أبي الكنود ، أن عمار بن ياسر قام فذكر الله بما هو أهله ، وحمده وقال : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل. شخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم. فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا فوالله إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند الله ، وهو كرامة منه ».
وفي هذا الحديث : ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد ، فوالله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم في دين الله ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد صلىاللهعليهوآله ، من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه. وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم ـ فيما يزعمون ـ قطعين. قال : يعني رقيق.
فقال أشياخ الأنصار ، منهم خزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما : لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام؟ فقال : أما إني عارف بفضلكم ، معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب.
فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم. فقالوا : قم يا سهل بن حنيف. فقام سهل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت ، وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك. وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل ؛ فإنهم هم أهل البلدوهم الناس. فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب. وأما نحن فليس عليك منا خلاف ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك ».
نصر : عمر بن سعد ، عن أبي مخنف ، عن زكريا بن الحارث ، عن أبي حشيش ، عن معبد قال : قام علي خطيبا على منبره ، فكنت تحت المنبر حين حرض الناس وأمرهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام. فبدأ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
« سيروا إلى أعداء [ الله. سيروا إلى أعداء ] السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار ».
فقام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال : أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك ، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم. كلا ، ها الله إذا لا نفعل ذلك. فقام الأشتر فقال : من لهذا إيها الناس ؟ وهرب الفزاري واشتد الناس على أثره ، فلحق بمكان من السوق تباع فيه البراذين ، فوطئوه بأرجلهم وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم حتى قتل ، فأتى علي فقيل : يا أمير المؤمنين ، قتل الرجل. قال : ومن قتله؟ قالوا : قتلته همدان وفيهم شوبة من الناس. فقال : قتيل عمية لا يدري من قتله ، ديته من بيت مال المسلمين. وقال علاقة التيمي :
أعوذ بربي أن تكون منيتي / كما مات في سوق البراذين أربد
تعاوره همدان خفق نعالهم / إذا رفعت عنه يد وضعت يد
قال : وقام الأشتر فحمد الله وأثنى عليه فقال : « يا أمير المؤمنين ، لا يهدنك ما رأيت ، ولا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن. جميع من ترى من الناس شيعتك ، وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبون بقاء بعدك. فإن شئت فسر بنا إلى عدوك. والله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه ، وما يعيش بالآمال إلا شقى. وإنا لعلى بينة من ربنا أن نفسا لن تموت حتى يأتي أجلها ، فكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين ، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين [ بالأمس ] فأسخطوا الله ، وأظلمت بأعمالهم الأرض ، وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير ».
فقال علي عليهالسلام : « الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فله ما نوى وقد قضى ما عليه ». ثم نزل فدخل منزله.
نصر : عمر بن سعد قال : حدثني أبو زهير العبسي ، عن النضر بن صالح ، أن عبد الله بن المعتم العبسي ، وحنظلة بن الربيع التميمي ، لما أمر علي عليهالسلام الناس بالمسير إلى الشام ، دخلا في رجال كثير من غطفان وبني تميم على أمير المؤمنين ، فقال له التميمي : « يا أمير المؤمنين ، إنا قد مشينا إليك بنصيحة فاقبلها منا ، ورأينا لك رأيا فلا ترده علينا ، فإنا نظرنا لك ولمن معك. أقم وكاتب هذا الرجل ، ولا تعجل إلى قتال أهل الشام ، فإني والله ما أدري ولا تدري لمن تكون إذا التقيتم الغلبة ، وعلى من تكون الدبرة ».
وقام ابن المعتم فتكلم ، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل ما تكلم به ، فحمد على الله وأثنى عليه ، وقال :
« أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد ، ورب السموات السبع والأرضين السبع ، وإليه ترجعون. يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. أما الدبرة فإنها على [ الضالين ] العاصين ، ظفروا أو ظفر بهم. وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفا ، ولا ينكروا منكرا ».
فقام إليه معقل بن قيس اليربوعي ثم الرياحي فقال :
« يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء والله ما أتوك بنصح ، ولا دخلوا عليك إلا بغش ، فاحذرهم فإنهم أدنى العدو ».
فقال له مالك بن حبيب : يا أمير المؤمنين ، إنه بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف.
وقام إلى علي عياش بن ربيعة ، وقائد بن بكير العبسيان ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية ، فأحبسه أو أمكنا منه نحبسه حتى تنقضي غزاتك وتنصرف. فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم. فقال لهما علي : « الله بيني وبينكم ، وإليه أكلكم ، وبه أستظهر عليكم. اذهبوا حيث شئتم ». ثم بعث علي إلى حنظلة بن الربيع ، المعروف بحنظلة الكاتب (١) ،
وهو من الصحابة ، فقال : يا حنظلة ، أعلي أم لي؟ قال : لا عليك ولا لك. قال : فما تريد؟ قال : اشخص إلى الرها ، فإنه فرج من الفروج ، اصمد له حتى ينقضى هذا الأمر. فغضب من ذلك خيار بني عمرو بن تميم ـ وهم رهطه ـ فقال : إنكم والله لا تغروني من ديني. دعوني فأنا أعلم منكم. فقالوا : والله لئن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك ـ لأم ولده ـ ولا ولدها. ولئن أردت ذلك لنقتلنك. فأعانه ناس من قومه فاخترطوا سيوفهم ، فقال : أجلوني [ حتى ] أنظر. فدخل منزله وأغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية ، وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير ، ولحق ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية ، وخرج معه أحد عشر رجلا من قومه. وأما حنظلة فخرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه ، ولكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا ، فقال حنظلة حين خرج إلى معاوية :
يسل غواة عند بابي سيوفها / ونادى مناد في الهجيم لأقبلا
سأترككم عودا لأصعب فرقة / إذا قلتم كلا يقول لكم بلى
قال : فلما هرب حنظلة أمر علي بداره فهدمت ، هدمها عريفهم بكر بن تميم ، وشبث بن ربعي ، فقال في ذلك :
أيا راكبا إما عرضت فبلغن / مغلغلة عني سراة بني عمرو
فأوصيكم بالله والبر والتقي / ولا تنظروا في النائبات إلى بكر
ولا شبث ذي المنخرين كأنه / أزب جمال في ملاحية صفر
وقال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان :
أبلغ معاوية بن حرب خطة / ولكل سائلة تسيل قرار
انقبلن دنية تعطونها / في الأمر حتى تقتل الأنصار
وكما تبوء دماؤهم بدمائكم / وكما تهدم بالديار ديار
وترى نساؤهم يجلن حواسرا / ولهن من علق الدماء خوار
نصر : عمر بن سعد ، عن سعد بن طريف ، عن أبي المجاهد ، عن المحل ابن خليفة قال : قام عدي بن حاتم الطائي [ بين يدي علي عليهالسلام ] فحمد الله بما هو أهله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، ما قلت إلا بعلم ، ولا دعوت إلا إلى حق ، ولا أمرت إلا برشد. فإن رأيت أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم حتى تأتيهم كتبك ، ويقدم عليهم ررسلك ـ فعلت.
وتجر قتلاهم بقتلى حروب / وكما يقدم بالديار ديار
فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا ، والعافية أوسع لنا ولهم. وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم. وقد قدمنا إليهم العذر ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق ، فوالله لهم من الله أبعد ، وعلى الله أهون ، من قوم قاتلناهم بناحية البصرة أمس ، لما أجهد لهم الحق فتركوه ، ناوخناهم براكاء القتال حتى بلغنا منهم ما نحب ، وبلغ الله منهم رضاه فيما يرى ».
فقام زيد بن حصين الطائي ـ وكان من أصحاب البرانس المجتهدين فقال : الحمد لله حتى يرضى ، ولا إله إلا الله ربنا ، ومحمد رسول الله نبينا. إما بعد فوالله لئن كنا في شك من قتال من خالفنا ، لا يصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم. ما الأعمال إلا في تباب ، ولا السعي إلا في ضلال. والله يقول : ( وأما بنعمة ربك فحدث ). إنا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يبتغون دمه ، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم ، القليل في الإسلام حظهم ، أعوان الظلم ومسددي أساس الجور والعدوان. ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ، ولا التابعين بإحسان.
فقام رجل من طيئ فقال : يا زيد بن حصين ، أكلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن؟ قال : فقال زيد : ما أنتم بأعرف بحق عدي مني ، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس. قال : فقال عدي بن حاتم : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء. فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذي عليه.
نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة قال : دخل أبو زبيب بن عوف على علي فقال : « يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا ، وأعظمنا في الخير نصيبا ، ولئن كنا في ضلالة إنك لأثقلنا ظهرا وأعظمنا وزرا : أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله [ من طاعتك ] ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها. أليس الذي نحن عليه الحق المبين ، والذي عليه عدونا الغي والحوب الكبير؟ ».
فقال علي : « [ بلى ] ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولي الله تسيح في رضوانه ، وتركض في طاعته : فأبشر أبا زبيب ».
فقال له عمار بن ياسر : اثبت أبا زبيب ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله.
قال : فقال أبو زبيب : ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما. قال : وخرج عمار [ بن ياسر ] وهو يقول :
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي / سيروا فخير الناس اتباع علي
هذا أوان طاب سل المشرفي / وقودنا الخيل وهز السمهري
عمر بن سعد عن أبي روق قال : دخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهاز وعدة ، وأكثر الناس أهل قوة ومن ليس بمضعف وليس به علة. فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ، ولا من إذا أمكنه الفرص أجلها واستشار فيها ، ولا من يؤخر الحرب في اليوم إلى غد وبعد غد.
فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس ، وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا ، فإن يرد الله بهم خيرا لا يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي صلىاللهعليهوآله ، والقدم في الإسلام ، والقرابة من محمد صلىاللهعليهوآله . وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس.
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : « يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا الله يريدون أو لله يعملون ، ما خالفونا. ولكن القوم إنما يقاتلون فرارا من الأسوة ، وحبا للأثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلي إحن في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها أباءهم وإخوانهم ».
ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد. والله ما أظن أن يفعلوا ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المران ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمة بين الفريقين.
نصر : عمر بن سعد ، عن عبد الرحمن ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الله بن شريك قال : خرج حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام ، فأرسل إليهما علي : أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ؛ ألسنا محقين؟ قال : بلى. [ قالا : أو ليسوا مبطلين؟ قال : بلى ]. قالا : فلم منعتنا من شتمهم؟ قال : « كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرءون. ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ، ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر. و قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ، كان هذا أحب إلى وخيرا لكم ». فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك. وقال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يرفع ذكرى به ، ولكن أجبتك لخصال خمس : أنك ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأول من آمن به ، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد صلىاللهعليهوآله ، وأبو الذرية التى بقيت فينا من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد. فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح البحور الطوامي حتى يأتي على يومي في أمر أقوى به وليك وأوهن به عدوك ، ما رأيت أنى قد أديت فيه كل الذي يحق على من حقك.
فقال أمير المؤمنين علي : اللهم نور قلبه بالتقى ، واهده إلى صراط مستقيم ، ليت أن في جندي مائة مثلك ، فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين صح جندك ، وقل فيهم من يغشك.
ثم قال حجر فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن بنو الحرب وأهلها ، الذين نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها ، ولنا أعوان ذو وصلاح ، وعشيرة ذات عدد ، ورأي مجرب وبأس محمود ، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ؛ فإن شرقت شرقنا ، وإن غربت غربنا ، وما أمرتنا به من أمر فعلناه. فقال علي : « أكل قومك يرى مثل رأيك؟ » قال : « ما رأيت منهم إلا حسنا ، وهذه يدى عنهم بالسمع والطاعة ، وبحسن الإجابة ». فقال له علي خيرا.
قال نصر : وفي حديث عمر بن سعد قال : وكتب علي إلى عماله ، فكتب إلى مخنف بن سليم :
سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه ، وهب في نعاس العمي والضلال اختيارا له ـ فريضة على العارفين. إن الله يرضى عمن أرضاه ، ويسخط على من عصاه. وإنا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، واستأثروا بالفئ ، وعطلوا الحدود ، وأماتوا الحق ، وأظهروا في الأرض الفساد ، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه ، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه وأدنوه وبروه فقد أصروا على الظلم ، وأجمعوا على الخلاف. وقديما ما صدوا عن الحق ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين. فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف علي عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلك تلقى هذا العدو المحل فتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، وتجامع الحق وتباين الباطل ؛ فإنه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد. وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكتب عبد الله بن أبي رافع سنة سبع وثلاثين.
فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع ، واستعمل على همدان سعيد بن وهب ـ وكلاهما من قومه ـ وأقبل حتى شهد مع علي صفين.
وكان علي قد استخلف ابن عباس على البصرة ، فكتب عبد الله بن عباس إلى علي يذكر له اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه علي :
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فالحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله. أما بعد فقد قدم على رسولك وذكرت ما رأيت وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي وسأخبرك عن القوم : هم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو عقوبة يخشاها. فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والإنصاف له والإحسان إليه ؛ وحل عقدة الخوف عن قلوبهم ، فإنه ليس لأمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم إلا قليل منهم. وانته إلى أمرى ولا تعده ، وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة ، وكل من قبلك فأحسن إليهم ما استطعت إن شاء الله. والسلام. وكتب عبد الله بن أبي رافع في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين.
وكتب : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأسود بن قطنة. أما بعد فإنه من لم ينتفع بما وعظ لم يحذر ما هو غابر ومن أعجبته الدنيا رضي بها ، وليست بثقة. فاعتبر بما مضى تحذر ما بقى ، واطبخ للمسلمين قبلك من الطلاء ما يذهب ثلثاه ، وأكثر لنا من لطف الجند ، واجعله مكان ما عليهم من أرزاق الجند ، فإن للولدان علينا حقا ، وفي الذرية من يخاف دعاؤه ، وهو لهم صالح. والسلام.وكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عامر. أما بعد فإن خير الناس عند الله عز وجل أقومهم لله بالطاعة فيما له وعليه ، وأقولهم بالحق ولو كان مرا ، فإن الحق به قامت السماوات والأرض. ولتكن سريرتك كعلانيتك ، وليكن حكمك واحدا ، وطريقتك مستقيمة ، فإن البصرة مهبط الشيطان. فلا تفتحن على يد أحد منهم بابا لا نطيق سده نحن ولا أنت. والسلام.وكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فانظر ما اجتمع عندك من غلات المسلمين وفيئهم ، فاقسمه من قبلك حتى تغنيهم ، وابعث إلينا بما فضل نقسمه فيمن قبلنا. والسلام.وكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس. أما بعد فإن الإنسان قد يسره ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه وإن جهد. فليكن سرورك فيما قدمت من حكم أو منطق أو سيرة ، وليكن أسفك على ما فرطت لله فيه من ذلك. ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزنا ، وما أصابك فيها فلا تبغ به سرورا. وليكن همك فيما بعد الموت. والسلام.
وكتب إلى أمراء الجنود :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين. أما بعد فإن حق الوالي ألا يغيره على رعيته أمر ناله ولا أمر خص به ، وأن يزيده ما قسم الله له دنوا من عباده وعطفا عليهم. ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب ، ولا أطوي عنكم أمرا إلا في حكم ، ولا أؤخر حقا لكم عن محله ، ولا أرزأكم شيئا ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء. فإذا فعلت ذلك وجبت عليكم النصيحة والطاعة. فلا تنكصوا عن دعوتي ، ولا تفرطوا في صلاح دينكم من دنياكم ، وأن تنفذوا لما هو لله طاعة ، ولمعيشتكم صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ولا يأخذكم في الله لومة لائم. فإن أبيتم أن تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون علي ممن فعل ذلك منكم ، ثم أعاقبه عقوبة لا يجد عندي فيها هوادة. فخذوا هذا من أمرائكم ، وأعطوهم من أنفسكم ، يصلح الله أمركم. والسلام.
وكتب إلى أمراء الخراج :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمراء الخراج (2)
. أما بعد فإنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ولم يحرزها. ومن اتبع هواه وانقاد له على ما يعرف نفع عاقبته عما قليل ليصبحن من النادمين. ألا وأن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره ، وإن أشقاهم من اتبع هواه. فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم من خير ، وما سوى ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف ورحيم بالعباد. وإن عليكم ما فرطتم فيه ، وإن الذي طلبتم ليسير ، وإن ثوابه لكبير. ولو لم يكن فيما نهى عنه من الظلم والعدوان عقاب يخاف ، كان في ثوابه مالا عذر لأحد بترك طلبته فارحموا ترحموا ، ولا تعذبوا خلق الله ولا تكلفوهم فوق طاقتهم ، وأنصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية. لا تتخذن حجابا ، ولا تحجبن أحدا عن حاجته حتى ينهيها إليكم. ولا تأخذوا أحدا بأحد إلا كفيلا عمن كفل عنه ، واصبروا أنفسكم على ما فيه الاغتباط ، وإياكم وتأخير العمل ودفع الخير ، فإن في ذلك الندم. والسلام.وكتب إلى معاوية :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. سلام على من اتبع الهدى ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقى من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى. ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بونا بعيدا. واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية ، ولست تقول فيه بأمر بين تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها وركنت إلى لذتها ، وخلى فيها بينك وبين عدو جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها. فاقعس عن هذا الأمر ، وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك منه مجن. ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعية ، أو ولاة لأمر هذه الأمة بغير قدم حسن ، ولا شرف سابق على قومكم. فشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الشيطان من بغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان. فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء. وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك ، فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وامتنوا به علينا ، ولكنه قضاء ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدق. لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة. اللهم احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين.فكتب معاوية :
بسم الله الرحمن الرحيم
من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك ، فإن الأعمال بخواتيمها ، ولا تمحق سابقتك في حق من لا حق لك في حقه ، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، ولا تبطل إلا حجتك. ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا ؛ لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحق. فاقرأ سورة الفلق ، وتعوذ بالله من شر نفسك ، فإنك الحاسد إذا حسد.وكتب إلى عمرو بن العاص :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص. أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، وصاحبها مقهور فيها ، لم يصب منها شيئا قط إلا فتحت له حرصا ، وأدخلت عليه مؤونة تزيده رغبة فيها ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع ، والسعيد من وعظ بغيره. فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله فإن معاوية غمص الناس وسفه الحق والسلام .
وكتب إليه عمرو بن العاص :
من عمرو بن العاص إلى علي بن أبي طالب. أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا وألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق ، وأن تجيب إلى ما تدعون إليه من شورى. فصبر الرجل منا نفسه على الحق ، وعذره الناس بالمحاجزة. والسلام.
فجاء الكتاب إلى علي قبل أن يرتحل من النخيلة.
نصر : عمر بن سعد ، عن أبي روق قال : قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل بن ورقاء : إن يومنا ويومهم ليوم عصيب ، ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب ، صادق النية ، رابط الجأش. وايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منا ومنهم إلا الرذال. قال عبد الله بن بديل : والله أظن ذلك. فقال علي : ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما ، لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع. إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب الله له. فطوبى للمجاهدين في سبيل الله ، والمقتولين في طاعته.
فلما سمع هاشم بن عتبة (3) مقالتهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : سربنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلوا حرامه وحرموا حلاله ، واستولاهم الشيطان ووعدهم الأباطيل ومناهم الأماني ، حتى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة إنجاز موعود ربنا. وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه رحما ، وأفضل الناس سبقة وقدما. وهم يا أمير المؤمنين منك مثل الذي علمنا. ولكن كتب عليهم الشقاء ، ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين. فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك جذلة على من خالفك وتولى الأمر دونك. والله ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت ، وما تحت السماء مما أظلت ، وأني واليت عدوا لك ، أو عاديت وليا لك.
فقال علي : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيك صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ثم إن عليا صعد المنبر فخطب الناس ودعاهم إلى الجهاد ، فبدأ بالحمد لله والثناء عليه ثم قال :
إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ؛ فانصبوا أنفسكم في أداء حقه ، وتنجزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة ، وعراه وثيقة ، ثم جعل الطاعة حظ الأنفس برضا الرب ، وغنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة. وقد حملت أمر أسودها وأحمرها ، ولا قوة إلا بالله. ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه ، وتناول ما ليس له وما لا يدركه : معاوية وجنده ، الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويدليهم بغروره. وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علمتم ، واحذروا ما حذركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما أنالكم من الأجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى. فلا أعرف أحدا منكم تقاعس عني وقال : في غيري كفاية ، فإن الذود إلى الذود إبل ، ومن لا يذد عن حوضه يتهدم. ثم إني آمركم بالشدة في الأمر ، والجهاد في سبيل الله ، وألا تغتابوا مسلما. وانتظروا النصر العاجل من الله إن شاء الله.
ثم قام الحسن بن علي خطيبا فقال :
الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، وأثنى عليه بما هو أهله.ثم قال :
إن مما عظم الله عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدي شكره ، ولا يبلغه صفة ولا قول. ونحن إنما غضبنا لله ولكم ؛ فإنه من علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه قولا يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدق الله فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربنا ، قولا يزيد ولا يبيد ؛ فإنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم ، واستحكمت عقدتهم. فاحتشدوا في قتال عدوكم : معاوية وجنوده ؛ فإنه قد حضر. ولا تخاذلوا ؛ فإن الخذلان يقطع نياط القلوب ؛ وإن الإقدام على الأسنة نجدة وعصمة ؛ لأنه لم يمتنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة ، وكفاهم جوائح الذلة ، وهداهم إلى معالم الملة.
والصلح تأخذ منه ما رضيت [ به ] / والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
ثم قام الحسين بن علي خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء ، [ و ] الشعار دون الدثار ؛ جدوا في إحياء ما دثر بينكم ، وإسهال ما توعر عليكم ، وألفة ما ذاع منكم.
ألا إن الحرب شرها ذريع ، وطعمها فظيع ، وهي جرع متحساة ، فمن أخذ لها أهبتها ، واستعد لها عدتها ، ولم يألم كلومها عند حلولها ، فذاك صاحبها. ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن ألا ينفع قومه : و [ أن ] يهلك نفسه. نسأل الله بعونه أن يدعمكم بألفته.
ثم نزل. فأجاب عليا إلى السيروالجهاد جل الناس ، إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه ، وفيهم عبيدة السلماني وأصحابه ، فقالوا له : إنا نخرج معكم ، ولا ننزل عسكركم ، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له ، أو بدا منه بغي ، كنا عليه. فقال علي : مرحبا وأهلا ، هذا هو الفقه في الدين ، والعلم بالسنة ، من لم يرض بهذا فهو جائر خائن. وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فيهم ربيع بن خشيم (4)
وهم يومئذ أربعمائة رجل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ، ولا غناء بنا ولا بك ولا المسلمين عمن يقاتل العدو ، فولنا بعض الثغور نكون به تم نقاتل عن أهله. فوجهه علي على ثغر الرى ، فكان أول لواء عقده بالكوفة لواء ربيع بن خثيم.
نصر : عمر بن سعد ، عن ليث بن سليم قال : دعا علي باهلة فقال : يا معشر باهلة ، أشهد الله أنكم تبغضوني وأبغضكم ، فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم. وكانوا قد كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين.
نصر ، عن عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزد عن عبد الله بن عوف ابن الأحمر ، أن عليا لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة ، وكان كتب علي إلى ابن عباس وإلى أهل البصرة :
« أما بعد فأشخص إلي من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكرهم بلائي عندهم ، وعفوي عنهم ، واستبقائي لهم ، ورغبهم في الجهاد ، وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل ».
فقام فيهم ابن عباس فقرأ عليهم كتاب علي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، استعدوا للمسير إلى إمامكم ، وانفروا في سبيل الله خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ؛ فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب ، ولا يدينون دين الحق ، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر والصادع بالحق ، والقيم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ؛ الذي لا يرتشي في الحكم ، ولا يداهن الفجار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
فقام الأحنف بن قيس فقال : نعم ، والله لنجيبنك ، ولنخرجن معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من الله العظيم من الأجر.
وقام إليه خالد بن المعمر السدوسي (5)
وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي (6) ، فقال : وفق الله أمير المؤمنين ، وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلين القاسطين ، الذين لا يقرءون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ، ولهم في الله مفارقون. فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا.
وأجاب الناس إلى المسير ، ونشطوا وخفوا ، فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدؤلي ، وخرج حتى قدم على على ومعه رءوس الأخماس : خالد بن المعمر السدوسي على بكر بن وائل ، وعمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس ، وصبرة بن شيمان الأزدي على الأزد (7) ،
والأحنف بن قيس على تميم وضبة والرباب ، وشريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية. فقدموا على علي عليهالسلام بالنخيلة. وأمر الأسباع من أهل الكوفة : سعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس ، ومعقل بن قيس اليربوعي على تميم وضبة والرباب وقريش وكنانة وأسد ، ومخنف بن سليم على الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة ، وحجر بن عدي الكندي على كندة وحضر موت وقضاعة ومهرة ، وزياد بن النضر على مذحج والأشعريين ، وسعيد بن قيس بن مرة الهمداني على همدان ومن معهم من حمير ، وعدي بن حاتم على طيئ ، ويجمعهم الدعوة مع مذحج وتختلف الرايتان : راية مذحج مع زياد بن النضر ، وراية طيئ مع عدي بن حاتم.
المصادر :
1- حنظلة بن الربيع ـ ويقال ابن ربيعة ـ بن صيفي ، ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب. وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مرة كتابا فسمى بذلك « الكاتب ». وكانت الكتابة قليلة في العرب. وكان ممن تخف عن علي عليهالسلام يوم الجمل. وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « لليهود يوم وللنصارى يوم ، فلو كان لنا يوم » فنزلت سورة الجمعة. انظر الإسابة ١٨٥٥ والمعارف ١٣٠.
2- في نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد ( ٤ : ١١٥ ) : « أصحاب الخراج ».
3- هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. وكان معه لواء علي رضي الله عنه يوم صفين ، وقتل في آخر أيامها. انظر الإصابة ٨٩١٣ والاشتقاق ٩٦.
4- خثيم ، بهيئة التصغير. انظر الاشتقاق ١١٢ وشرح الحيوان ( ٤ : ٢٩٢ ).
5- ترجم له في الإصابة ٢٣١٧ فيمن له إدراك.فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرنا ، ومتى دعوتنا أجبنا.
6- مرجوم ، بالجيم ، كان من أشراف عبد القيس ورؤسائها في الجاهلية ، وقد مدحه المسيب بن عباس. وكان ابنه عمرو سيدا شريفا في الإسلام. ذكره ابن حجر في الصحابة. انظر الإصابة ٥٩٥٤.
7- في الأصل : « سيمان » صوابه بالشين كما في الاشتقاق ٢٩٩.
الموقع:erfan.ir