أهمیه التفکر
الیقظه: وهی مرحله الخلاص من الغفله، وقد ورد: (الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا)۱ لأن الموت یوقظ الإنسان من الغفله (لَّقَدْ کُنتَ فی غَفْلَه مِن هَذَا فَکَشَفْنَا عَنکَ غِطَاءَکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ)۲ وعلى الإنسان أن یمیت نفسه قبل أن یحلّ به الموت الذی لا مفرّ منه، (موتوا قبل أن تموتوا)۳ وذلک بأن یمیت فی نفسه الشهوات بأن یجعلها تحت إمره الشرع والعقل، فإذا فعل ذلک واستیقظ من غفلته دخل فی حصن ذکر اللّه المنیع واطمأن به (أَلاَ بِذِکْرِ اللَّهِ تَطْمَئنُّ الْقُلُوبُ)۴ وأمن من شیاطین الجن والإنس، بل ورد فی الروایات أن الحیوانات لا تصطاد إلا إذا کانت فی غفله عن ذکر اللّه تبارک وتعالى ناهیک، عن الإنسان.
ولا یخطر على بال أحد بأن مرادنا من الذکر هنا هو الذکر اللسانی فقط وإن کان هذا مرتبه من المراتب أیضاً بل لابد للقلب أیضاً أن یکون ذاکراً لله تبارک وتعالى حتى تتم الیقظه المطلوبه.
التوبه: وهی المنزله الثانیه التی یصلها الإنسان بعد یقظته، ونعنی بها الرجوع من المخالفه إلى الموافقه، من مخالفه اللّه عزّ وجلّ إلى موافقته سبحانه وتعالى.
المحاسبه: وتلی منزله التوبه، حیث یحاسب الإنسان نفسه على ما صدر منها، لیتهیأ بذلک إلى منزله الإنابه.
الإنابه: فبعد أن یحاسب الإنسان نفسه ینتقل إلى مرحله الإنابه وفرقها عن التوبه أن الإنسان بتوبته یرجع من المخالفه إلى الموافقه، وفی الإنابه یرجع من الموافقه إلى الله سبحانه وتعالى (کَمَا قَالَ عِیسَى ابْنُ مَرْیَمَ لِلْحَوَارِیِّینَ مَنْ أَنصَارِی إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِیُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)۵٫
التفکر: وفی هذه المنزله عده بحوث:
البحث الأول: فی أهمیه التفکر
وهناک مجموعه من الروایات الشریفه تبین أهمیه التفکر; منها: الأولى: عن عطاء قال: انطلقت أنا وعبید بن عمیر إلى عائشه وبیننا وبینها حجاب… إلى أن قال: فقال ابن عمیر: أخبرینا بأعجب شیء رأیتیه من رسول اللّه (صلى الله علیه وآله)، قال: فبکت وقالت: کل أمره کان عجباً، أتانی فی لیله…إلى أن تقول الروایه: قال (صلى الله علیه وآله): (ذرینی أتعبد لربی عزّ وجلّ) فقام إلى القربه فتوضأ منها ثم قام یصلی فبکى حتى بلّ لحیته، ثم سجد حتى بلّ الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال یؤذنه بصلاه الصبح، فقال: یا رسول اللّه ما یبکیک وقد غفر اللّه ما تقدم من ذنبک وما تأخر؟ فقال: (ویحک یا بلال ما یمنعنی أن أبکی وقد أنزل الله علىّ فی هذه اللیله (إِنَّ فی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَّیْلِ وَالنَّهَارِ لآیَات لاُِّولِى الأَلْبَابِ)۷٫۶٫
الثانیه: عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) قال: (الفکر یدعو إلى البر والعمل به) ۸٫
الثالثه: وعنه (علیه السلام) أیضاً أنه قال: (نبّه بالتفکر قلبک، وجافِ عن اللیل جنبک، واتقِ الله ربک)۹٫
البحث الثانی: فی حقیقه التفکر وکیفیه حصوله
إذا أراد الإنسان أن یتفکر فلابد له من رأسمال علمی یستند علیه فی تفکیره، لأنه یحتاج إلیه کحاجه التاجر إلى الرأسمال التجاری لکی یزاول عمله فی السوق.
وکما أن هناک کثیراً ممن یمتلک الرأسمال التجاری ولا یتاجر فیه، فإن هناک الکثیر ممن یمتلک الرأسمال العلمی ولا یستفید منه، ومن هنا جاء الحث على التفکر وبیان أهمیته وحاجه الإنسان إلیه، وکیف یمکن للإنسان أن یتفکر بالطریقه الصحیحه والمثمره مستغلاً ما لدیه من معارف وعلوم. کیف یفکر الإنسان؟
بعد حصول العلم لدى الإنسان، کعلمه بالمعاد والآخره مثلاً، یبدأ عملیه تفکیره من خلال ترتیب مقدمات:
المقدمه الأولى: وهی أن یسأل نفسه هل الآخره أدوم وجوداً أم الدنیا؟ ولیس المرء بحاجه إلى أن یکون عالماً کبیراً حتى یعرف أن الآخره هی الأدوم والأبقى، بشهاده ما یراه من محدودیه هذه الدنیا وانتهائها.
المقدمه الثانیه: وهی أن یسأل نفسه إذا دار الأمر بین اختیار الأبقى وجوداً وغیره، أیهما یختار ویقدم، وأیهما یترک ویؤخر؟
النتیجه: ثم إن الإنسان وبعد علمه بالمقدمتین السابقتین أی (الآخره أبقى) و(الأبقى أولى بالاختیار والإیثار) بإمکانه أن یطبق الشکل الأول من القیاس المنطقی فیحذف الطرف المتکرر أی (الأبقى) لیتوصل إلى النتیجه المطلوبه، وهی (الآخره أولى بالاختیار والإیثار). وهذه النتیجه هی ما یختاره عقلاء البشر.
ولا یوجد عاقل یختار ویقدم المحدود والمنقطع والمنتهی على الدائم الباقی، خصوصاً وإن هذا المحدود قد قرنت لذّاته وخلطت بالألم والتعب والمشقه، وإن ما هو غیر محدود قد خلصت لذّاته وصفت ولم تخلط بأی نوع من الآلام والمنغصات.
قد یقال: إن بإمکان الإنسان أن یجمع بینهما فیختار الدنیا والآخره معاً، إلاّ أننا سنبین فیما بعد، إن شاء اللّه تعالى، أن الدنیا والآخره ـ فی أغلب الأحیان ـ ضرتان کلما اقترب الإنسان من إحداهما ابتعد عن الأُخرى، بل یمکن القول باستحاله الجمع بینهما مطلقاً إذا کانت الدنیا هی التعلق بغیر اللّه، و الآخره هی التعلق به عزّ وجلّ (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَیْنِ فی جَوْفِهِ)۱۰ فإن امتلأ القلب بحب الدنیا فرغ عن حب اللّه تعالى وإن امتلأ بحب اللّه تعالى فرغ عن حب غیره.
کمثال آخر نقول: إن الإنسان بطبعه طالما یبحث عن معبِّر للرؤیا التی یراها فی منامه، فعندما یرى أنه یشرب اللبن أو الماء یقال له ـ مثلاًـ بأن الماء هو الحکمه أو العلم، فللبن ظاهر وهو هذا اللبن الذی نراه ونشربه وله باطن هو الحکمه والعلم، فالظاهر إذن ممر للوصول إلى الحقیقه، کالمجاز فی اللغه الذی هو ممر للوصول إلى المعنى الحقیقی.
وهکذا تکون هذه الدنیا کلها ـ ولیس النوم فقط ـ هی المعبر إلى الحقیقه لا هی الحقیقه ذاتها، فهی دار الممر ومن خلالها یستطیع الإنسان الوصول إلى غایته ومقصده وهی «الدار الآخره» التی هی دار المقر (یَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَیاهُ الدُّنْیَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَهَ هِیَ دَارُ الْقَرَارِ)۱۱ وهی الحیاه الحقیقیه. (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَهَ لَهِیَ الْحَیَوَانُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ)۱۲٫ وبإمکان الإنسان أن یزاول عملیه التفکیر من خلال هذه المعلومات فیرتب المقدمات منها لیستخلص بعد ذلک النتیجه المطلوبه، فیقول:
کمقدمه أولى: إن الدار الآخره هی الحیاه الحقیقیه ودار المقرّ
وکمقدمه ثانیه: إن الحیاه الحقیقیه هی الأولى بالعمل من أجلها.
فینتج: إن الآخره هی الأولى بالعمل من أجلها.
وهکذا فإن العاقل هو من یلتزم بهذه النتیجه فیختار الآخره ویقدمها على الدنیا لأن العمل للممر دون المقر ولما هو زائل وغیر حقیقی دون الحقیقی الباقی عمل بلا فکر، وهو عمل الجاهلین.
إن عملیتی التفکیر السابقتین مصداقان من مصادیق عملیه التفکیر الصحیحه والتی على الإنسان أن یداوم علیها من أجل حصوله على النتائج المطلوبه التی یحتاجها ویرید الوصول إلیها فی حیاته.
التفکیر مقدمه لحصول الإیمان
إن الإنسان وإن فکّر وحصل على النتیجه المطلوبه وهی أن الآخره هی الأبقى والأدوم والأحسن إلاّ أنه لن یعمل من أجلها إلاّ بعد أن یحصل له الإیمان بهذه الأمور.
وهذا الأمر من طبع الإنسان ذاته، فهو لا یضع یده فی النار ـ مثلاً ـ لا لأنه یعلم فقط بأنها تحرق بل لأنه یعلم ویؤمن بذلک، وإلاّ فإن الطفل الذی لم تحترق یده بالنار بعدُ یُدخلها فیها وإن أُخبر وعلم بأنها حاره محرقه ولا یمتنع عنها إلاّ بعد أن تحرق یده ویؤمن بذلک.
إن کثیراً منا وإن بلغنا الثلاثین أو الأربعین أو الخمسین، لازلنا نعیش بفکر الأطفال لا بفکر البالغین، فنحن لا نشک بالقرآن والروایات الشریفه ونعلم بالمعاد والآخره ولکننا لا نؤمن ولا نعتقد بذلک کاعتقادنا بأن السم قاتل، والدلیل على ذلک هو عدم إقدامنا على شرب السم القاتل وإقدامنا کل یوم على ارتکاب المعاصی والأعمال المحرّمه التی تفوق آثارها الآثار الزائله للسم الدنیوی (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)۱۳٫
فالتفکیر مقدمه لحصول إیمان القلب، فإذا حصل الإیمان فی قلب الإنسان أثّر فی جوارحه ولذا فإنه لا یبکی من خشیه اللّه تعالى ولا لذکر مصیبه الحسین (علیه السلام) ولا یصرخ من الألم إلاّ عند حصول هذه الحاله القلبیه لدیه، وإلى هذا أشارت الروایه الشریفه «نبّه بالفکر قلبک» بجعله یعیش هذه الحاله، وإلاّ فقد یعبد الإنسان ربّه سنین طویله وهو معتاد على عبادته لا عن وعی ولا عن حاله الخضوع والخشوع القلبیه المطلوبه، ومثلها ما ورد عنه (صلى الله علیه وآله) حینما رأى شخصاً یلعب بلحیته فی صلاته، فقال (صلى الله علیه وآله) (لو خشع قلبه لخشعت جوارحه)۱۴٫ وعلى هذا الأمر أکثرنا، فما من مصیبه أو مسأله أو مشکله إلاّ ونتذکرها فی صلاتنا لأن هذه الصلاه فیها کل شیء إلاّ ذکر اللّه (وَأَقِمِ الصَّلاهَ لِذِکْرِی)۱۵ ولهذا وغیره کان (تفکر ساعه خیر من عباده سبعین سنه) ۱۶٫
أقسام التفکیر
والتفکیر بعد هذا على قسمین بلحاظ حصوله:
القسم الأول: هو التفکیر عن تقلید، وهذا قد یزول لأن من (أخذ دینه من أفواه الرجال أزالته الرجال)۱۷٫
القسم الثانی: وهو التفکیر القائم على أساس المنطق القویم والاستدلال الصحیح، وقد أشار الفیض الکاشانی إلى ثمرات هذا القسم بقوله: «وأما ثمره الفکر فهی العلوم والأحوال والأعمال ولکن ثمرتها الخاصه العلم لا غیر، نعم إذا حصل العلم فی القلب تغیّر حال القلب وإذا تغیّر القلب تغیّرت أعمال الجوارح، فالعمل تابع للحال والحال تابع للعلم، والعلم تابع للفکر، فالفکر إذن هو المبدأ والمفتاح للخیرات کلها، وهذا هو الذی یکشف لک عن فضیله التفکر وأنه خیر من الذکر والتذکر لأن فی الفکر ذکراً وزیاده، وذکر القلب خیر من عمل الجوارح بل شرف العمل لما فیه من الذکر. فإذن التفکر أفضل من جمله الأعمال ولذلک قیل: تفکر ساعه خیر من عباده سنه، وقیل: هو الذی ینقل من المکاره إلى المحاب ومن الرغبه والحرص إلى الزهد والقناعه، وقیل: هو الذی یحدث مشاهده وتقوى; ولذلک قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ أَوْ یُحْدِثُ لَهُمْ ذِکْرًا)۱۹٫۱۸٫
__________________
(۱) عوالى اللآلی، ۴ : ۷۳ / ۴۸٫
(۲) ق: ۲۲٫
(۳) البحار ۷۲ : ۵۹ .
(۴) الرعد: ۲۸٫
(۵) الصف: ۱۴٫
(۷٫۶) آل عمران: ۱۹٫ و( المحجه البیضاء، للفیض الکاشانی، ج ۸، ص ۱۹۴).
(۸) المصدر نفسه.
(۹) المصدر نفسه.
(۱۰) الأحزاب: ۴٫
(۱۱) غافر: ۳۹٫
(۱۲) العنکبوت: ۶۴٫
(۱۳) النمل : ۱۴ .
(۱۴) دعائم الإسلام، ۱ : ۱۷۴ .
(۱۵) طه: ۱۴٫
(۱۶) نور البراهین لنعمه الله الجزائری، مؤسسه النشر الإسلامی، قم، ۱۴۱۷ هـ . ، ۱: ۷۹٫
(۱۷) المحتضر، للحسن بن سلیمان الحلی ، ص ۳ .
(۱۹٫۱۸) طه : ۱۱۳ .و(المحجه البیضاء، للفیض الکاشانی، ج۸، ص ۱۹۸)