المرحله الأخیره من حیاه الإمام الجواد
صفات المعتصم
أما صفات المعتصم ونزعاته التی عُرِف بها فهی کما یلی:
الحماقه
وکان من صفات المعتصم الحماقه، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه إذا غضب لا یبالی من قتل ولا ما فعل. وهذا منتهى الحمق الذی هو من أرذل نزعات الإنسان.
کراهته للعلم
وکان المعتصم یکره العلم، ویبغض حملته، وقد کان معه غلام یقرأ معه فی الکتاب، فتوفّی الغلام فقال له الرشید: یا محمد مات غلامک قال: نعم یا سیدی واستراح من الکتاب، فقال له الرشید: وان الکتاب لیبلغ منک هذا دعوه لا تعلّموه.
وبقی أمّیاً، وحینما ولی الخلافه کان لا یقرأ ولا یکتب، وکان له وزیر عامّی، وقد وصفه أحمد بن عامر بقوله: خلیفه أمّی ووزیر عامّی.
لقد کان عاریاً من العلم، والفضل، وعاریاً من کل صفه شریفه یستحق بها منصب الخلافه فی الإسلام التی هی أخطر منصب یناط به إقامه الحق والعدل بین الناس، هذه بعض الصفات الماثله فیه.
بغضه للعرب
وکان المعتصم شدید الکراهیه والبغض للعرب وقد بالغ فی إذلالهم والاستهانه بهم فقد أخرجهم من الدیوان وأسقط أسماءهم، ومنعهم العطاء کما منعهم الولایات.
ولاؤه للأتراک
کان المعتصم یکنّ فی أعماق نفسه خالص الولاء والحب للأتراک، فقد أخذ یستعین بهم فی بناء دولته، ویعود السبب فی ذلک إلى أن أمه مارده کانت ترکیه فکان یحکی الأتراک فی طباعهم ونزعاتهم، وقد بعث فی طلبهم من فرغانه، واستکثر منهم وقد بلغ عددهم فی عهده سبعین ألفاً، وقد حرص المعتصم على أن تبقى دماؤهم متمیزه فجلب لهم نساءً من جنسهم فزوجهم بهن، ومنعهم من الزواج بغیرهن وقد ألبسهم أنواع الدیباج، والمناطق الذهبیه وقد أسند لهم قیاده الجیش، وجعل لهم مراکز فی مجال السیاسه والحرب وحرم العرب ممّا کان لهم من قیاده الجیوش، وقد آثرهم على الفرس والعرب فی کلّ شیء.
وقد أساء الأتراک إلى المواطنین فکانوا یسیرون فی شوارع بغداد راکبین خیولهم دون أن یعبأوا بالمارّه فکانوا یسحقون الشیخ والمرأه والطفل وقد ضجّت بغداد من اعتدائهم وعدم مبالاتهم.
وقد وصف دعبل الخزاعی مدى تسلّط الأتراک على المعتصم وبنوع خاصّ وصیف واشناس الترکیّین یقول:
لقد ضاع أمر الناس إذ ساس ملکهم وصیف واشنــاس وقد عظم الکرب
وذکر دعبل أنّ المعتصم عهد بوزارته إلى الفضل بن مروان وکان نصرانیّاً فی الأصل قال:
وفضل بـــن مروان سیثلم ثلمه یظلّ لها الإسلام لیس لها شعب
مع الإمام الجواد علیه السلام
وأترعت نفس المعتصم بالحقد والکراهیه للإمام الجواد علیه السلام فکان یتمیّز من الغیظ حینما یسمع بفضائل الإمام ومآثره، وقد دفعه حسده له أن قدم على اغتیاله کما سنتحدّث عن ذلک.
إشخاص الإمام علیه السلام إلى بغداد:
وأشخص المعتصم الإمام الجواد إلى بغداد فورد إلیها للیلتین بقیتا من المحرم سنه ۲۲۰ هـ.
وقد فرض علیه الإقامه الجبریه فیها لیکون على علم بجمیع شؤونه وأحواله کما فرض علیه فی نفس الوقت الرقابه الشدیده، وحجبه من الاتصال بشیعته، والقائلین بإمامته.
الوشایه بالإمام علیه السلام
ومن المؤسف حقّاً أن تصدر الوشایه بالإمام الجواد علیه السلام من أبی داود السجستانی الذی کان من أعلام ذلک العصر، أمّا السبب فی ذلک فیعود إلى حسده للإمام علیه السلام.
والحسد داء خبیث ألقى الناس فی شرّ عظیم، لقد حقد أبو داود على الإمام کأشدّ ما یکون الحقد وذلک حینما أخذ المعتصم برأیه فی مسأله فقهیه وترک بقیه آراء الفقهاء، فتمیّز أبو داود غیظاً وغضباً على الإمام علیه السلام، وسعى إلى الوشایه به، وتدبیر الحیله فی قتله، وبیان ذلک ما رواه زرقان الصدیق الحمیم لأبی داود قال: إنّه رجع من عند المعتصم وهو مغتمّ، فقلت له: فی ذلک.. قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقه وسأل الخلیفه تطهیره بإقامه الحدّ علیه، فجمع لذلک الفقهاء فی مجلسه، وقد أحضر محمد بن علیّ علیه السلام فسألنا عن القطع فی أی موضع یجب أن یقطع؟ فقلت: من الکرسوع لقول الله فی التیمّم: فامسحوا بوجوهکم وأیدیکم واتّفق معی على ذلک قوم، وقال آخرون: بل یجب القطع من المرفق، قال: وما الدلیل على ذلک؟ قالوا: لأنّ الله قال: وأیدیکم إلى المرافق قال: فالتفت إلى محمد بن علی علیه السلام فقال: ما تقول فی هذا یا أبا جعفر؟ قال: قد تکلّم القوم فیه یا أمیر المؤمنین قال: دعنی ممّا تکلّموا به، أی شیء عندک؟ قال: اعفنی عن هذا یا أمیر المؤمنین، قال: أقسمت علیک بالله لما أخبرتنی بما عندک فیه، فقال: إذا أقسمت علیّ بالله إنّی أقول: إنّهم أخطأوا فیه السنّه، فإنّ القطع یجب أن یکون من مفصل أصول الأصابع فیترک الکفّ، قال: لِمَ؟ قال: لقول رسول الله صلى الله علیه وآله: السجود على سبعه أعضاء: الوجه والیدین والرکبتین والرجلین فإذا قطعت یده من الکرسوع أو المرفق لم یبق له ید یسجد علیها، وقال الله تبارک وتعالى: وإنّ المساجد لله یعنی به هذه الأعضاء السبعه التی یسجد علیها فلا تدعوا مع الله أحداً وما کان لله لم یقطع، قال: فأعجب المعتصم ذلک فأمر بقطع ید السارق من مفصل الأصابع دون الکفّ.
قال زرقان: إنّ أبا داود قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثه فقلت: إنّ نصیحه أمیر المؤمنین علیّ واجبه، وأنا أکلّمه بما أعلم إنّی أدخل به النار قال: ما هو؟ قلت: إذا جمع أمیر المؤمنین فی مجلسه فقهاء رعیّته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدین فسألهم عن الحکم فیه، فأخبروه بما عندهم من الحکم فی ذلک.
وقد حضر المجلس أهل بیته وقوّاده ووزرائه، وکتّابه، وقد تسامع الناس بذلک من وراء بابه، ثمّ یترک أقاویلهم کلّهم، لقول رجل: یقول شطر هذه الأمّه بإمامته، ویدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثمّ یحکم بحکمه دون حکم الفقهاء.
قال: فتغیّر لونه، وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاک الله عن نصیحتک خیراً…
لقد اقترف أبو داود أخطر جریمه فی الإسلام، فقد دفع المعتصم إلى اغتیال إمام من أئّمه أهل البیت علیهم السلام الذین فرض الله مودّتهم على هذه الأمه، والویل لکلّ من شَرِک فی دمائهم.
تنبّأ الإمام علیه السلام بوفاته
واستشفّ الإمام الجواد علیه السلام من وراء الغیب أنّ الأجل المحتوم سیوافیه وأنّ عمره کعمر الزهور، وقد أعلن ذلک لشیعته فی کثیر من المواطن وهذه بعضها:
۱- روى محمد بن الفرج قال: کتب إلیّ أبو جعفر علیه السلام: "احملوا إلیّ الخمس، لست آخذ منکم سوى عامی هذا، ولم یلبث علیه السلام إلاّ قلیلاً حتى قبض واختاره الله إلى جواره".
۲- روى أبو طالب القمّی، قال: "کتبت إلى أبی جعفر بن الرضا علیه السلام أن یأذن لی أن أندب أبا الحسن – یعنی أباه – قال: "فکتب أن اندبنی واندب أبی".
۳ – وأخبر علیه السلام عن وفاته فی أیام المأمون، فقد قال: "الفرج بعد المأمون بثلاثین شهراً ولم یلبث بعد المأمون بثلاثین شهراً حتى قبض واختاره الله إلى جواره".
۴ – روى إسماعیل بن مهران أنّ المعتصم العباسی لمّا أشخص الإمام أبا جعفر علیه السلام إلى بغداد قال: "قلت له: جعلت فداک أنت خارج فإلى مَن هذا الأمر من بعدک؟ فبکى حتى اخضلّت لحیته، ثمّ التفت إلیّ فقال: عند هذه یخاف علیّ، الأمر من بعدی إلى ابنی علیّ".
لقد کان الإمام عالماً بأحقاد المعتصم علیه، وأنّه لا یتورّع من اغتیاله والإجهاز علیه، فلذا أحاط أصحابه وشیعته علماً بمفارقته للحیاه فی عهد هذا الطاغیه الجبّار.
تعیینه علیه السلام لولده الهادی
ونصّ الإمام الجواد علیه السلام على إمامه ولده علیّ الهادی، ونصبه علماً ومرجعاً للأمّه من بعده.
فقد روى الصقر قال: "سمعت أبا جعفر محمد بن علی الرضا علیه السلام یقول: إنّ الإمام بعدی ابنی علیّ، أمره أمری، وقوله قولی، وطاعته طاعتی…".
وروى الخیرانی عن أبیه أنّ الإمام أبا جعفر علیه السلام بعث إلیه رسولاً فقال له: "إنّ مولاک یقرأ علیک السلام ویقول لک: إنّی ماضی، والأمر صائر إلى ابنی علیّ، وله علیکم بعدی ما کان لی علیکم بعد أبی وکثیر من أمثال هذه الروایات نصّت على أنّ الإمام أبا جعفر علیه السلام أقام ولده الإمام الهادی إماماً من بعده وأوجب على شیعته طاعته".
اغتیال الإمام علیه السلام
ولم یمت الإمام محمد الجواد حتف أنفه، وإنّما اغتاله المعتصم العباسی فقد قدّم الطاغیه على اقتراف هذه الجریمه النکراء.
وقد اختلف المؤرّخون فی الشخص الذی أوعز إلیه المعتصم للقیام بسمّ الإمام علیه السلام وفیما یلی بعض الأقوال:
۱- ذکر بعض الرواه أنّ المعتصم أوعز إلى بعض کتّاب وزرائه بأن یدعو الإمام إلى منزله، ویدسّ إلیه السمّ، فدعاه إلاّ أنّ الإمام علیه السلام اعتذر من الحضور فی مجلسه، وأصرّ علیه الکتّاب بالحضور لأجل التبرّک بزیاره الإمام له، وأضاف أنّ أحد الوزراء أحبّ لقاءه ولم یجد علیه السلام بدّاً من إجابته، فصار إلیه، ولمّا تناول الطعام أحسّ بالسمّ فدعا بدابته للخروج من المنزل فسأله صاحب المنزل أن یقیم عنده فقال علیه السلام: خروجی من دارک خیر لک.
۲- صرّحت بعض الروایات أنّ المعتصم أغرى بنت أخیه زوجه الإمام أمّ الفضل بالأموال، فدسّت إلیه السمّ.
وعلى أی حال فقد قطع المعتصم بسمّه للإمام أواصر القربى ولم یرع حرمه النبی فی أبنائه.
دوافع اغتیاله علیه السلام
أمّا دافع اغتیال المعتصم للإمام تتلخّص بما یلی:
أولاً: وشایه أبی داود فقد دفعت المعتصم إلى اغتیال الإمام علیه السلام.
ثانیاً: حسد المعتصم للإمام علیه السلام على ما ظفر به من الإکبار والتعظیم عند عامّه المسلمین فقد تحدّثوا مجمعین عن مواهبه وعبقریاته وهو فی سنّه المبکّر، کما تحدّثوا عن معالی أخلاقه من الحلم وکظمه للغیظ، وبرّه بالفقراء وإحسانه إلى المحرومین إلى غیر ذلک من صفاته التی عجّت بذکرها الأندیه والمحافل، ممّا دفع المعتصم على فرض الإقامه الجبریه علیه فی بغداد ثمّ القیام باغتیاله.
هذه بعض الأسباب التی دفعت المعتصم إلى اقتراف هذه الجریمه النکراء.
إلى جنّه المأوى
وأثّر السمّ فی الإمام تأثیراً شدیداً، فقد تفاعل مع جمیع أجزاء بدنه وأخذ یعانی منه آلاماً مرهقه، فقد تقطّعت أمعاؤه من شدّه الألم، وقد عهدت الحکومه العباسیه إلى أحمد بن عیسى أن یأتیه فی السحر لیتعرّف خبر علّته وقد أخبر الإمام علیه السلام بوفاته من کان عنده فی اللیله التی توفّی فیها فقال لهم: "نحن معشر إذا لم یرض الله لأحدنا الدنیا نقلنا إلیه". وأخذت الآلام من الإمام مأخذاً عظیماً.
فقد کان فی ریعان الشباب وغضاره العمر. ولمّا أحسّ بدنو الأجل المحتوم منه، أخذ یقرأ سوراً من القرآن الکریم، وقد لفظ أنفاسه الأخیره ولسانه یلهج بذکر الله تعالى وتوحیده، وقد انطفت بموته شعله مشرقه من الإمامه والقیاده الواعیه المفکّره فی الإسلام.
لقد استشهد الإمام علیه السلام على ید طاغیه زمانه المعتصم العباسی وقد انطوت بموته صفحه من صفات الرساله الإسلامیه التی أضاءت الفکر ورفعت منار العلم والفضیله فی الأرض.
تجهیزه ودفنه
وجُهِّز بدن الإمام علیه السلام فغسُّل وأدرج فی أکفانه، وبادر الواثق والمعتصم فصلّیا علیه وحُمل الجثمان العظیم إلى مقابر قریش، وقد احتفّت به الجماهیر الحاشده، فکان یوماً لم تشهد بغداد مثله، فقد ازدحمت عشرات الآلاف فی مواکب حزینه وهی تردّد فضل الإمام وتندبه، وتذکر الخساره العظمى التی منی بها المسلمون فی فقدهم للإمام علیه السلام.
وحفر للجثمان الطاهر قبر ملاصق لقبر جدّه العظیم الإمام موسى بن جعفر علیه السلام فواروه فیه وقد واروا معه القیم الإنسانیه، وکلّ ما یعتزّ به الإنسان من المثل الکریمه.
عمره الشریف
أمّا عمره الشریف فکان خمساً وعشرین عاماً وهو أصغر الأئمه الطاهرین علیهم السلام سناً، وقد قضى معظم حیاته فی نشر العلم، وإذاعه الفضیله بین الناس فکانت حیاته الغالیه مدرسه للفکر والوعی ومعهداً للإیمان والتقوى.
سنه وفاته علیه السلام
توفّی الإمام الجواد علیه السلام سنه ۲۲۰ هـ یوم الثلاثاء لخمس خلون من ذی القعده وقیل لخمس لیال بقین من ذی الحجّه وقیل لست لیال خلون من ذی الحجّه.