الإسلام وثقافه الغرب.. بین التقلید والانزواء

0

لم یکن الإسلام یوماً یفرض على أتباعه ومریدیه الانغلاق والانزواء ووضع الحواجز والسدود بینهم وبین الآخرین من سائر الملل والأدیان, بل على العکس، فقد دعا منذ انطلاقته إلى مد جسور العلاقات الإنسانیه على قاعده التشاور والتناصح والتعاون لما فیه خیر للحیاه الإنسانیه، قال تعالى: (وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
نعم، لم یمنع الإسلام فی هذا المجال أتباعه من التفاعل مع الآخرین فی مختلف الأنماط والنماذج طالما کانت لا تخرج عن حدود وضوابط الشریعه الإسلامیه, خاصه وأن الإسلام دین یحترم کل ما لدى الشعوب فی هذا المجال، وإن کان بعض ما هم علیه لا تنطبق علیه ضوابط الاسلام وهم یمارسونه فیما بینهم ویرونه شیئاً مألوفاً. 

لکن ما یؤسف له فی هذا المجال هو أن نرى الغرب ـ وعلى رأسه الولایات المتحده الأمریکیه التی تعتبر الیوم رمز الثقافیه الغربیه ـ یحاول تعمیم نموذجه وتقالیده وأعرافه على کل الشعوب والأمم على حساب تاریخ وتراث تلک الشعوب, ومن دون نظر إلى عمق ارتباط تلک الشعوب بتراثها وتاریخها, والمنطلق فی هذا السعی هو الوهم الذی یخیّل إلى أرباب الثقافه الغربیه أنّ ثقافتهم هی الأقوى والأجدر والأقدر على تحریر الشعوب من ماضیها الذی ترید جره إلى الحاضر، وأن انغلاق الشعوب على أعرافها وتقالیدها هو الذی یمنعها من اللحاق بالنموذج الثقافی الغربی الذی عندما تحرر من ماضیه وتاریخه ارتقى ووصل إلى ما هو علیه الیوم من التقدم والازدهار. 

وحیث إن الغایه تبرر الوسیله، کان من الطبیعی أن تستخدم دول الاستکبار من أجل تعمیم ثقافتها کل أنواع الوسائل حتى غیر الشریفه منها، وهو ما یفسّر اعتمادهم أسالیب التهدید والابتزاز وتسخیر الإعلام لتشویه ثقافات الآخرین، ولا سیما الثقافه الإسلامیه التی ما زالت قویه فی أوساط المسلمین تمنعهم من الذوبان فی جو الثقافه الغربیه وتحلل شخصیتهم فیها, وتتجلّى خطه الاستکبار الغربی فی الکتب المؤلفه والبرامج الإذاعیه والتلفزیونیه ومن خلال شاشات السینما والأفلام التی تصور المسلمین وثقافتهم وکأنهم یعیشون خارج حدود هذا العالم ولا یریدون أن ینخرطوا فی الواقع المعاصر لیکونوا جزءاً منه, وأنهم یعملون على تدمیر إنجازات الحضاره الغربیه والإنسانیه لإعادتها إلى الوراء, وهو ما نلتمسه أیضاً من خلال الترویج السلبی عن نظره الإسلام إلى الزواج والمرأه وقضایا الحریه والمساواه وما شابه ذلک. 

کل هذه التهم والافتراءات المکاله لا تحوج المنصف إلى عناء التفکیر والتأمل لیکتشف براءه الإسلام منها، ولیقف على خبث المکیده الغربیه للإسلام والمسلمین، وأثناء تحلیلنا للنظریه الإسلامیه اتجاه هذه القضیه نقف على قاعده ثلاثه المحاور هی المقیاس العام لقبول أو رفض ما عند الآخرین. 

المحور الأول: أن کل ما عند الشعوب الأخرى من ثقافه أو حضاره أو تقدم علمی أو أی شیء آخر إذا کان موافقاً للضوابط الإسلامیه, أو غیر مخالف لها فی الحد الأدنى، فلا مانع من الأخذ به وترویجه بین المسلمین إذا کان مفیداً لهم ونافعاً فی التخفیف عن معاناتهم وتسهیل حیاتهم, وهذا ما نراه بأم العین فی أوساط عالمنا الإسلامی الذی یتعامل مع نتاج الحضاره والثقافه الغربیتین بشکل إیجابی فی هذه المجالات غیر المتنافیه مع ضوابطنا الإسلامیه, ولهذا نرى أن أکثریه نتاج الحضاره الغربیه وثقافتها منتشر بین المسلمین ولا أحد یعترض على ذلک, بل لا یحق لأحد الاعتراض مبدئیاً فی هذا المجال، کیف؟ والإسلام یؤمن بالتقارب والتفاعل بین الشعوب إذا کان مما یخدم الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن الدین واللون والجنس واللغه والأرض. 

المحور الثانی: إذا کان بعض ما لدى الثقافات والحضارات الأخرى منافیاً مع ضوابط الإسلام وغیر منسجم مع منظومته الفکریه والسلوکیه فهو مرفوض, لأن الإسلام یرى فیه ابتعاداً عن الأهداف الإلهیه المطلوب من المسلمین تحقیقها فی حیاتهم, ولهذا نرى أن الکثیر من مفردات الثقافه الغربیه القائمه على التحلل الأخلاقی والإباحه الجنسیه والممارسات التی تسلخ الإنسان عن إنسانیته وتجعله أقرب إلى الحیوانیه والبهیمیه هی مرفوضه إسلامیاً، ولا یمکن الاستهانه فی قبولها لأنها تمتهن کرامه الإنسان وتجعله سلعه من السلع اللتی تباع وتشترى. 

فالإسلام حینما یأمر المرأه بالستر والحجاب، یأمرها بذلک لأنّه یرى فیه صوناً لإنسانیتها وإخراجاً لها من دائره الإغواء والإغراء والشهوه واللذه إلى دائره الإنسانیه الواسعه، فی حین تدفعها الثقافه الغربیه إلى السفور والعری حتى الفاضح منه والذی یتجلى فی ممارسات شاذه تأنف منها النفوس وتشمئز منها الطباع السلیمه المحافظه على فطرتها الصحیحه, أو ما یشاع الآن فی الغرب عن تشریع تدخین واستعمال المخدارت أو تشریع محرمات العلاقه بین الرجل والرجل من جهه أو المراه والمرأه من جهه أخرى أو بین الرجال والنساء من جهه ثالثه وغیر ذلک مما قد صار متعارفاً بأنه من نتاج الثقافه الغربیه الداعیه إلى الحریه الفردیه المطلقه التی تتجاوز حدود المسؤولیه لتتحول إلى فوضى مدمره للحیاه الإنسانیه جمعاء. 

المحور الثالث: إذا کان ما لدى الثقافه الغربیه أو غیرها من الثقافات مما هو غیر واضح المعالم من جهه إیجابیاته أو سلبیاته, لأنه قابل لهما معاً, فالإسلام لا یمنع من الأخذ بالجهه الإیجابیه من هذه الأمور وفق ضوابطه، لکنه یمنع من الاستفادات السلبیه له, فمثلاً نرى أن الغرب قد ابتدع فی ثقافته أنماطاً من اللباس للمرأه یکشف الکثیر من جسدها ولا یبقی مستوراً منه إلا القلیل فهنا لا مانع للمرأه المسلمه أن تستفید من مثل هذه الألبسه ولکن وفق ضوابط الإسلام وحرصه الدائم على أن تلتزم المراه جانب الإنسانیه من شخصیتها فی المجتمع العام, ولکن لا مانع من أن تمارس حریتها فی الاستفاده من هذا النمط من اللباس فی عالمها الخاص بها حیث یجوز ذلک, وهکذا فی العدید من هذه المفردات التی ذکرناها.

Leave A Reply

Your email address will not be published.