منهج الإمام الباقر علیه السلام مع مخالفیه (۱)
ونقل عنه مع اختلاف یسیر قال الجاحظ : جمع الباقر علیه السلام : صلاح شأن الدنیا بحذافیرها فی کلمتین ، فقال علیه السلام : صلاح شأن التعایش والتعاشر مثل مکیال ، ثلثاه فطنه وثلث تغافل . ( [۳] ) ولعله حصل سقط فی الروایه من قبل الروای .
کما رویت هذه الکلمه عن الإمام زین العابدین والإمام الصادق علیهما السلام مع اختلاف یسیر .
وهنا عده نقاط :
۱- صلاح الدنیا :
الدنیا قائمه على المصالح فکل فرد من أفراد المجتمع وکل فئه من فئاته یسعى إلى مصلحته التی یتصورها ویذهب عمره وقواه وقدراته فی سبیل تحصیل تلک المصلحه فقد یتحصل على بعض طموحاته وأهدافه التی یصبو إلیها سواء کانت فی مصلحته أو مضرته فی الواقع ، لا شک أن الناس جمیعا یبحثون عن مصالحهم الاقتصادیه والاجتماعیه والسیاسیه والمعنویه وما الحروب القائمه بین المجتمعات إلا لأجل المصالح .
لقد اهتم الإسلام بصلاح شأن الدنیا إلى حد کبیر وجعلها مزرعه للآخره فمن لا یزرع لا یحصد ، وجعلها دار اختبار وامتحان للإنسان وعندها یکرم أو یهان ، وذم الکسل فی العمل لأجل نفسه وعیاله ، کما مدح العامل الکادح والکاد على عیاله واعتبره من المجاهدین ، وإنما ذم الدنیا التی تقود الإنسان إلى الظلم والعدوان وتقود صاحبها إلى النار وخراب الآخره .
۲- صلاح الناس
الإمام الباقر علیه السلام یشخص الداء ویضع الدواء للعلاج فهو یجمع صلاح شأن الدنیا بکاملها وحذافیرها فی صلاح شأن جمیع الناس على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم رجالاً ونساء قدیماً وحدیثاً عالمهم وجاهلهم بدویهم وحضریهم أبیضهم وأسودهم ، المتقدم منهم والمتأخر ، المتدین منهم والعلمانی ، وبقیه أفراد الناس کلهم بحاجه إلى إصلاح ولذلک بعث الله النبیین والمرسلین لهدایه البشریه جمعاً وإصلاح شأنهم قال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْکِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِیدَ فِیهِ بَأْسٌ شَدِیدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِیَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَیْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِیٌّ عَزِیزٌ) (الحدید:۲۵).
وهذه مهمه الأنبیاء والرسل ، والإمام الباقر علیه السلام هو أحد أئمه الهدى من آل الرسول صلى الله علیه وآله وتحمل المسئولیه لهدایه البشریه وإصلاح شأنهم إلى وضع النقاط على الحروف فی وضع العلاج الناجع لصلاح شأن الناس .
۳- أسباب الصلاح فی نظر الإمام
ذکر الإمام علیه السلام سببین رئیسیین لصلاح شأن الناس وهما :
الأول : التعایش :
بین الناس بعضهم مع بعض ، وهو مأخوذ من التفاعل بین طرفین أو أطراف أکثر .
والتعایش مأخوذ من العیش وهو الحیاه فلابد أن یذعن الإنسان کما أن له حق الحیاه على وجه الأرض بحریه تامه کذلک یجب أن یعترف ویذعن أن للآخرین أن یعیشوا بحریه تامه فی هذه الحیاه مهما اختلفوا معه فی مفاهیم الحیاه فی اللغه أو الدین أو المذهب أو الأعرق أو اللون أو الحاکمیه والمحکومیه أو غیر ذلک وفی جانب تعایش الناس روی عن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال : صانع المنافق بلسانک ، وأخلص مودتک للمؤمن ، وإن جالسک یهودی فأحسن مجالسته [۴]
وقوله صانع : ربما یکون مأخوذا :
من التصنع : وهو تکلف حسن السمت والعمل [۵]
أو من المصانعه : وهی : أن تصنع لغیرک شیئاً لیصنع لک آخر مقابله [۶] والمصانعه باللسان : أسلوب فی المدارات مع الناس والعیش معهم بسلام.
ومن الآداب الإسلامیه : حسن المجالسه مع من تجالس مسلماً کان أو مسیحیاً أو یهودیاً أو غیرهم وقد تأثر کثیر من غیر المسلین وتحولوا إلى الإسلام بسبب حسن المجالسه أو المعاشره وتعرفهم على تلک الآداب العظیمه . کما تقدم فی إسلام ذمی على ید الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام لأنه مشى معه وشیعه فی طریقه .
هذا إذا کان الناس فی بلد واحده أو دوله ولا بد من التعیش بعضهم مع بعض کما فی کثیر من البلدان المختلطه بین المسلمین وغیرهم وبین مختلف المذاهب الإسلامیه التی تعیش فی بلد واحد أو فی بلدان متفرقه .
وأما إذا احتلت بلاد المسلمین من غیرهم کما فاحتلال الصهاینه بالقوه لفلسطین والأماکن المقدسه کبیت المقدس فلا یجوز التعایش معهم والرضوخ للأمر الواقع بل یجب التصدی لهم ودحرهم وتحریر الأراضی الإسلامیه من رجسهم طال الزمان أم قصر فإن هؤلاء غاصبون ومعتدون ولیس لهم إلا الخزی والعار وإخراجهم من بلاد المسلمین .
الثانی :المعاشره
وقد اهتم الإسلام بحسن المعاشره من أصغر دائره فی المجتمع بین الزوج وزوجه إلى أعلا المستویات فیه مروراً بین علاقه الفرد بالمجتمع أو بالدوله وعلاقه الرئیس بالمرؤوس أو علاقه الدوله بالشعب أو بالأفراد أو بالدول الأخرى اتحدت اللغه أو الدیانه أو المذهب أو القومیه أم اختلفت کل ذلک الجمیع مدعوون لحسن المعاشره وقد نظم الإسلام هذه المعاشره خیر تنظیم سواء کان على مستوى الحقوق والواجبات أم على مستوى الندب والأخلاق الفاضل والتنازل والإیثار وحسن الظن وقد امتلأت کتب الحدیث بذلک ففی باب الإحسان للآخرین وصنع المعروف لهم قال الإمام الباقر ( علیه السلام ) : من خالطت فإن استطعت أن تکون یدک العلیا علیه فافعل . وهذا من باب حسن المعاشره والمخالطه .
بل أصبح حسن المعاشره وحسن الأخلاق من أسباب دخول الجنه وسوء الأخلاق من موجبات النار فقد روی عَنْ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ علیه السلام قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص أَکْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ أُمَّتِی فِی النَّارِ الْأَجْوَفَانِ الْبَطْنُ وَ الْفَرْجُ وَ أَکْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ أُمَّتِی فِی الْجَنَّهِ : التَّقْوَى وَ حُسْنُ الْخُلُقِ [۷]
وَعَنْ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ ع قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله علیه وآله وسلم یَقُولُ : لَیْسَ شَیْءٌ أَثْقَلُ فِی الْمِیزَانِ مِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ [۸]
۴- الوعی :
والذی عبر عنه الإمام علیه السلام بالفطنه وهو مهم حیث جعل الصلاح بمنزله مکیال ثلثاه فطنه وثلث تغافل ، والتغافل لا یحصل إلا مع الفطنه فرجع کل الصلاح والخیر للمجتمع إلى الفطن والوعی الذی یحمله الأفراد أو المجموعات ، وهو ینقسم فی بادئ الأمر إلى عده أقسام :
أ- الوعی الدینی : المتدین یلزم أن یکون المتدین واعیاً من أصغر فرد فی المجتمع إلى أعلى شخصیه فیه کل بحسبه وأن یکون التدین قائماً على الوعی والمعرفه للدین الخالص ﴿ أَلا لِلَّهِ الدِّینُ الْخَالِصُ ﴾ (الزمر: من الآیه ۳) وأما إذا کان التدین مبنی على الجهل والقشور للدین فإن هذا سیجر الویلات علیه وعلى المجتمع باسم الدین ، فالوعی الدینی یخدم الدین نفسه کما یصلح المجتمع ، وما فسد مجتمعنا إلا لأنه لم یقم على الدین القویم .
المرجعیه غیر الواعیه : تجر الأمه إلى کوارث وویلات ربما یبقى أثرها على الأمه إلى عقود من الزمن بل إلى قرون منه .
المرجعیه الواعیه : إن مثل هذه المرجعیه تأخذ بید الأمه إلى شاطئ السلامه والعزه والکرامه ویبقى أثر ذلک لعقود من الزمن بل لقرون منه .
ب- الوعی الاجتماعی :
القائم على المدارات بین الناس وقد اهتم الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله بهذا الجانب أصبح عاملا من عوامل القرب إلى الله ودخول الکثیر فی الإسلام بل المدارات من أهم الوسائل للدعوه إلى الحق سبحانه.
فعن النبی ( ص ) انه قال : إنا معاشر الأنبیاء أمرنا بمداراه الناس ، کما أمرنا بإقامه الفرائض [۹].
وعنه صلى الله علیه وآله انه قال : أمرنی ربی بمداراه الناس ، کما أمرنی بأداء الفرائض [۱۰].
وروى ابن مسکویه ( ره ) ، عنه ( ص ) انه قال : رأس العقل بعد الإیمان مداراه الناس [۱۱].
۵- دور التغافل عن ما یعلم
إن من الأمور المهمه التی یجب أن یتصف بها الواعی هو التغافل عما یعلم حتى یتمکن أن یحقق الصلاح فی المجتمع والإمام الباقر علیه السلام جعل دور التغافل فی صلاح المجتمع بنسبه ۳۳% لذلک قال : الإمام علی ( علیه السلام ) : إن العاقل نصفه احتمال ، ونصفه تغافل [۱۲] .
وعنه ( علیه السلام ) : تغافل یحمد أمرک [۱۳].
وعنه ( علیه السلام ) : أشرف أخلاق الکریم تغافله عما یعلم [۱۴].
وعنه ( علیه السلام ) : أشرف خصال الکرم غفلتک عما تعلم [۱۵].
وعنه ( علیه السلام ) : من أشرف أعمال [ أحوال ] الکریم غفلته عما یعلم [۱۶]
وعنه ( علیه السلام ) : من لم یتغافل ولا یغض عن کثیر من الأمور تنغصت عیشته [۱۷].
وقال : الإمام علی ( علیه السلام ) : لا حلم کالتغافل ، لا عقل کالتجاهل [۱۸] .
هذه النصوص وغیرها مما تدلل على أهمیه التغافل والدور الذی یلعبه فی صلاح الأفراد والمجتمعات
ج- الوعی السیاسی : وأن یکون مبنیاً على الحکمه والنصیحه لله ولرسوله ولأئمه المسلمین والدفاع عن الشعوب المستضعفه والمظلومه.
الإمام الباقر علیه السلام والشامی
روى إبراهیم الأحمری، قال حدثنی محمد بن سلیمان، عن أبیه، قال کان رجل من أهل الشام یختلف إلى أبی جعفر (علیه السلام ) و کان مرکزه بالمدینه یختلف إلى مجلس أبی جعفر (علیه السلام ) یقول له یا محمد، ألا ترى أنی إنما أغشى مجلسک حیاء منی لک، و لا أقول إن فی الأرض أحدا أبغض إلی منکم أهل البیت، و أعلم أن طاعه الله و طاعه رسوله و طاعه أمیر المؤمنین فی بغضکم، و لکن أراک رجلا فصیحا، لک أدب و حسن لفظ، و إنما الاختلاف إلیک لحسن أدبک.
وکان أبو جعفر ( علیه السلام ) یقول له خیرا، و یقول لن تخفى على الله خافیه.
فلم یلبث الشامی إلا قلیلا حتى مرض و اشتد وجعه، فلما ثقل دعا ولیه، و قال له إذا أنت مددت علی الثوب فی النعش، فأت محمد بن علی و أعلمه أنی أنا الذی أمرتک بذلک.
قال فلما أن کان فی نصف اللیل ظنوا أنه قد برد و سجوه، فلما أن أصبح الناس خرج ولیه إلى المسجد، فلما أن صلى محمد بن علی (علیه السلام ) و تورک و کان إذا صلى عقب فی مجلسه قال له یا أبا جعفر، إن فلانا الشامی قد هلک، و هو یسألک أن تصلی علیه.
فقال أبو جعفر : کلا، إن بلاد الشام بلاد صر و بلاد الحجاز بلاد حر و لحمها شدید، فانطلق فلا تعجلن على صاحبک حتى آتیکم، ثم قام من مجلسه، فأخذ وضوءا، ثم عاد فصلى رکعتین، ثم مد یده تلقاء وجهه ما شاء الله ثم خر ساجدا حتى طلعت الشمس.
ثم نهض فانتهى إلى منزل الشامی، فدخل علیه، فدعاه فأجابه، ثم أجلسه فسنده، و دعا له بسویق فسقاه، فقال لأهله املئوا جوفه، و بردوا صدره بالطعام البارد، ثم انصرف، فلم یلبث إلا قلیلا حتى عوفی الشامی.
فأتى أبا جعفر (علیه السلام) فقال أخلنی، فأخلاه، فقال أشهد أنک حجه الله على خلقه، و بابه الذی یؤتى منه، فمن أتى من غیرک خاب و خسر و ضل ضلالا بعیدا. قال له أبو جعفر (علیه السلام) و ما بدا لک .
قال أشهد أنی عهدت بروحی و عاینت بعینی، فلم یتفاجأنی إلا و مناد ینادی، أسمعه بأذنی ینادی و ما أنا بالنائم ردوا علیه روحه، فقد سألنا ذلک محمد بن علی.
فقال له أبو جعفر (علیه السلام) أ ما علمت أن الله یحب العبد و یبغض عمله، و یبغض العبد و یحب عمله .
قال فصار بعد ذلک من أصحاب أبی جعفر (علیه السلام). [۱۹]
الخطبه الثانیه
المؤمن ینظر بنور الله
بالأمس مرت علینا ذکرى وفاه الإمام الخمینی ( قدس سره ) بحسب التاریخ الهجری الشمسی وهو من الرجال القلائل الذین ینظرون بنور الله کما فی الحدیث المتقدم ففی سنه ۱۹۸۱م ۲/تشرین الثانی قال الإمام الخمینی :(إننی أنصح جمیع حکومات المنطقه بأن یکفوا عن دعم صدام وأن یخشوا ذلک الیوم الذی یحل غضب الله علیهم).
ففی سنه ۱۹۸۲م ۱۶/أیار قال الإمام الخمینی:(على حکومات المنطقه أن ینتبهوا إلى أنهم إنما یلقون بأنفسهم إلى التهلکه من أجل أمریکا ,…لقد حذرنا مرارا من أن یصبحوا آله بأیدی القوى الکبرى , وقد قلنا أکثر من بأن صدام إذا تمکن من النجاه من ورطته هذه , واستعاد قدرته ,فإنه لیس بذلک الرجل الذی……. وسیضع أعمالکم وما قدمتموه موضع التقدیر ,انه مصاب بجنون العظمه ,ومن المحتم سیبادر بالهجوم علیکم).
إن ما توقعه الإمام قد حل بالمنطقه وحکوماتها وشعوبها ولا زالت تدفع ضریبه ما قدمته لصدام ومن هو على شاکلته .
والحمد لله رب العالمین والصلاه والسلام على محمد وآله الطاهرین وأصحابه المنتجبین .