نظره فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر
من الدوائر الرائجه فی زمن الخلافه الإسلامیه دائره الحسبه المعبر عنها آنذاک بولایه أو إداره الحسبه، والشخص المسؤول عنها یسمى المحتسب، وهی تاریخیا نشأت من زمن النبی الأکرم محمد ، ومهمتها – إجمالا – الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. ولاحقا تفرقت وظائفها فی أکثر البلدان على الوزارات والمؤسسات المختلفه المتفرعه عن السلطه الإجرائیه (التنفیذیه)، وکانت ولایه الحسبه قدیما تحت نظر الخلیفه مباشره بل کان یتولى شخصیا وبنفسه بعض مهامها .
اختصاص الدوله ببعض مراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر
من الواضح أن للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر مراتب یجب بعضها کفایه على الأفراد لکن بعضها الآخر من وظائف الحکومه الإسلامیه ومن شؤون السلطه التنفیذیه ولا یجوز التصدی له من دون إذن حاکم الشرع، فهذا البعض یندرج فی أعمال المؤسسه الحکومیه نظیر إقامه الحدود لاستلزامه – لو أنیط بالأفراد على نحو الاستقلال – رده الفعل من قبل المأمور بالمعروف أو المنهی عن المنکر فیقع ما لا یحمد عقباه من نزاع وصراع وهرج ومرج وفی نهایه المطاف یختل نظم المجتمع، وهذا الکلام مطبق علیه بین الفقهاء بلحاظ الحدود والتعزیرات وهو أحد القولین أیضا فی باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فیما إذا اقتضیا الضرب أو الجراح أو الألم.
الاحتساب فی دائره الدین مفهوما
معنى کلمه الحسبه – بکسر الحاء – هو الأجر وما یتوخى من الإتیان به المثوبه، ومنه الحدیث «من أذن إیمانا واحتسابا غفر له»[1] .
فکل ما یصح أن یطلب بالإتیان الثواب والأجر من الله تبارک وتعالى سواء أکان من الأمور العامه کالقضاء والحکم بین الناس أم من الأمور الشخصیه کتطهیر المسجد من النجاسات أو المصحف الشریف وکل مقدس دینی فهو من الحسبه. وعلى هذا یتضح لابدیه الجزم والقطع بتحقق رضا الشارع فی العمل المحتسب والإذن منه، فما کان من الموضوعات المرجوحه کالمحرمات – من قبیل هدر دماء المسلمین من غیر حق – والمکروهات لیس من الحسبه فی شیء بل من یقوم بذلک یعاقب ویجازى، ومع الشک والتردد فی تحقق موضوع الاحتساب أو مورد الحسبه یلزم الوقوف والاحتیاط وعدم الإقدام لتوقف کل حکم على تحقق موضوعه توقفا طبعیا کما هو معلوم فی قانونیه الأحکام.
فوظیفه المحتسب إجمالا هی نشر المعروف وبسطه فی المجتمع ودفع المکروه عنه لا إثاره القلاقل والفتن والأحقاد والضغائن وإیقاظ الغرائز والأهواء والنعرات الجاهلیه، فضلا عن تهدید أمن المجتمع وإراقه الدماء عبثا وتخریب النسیج الواحد.
کلمات العلماء واللغویین فی المعروف والحسبه
قال المحقق الحلی فی الشرائع "والمعروف ینقسم إلى الواجب والندب فالأمر بالواجب واجب وبالمندوب مندوب، والمنکر لا ینقسم فالنهی عنه کله واجب" – إلا أن صاحب الجواهر قال "وکأنه اصطلاح وإلا فیمکن قسمته إلیهما أیضا على معنى وجوب النهی عن الحرام واستحباب النهی عن المکروه"، وقال ابن الأخوه فی کتابه القیم "معالم القربه فی أحکام الحسبه" "الحسبه من قواعد الأمور الدینیه وقد کان أئمه الصدر الأول یباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزیل ثوابها وهی أمر بالمعروف إذا ظهر ترکه ونهی عن المنکر إذا ظهر فعله وإصلاح بین الناس، قال تعالى: ﴿ لا خیر فی کثیر من نجواهم إلا من أمر بصدقه أو معروف أو إصلاح بین الناس ﴾ والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر فی أحوال الرعیه والکشف عن أمورهم ومصالحهم".
وفی نهایه ابن الأثیر:"والحسبه اسم من الاحتساب کالعده من الاعتداد، والاحتساب فی الأعمال الصالحه، وعند المکروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصیله بالتسلیم والصبر أو باستعمال أنواع البر والقیام بها على الوجه المرسوم فیها طلبا للثواب المرجو منها "، وفی صحاح الجوهری: " والاسم الحسبه – بالکسر- وهی الأجر" وقال فی مجمع البحرین: " احتسب فلان: عمله طلبا لوجه الله وثوابه, ومنه الحسبه بالکسر وهی الأجر… والحسبه الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر"، وفی بلغه الفقیه – أفاد السید بحر العلوم بأنها بمعنى القربه وموردها کل معروف علم إراده وجوده فی الخارج شرعا من غیر موجد معیّن وربما یقال إن الحسبه من المحاسبه والمراقبه ومن الحسیب أی المحاسب وقد قال تعالى: ﴿ وکفى بالله حسیبا ﴾[۲] ، – وقال فی کشف الظنون حین ذکر الاحتساب: "وعن سیاسه العباد بنهی المنکر وأمر المعروف بحیث لا یؤدی إلى مشاجرات وتفاخر بین العباد…" وذکر السید مهدی الموسوی الخلخالی فی "الحاکمیه فی الإسلام" – ص ۷۰۷- بأن الحسبه عباره عن الأعمال الضروریه المطلوبه شرعا قطعا والتی تسقط من ذمه الآخرین بقیام شخص أو أشخاص بها، وأمثلتها: الجهاد للإسلام، والدفاع عن حریمه, وإجراء الحدود، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والفتوى، والقضاء والشهاده، والاستشهاد، وحفظ اللقطه – إنسانا کان أو غیره – وحفظ أموال القصر " المجنون والیتیم والسفیه " والغائبین، وإنقاذ الأشخاص من الهلکه وتکفین الأموات ودفنهم ومساعده المحتاجین، وتحصیل وصرف المال الشرعی فی المصارف المقرره شرعا وکل ما هو راجح عقلا ویعود نفعه للمجتمع ".
ویستخلص من هذه الکلمات کون الإصلاح بین الناس والحفاظ على مصالحهم ومنافعهم ودفع الضرر عنهم وعدم الوقیعه بهم وحفظهم من الوقوع فیما یسبب الحرج والضیق النفسی لهم وسد منافذ الفتن والمشاجرات عنهم وإسداء المعروف والإحسان إلیهم وصیانه أموالهم وأعراضهم من شر المعتدین وحفظ نفوسهم ودمائهم من الحسبه ومما یتقرب به إلى الله عزّ وجلّ.
ومن یقوم على خلاف ذلک فهو معتد أثیم لا یقربه عمله إلى المولى تعالى بل هو أبعد ما یکون عن ساحه قدسه ورحمته فإن المبعدات والمبغوضات لا تکون مقربات منه وهو على تقدیر الإشتباه مصداق جلی لقوله تعالى: ﴿ الذین ضلّ سعیهم فی الحیاه الدنیا وهم یحسبون إنهم یحسنون صنعا ﴾[۳] ، فإن انتهاک الحرمات والتعرض لحقوق الناس والتطاول على أمنهم وإثاره الفتن وإیقاظها جرم منکر یدعو من له الأهلیه التصدی له وإیقاف المتجاوز حدود الله عند حده وهذا هو الاحتساب بعینه وهو الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.
الفارق بین الجاهل بالحکم وبین تارک المعروف أو مرتکب المنکر
قد فرّق العلماء بین لزوم تعلیم الجاهل وبین وجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فالأول مترتب على موضوعه وهو الجاهل بالحکم بینما موضوع الحکم الثانی العارف للحکم غیر الممتثل له ترکا فی الواجب وفعلا فی المحرم ویترتب على هذه التفرقه عدم تداخل آثار الحکمین فالضرب -مثلا- من مراتب الثانی.
الدلیل على إقامه الحسبه
قد یستدل علیها بقوله تعالى: ﴿ فاستبقوا الخیرات ﴾[۴] وقوله: ﴿ وسارعوا إلى مغفره من ربکم ﴾[۵] -و﴿ أحسنوا إن الله یحب المحسنین ﴾[۶] وقوله: ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾[۷] ، ومن السنه الشریفه قول الرسول الأکرم «کل معروف صدقه»[8] ، وقول أبی عبد الله الصادق : «عونک الضعیف أفضل الصدقه»[9] ، وقوله : «والله فی عون المؤمن ما دام المؤمن فی عون أخیه»[10] .
فالحسبه أذن من الشارع المقدس فی التصدی لا أنها نصب وولایه فما عبّر به الفقهاء من "ولایه الحسبه" تسامح فی التعبیر لأن جواز التصرف والإذن فی العمل مغایر مفهوما وماهیه للجعل والتنصیب فأحدهما حکم تکلیفی والآخر وضعی. وقد درج العلماء على القول بعدم الإطلاق فی دلیل الحسبه وفی الموارد المشکوکه یقتصر على القدر المتیقن فحسب.
ولا بأس قبل الختام التعرض لبعض الکلمات من أجل اقتناص بعض أمثله الحسبه وحدود سعتها فقد ذکر ابن خلدون فی مقدمته فی فصل الخطط الدینیه الخلافیه: "وأما الحسبه فهی وظیفه دینیه من باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر الذی هو فرض على القائم بأمور المسلمین یعین لذلک من یراه أهلا له فیتعین فرضه علیه، ویتخذ الأعوان على ذلک ویبحث عن المنکرات ویعزّر ویؤدب على قدرها ویحمل الناس على المصالح العامه فی المدنیه مثل المنع من المضایقه فی الطرقات ومنع الحمالین وأهل السفن من الإکثار فی الحمل والحکم على أهل المبانی المتداعیه للسقوط بهدمها وإزاله ما یتوقع من ضررها على السابله والضرب على أیدی المعلمین فی المکاتب وغیرها والإبلاغ فی ضربهم للصبیان المتعلمین ولا یتوقف حکمه على تنازع أو استعداء بل له النظر والحکم فی الدعاوى مطلقا بل فیما یتعلق بالغش والتدلیس فی المعاش وغیرها فی المکاییل والموازین وله أیضا حمل المماطلین على الإنصاف وأمثال ذلک مما لیس فیه سماع بینه ولا إنفاذ حکم وکأنها أحکام ینزّه القاضی عنها لعمومها وسهوله أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظیفه لیقوم بها فوضعها على ذلک أن تکون خادمه لمنصب القضاء "[11] .
وقد عدّ الشیخ النائینی فی منیه الطالب حفظ مال الغائب والصغیر والحکم بثبوت الهلال والفصل فی الدیون والمواریث من توابع القضاء ومن الأمور الحسبیه ولا إشکال فی ثبوت منصبی الإفتاء والقضاء للفقیه فی عصر الغیبه۰وصرح السید الخوئی فی التنقیح بکون صرف سهم الإمام فی موارده من الحسبه وکذا الولایه على المال المجهول المالک ومال الغائب والقاصر والمجنون والیتیم وعلى کل وقف لا متولی له أو وصیه لا وصی فیها ۰ إذن لئن کانت الحسبه إذنا من المقنن للمحافظه على مصالح الأفراد وبنیه المجتمع المؤمن فمن غیر الجائز تطویعها لأغراض ضیقه لا تمس الدین وقیمه بصله، ومن الظلم والجور الاعتداء على حرمات الناس ومن غیر العدل إبقاء المعتدین وخائنی الأمانه فی إطار هذه المؤسسه بل لا بد من عقوبتهم فإن من أمن العقوبه أساء الأدب والتطاول على مقدرات الأفراد أو على أعراضهم أو على أنفسهم کاشف عن عدم أهلیه الآمر بالمعروف والناهی عن المنکر.
ـــــــــــــ
[۱] وسائل الشیعه، الباب الثانی من أبواب الأذان والإقامه، الحدیث ۱۷٫
[۲] سوره النساء آیه ۶٫
[۳] الکهف ۱۰۴٫
[۴] سوره البقره ۱۴۸٫
[۵] سوره آل عمران ۱۳۳٫
[۶] سوره البقره ۱۹۵٫
[۷] سوره المائده ۲٫
[۸] سفینه البحار ۲: ۲۵٫
[۹] الوسائل ج۱۵ الباب ۵۹ من أبواب جهاد العدو الحدیث الثانی.
[۱۰] الوسائل ج۱۶ الباب ۱۹ من أبواب فعل المعروف الحدیث الثانی.
[۱۱] المقدمه:۱۵۸، الفصل ۳۲ من الفصل ۳ من الکتاب الأول.