معرفه النفس

0

الاتجاه الأول: هو الاتجاه الذی یرى استحاله الوقوف على معرفه الإنسان نفسه. ویستند أصحاب هذا الاتجاه إلى بعض الآیات والروایات؛ منها قوله تعالى: (وَیَسْأَلونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی وَمَا أُوتِیتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِیلاً)۱حیث فهم البعض من هذا الجواب أن الآیه بصدد النهی عن التوغّل فی فهم حقیقه الروح الإنسانیه، لأن الإنسان قاصر عن إدراک هذه الحقیقه الربانیه (وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی)۲٫ جاء فی بعض الکتابات المعاصره: (وراح بعضهم یسأل الرسول عن الروح ما هو؟ والمنهج الذی سار علیه القرآن – وهو المنهج الأقوم – أن یجیب الناس عما هم فی حاجه إلیه، وما یستطیع إدراکهم البشری بلوغه ومعرفته، فلا یبدّد الطاقه العقلیه التی وهبها الله لهم فیما لا ینتج ولا یثمر وفی غیر مجالها الذی تملک وسائله وتحیط به، فلما سألوه عن الروح، أمره الله أن یجیبهم بأن الروح من أمر الله، اختص بعلمه دون سواه. ولیس فی هذا حجر على العقل البشری أن یعمل، ولکن فیه توجیهاً لهذا العقل أن یعمل فی حدوده وفی مجاله الذی یدرکه، فلا جدوى من الخبط فی التیه، ومن إنفاق الطاقه فیما لا یملک العقل إدراکه لأنه لا یملک وسائل إدراکه. والروح غیب من غیب الله لا یدرکه سواه، وسر من أسراره القدسیه أودع هذا المخلوق البشری وبعض الخلائق التی لا نعلم حقیقتها).
ومنها: ما ورد فی الغرر والدرر للآمدی عن علی أمیر المؤمنین علیه السلام، قال: (من عرف نفسه عرف ربّه) حیث ذکر بعض العلماء أنه من تعلیق المحال، أی کما أنه لا یمکن معرفه حقیقه الرب تعالى والوقوف على کنهه؛ (وَلا یُحِیطُونَ بِهِ عِلْماً)۳٫ کذلک لا یمکن معرفه النفس الإنسانیه، لأنه عُلّق على أمر محال.
الاتجاه الثانی: ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى إمکان معرفه النفس، واستندوا فی ذلک إلى مجموعه من الآیات والروایات أیضاً، منها: نفس الآیه التی استند إلیها أصحاب الاتجاه الأول: )ویسألونک عن الروح… (حیث اعتبر أصحاب هذا الاتجاه أن الله تعالى أمر نبیّه صلّى الله علیه وآله أن یجیب على التساؤل بقوله: )قل الروح من أمر ربی وما أوتیتم من العلم إلا قلیلا( أی أن الروح هو من سنخ عالم الأمر. ثم عرّف أمره تعالى فی قوله (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ)۴ فبیّن أن أمره هو قوله للشیء (کن) وهی کلمه الإیجاد التی هی الإیجاد لأن قوله فعله، والإیجاد هو وجود الشیء لکن لا من کل جهه بل من جهه استناده إلیه تعالى وقیامه به.
ببیان آخر: إن الروح موجود أمری بمعنى أنه تعالى أوجده من دون توسط أسباب محکومه للزمان والمکان والجهه وشبهها، بخلاف بعض الموجودات التی هی موجودات خلقیه حیث تستند إلیه تعالى بتوسط الأسباب الکونیه التی یکون لها دور فی وجودها، فالممکنات لیست على وتیره واحده بل (إن بعض الممکنات مما لا یأبى مجرد ذاته أن یفیض من جود المبدأ الأعلى بلا شرط خارج عن ذاته وعما هو مقوّم ذاته، فلا محاله یفیض عن المبدأ الجواد بلا تراخ ومهله ولا سبق عدم زمانی واستعداد جسمانی؛ لصلوح ذاته وتهیؤ طباعه للحصول والکون (وحیث إن الفاعل تامّ الفاعلیه والقابل تام القابلیه فلا تراخی ولا مهله). وبعضها مما لا یکفی ذاته ومقوماته الذاتیه فی قبول الوجود من دون استعانه بأسباب اتفاقیه وشروط غیر ذاتیه، ثم بعد إنضیاف تلک الشروط والمعدّات إلى ما یقبل قوه وجوده یتهیأ لقبول الوجود)۵٫ ثم بیّن أن أمره فی کل شیء هو ملکوت ذلک الشیء، والملکوت أبلغ من الملک، فلکلّ شیء ملکوت کما أن له أمراً، قال تعالى(أَوَلَمْ یَنْظُرُوا فِی مَلَکُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)۶ وفیها حثّ على النظر فی الملکوت والتعرّف علیه، ولو لم یکن ذلک ممکناً لما صدر من الحکیم، تعالى عن ذلک. أما فیما یتعلّق بقوله علیه السلام : (من عرف نفسه عرف ربّه) والجواب عنه فنقول:
أولاً: هو مردود بقوله علیه السلام: (أعرفکم بنفسکم أعرفکم بربّکم).
ثانیاً: إن الحدیث فی معنى عکس النقیض لقوله تعالى: (وَلا تَکُونُوا کَالَّذِینَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)۷, ولقد استند أصحاب هذا الاتجاه لإثبات إمکان معرفه النفس بالإضافه إلى ما تقدم بجمله من الروایات الوارده فی هذا المجال، نحاول الوقوف عند بعضها: قال علی علیه السلام: (العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزّهها عن کل ما یبعدها). فهو علیه السلام فی معرض الحثّ على معرفه النفس والإحسان إلیها، ولولا إمکان ذلک لما صدر منه، فقد اعتبر العارف الحقیقی العارف بنفسه الملتزم بهدی معرفته. فالمعرفه الحقیقیه تقتضی أثراً مسانخاً لها، کما أن العقل الحقیقی یقتضی ذلک؛ (العقل ما عُبد به الرحمان واکتسب به الجنان)۸٫ فالأثر المسانخ للعقل هو عباده الرحمن التی تؤدی إلى دخول الجنان، وما لیس له مثل هذا الأثر فلیس بعاقل حقیقه.
وکذلک قال علیه السلام: (أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه). ولولا إمکان المعرفه لما کان لهذا الکلام معنىً ولما صدر من إمام الحکماء علیه السلام.
وروی عنه أیضاً: (عجبت لمن ینشد ضالّته وقد أضلّ نفسه فلا یطلبها)؛ فلا یستحق شیء أن یُطلب ویُتقصى مادام ما هو أشرف منه مضیَّعاً، فقد ذمّ علیه السلام المنشغلین بالأدنى عما هو خیر، ولولا أن ذلک ممکن لما صحّ هذا الذمّ.
ولم تقتصر کلمات إمام الموحدین علی أمیر المؤمنین علیه السلام على تأکید معرفه النفس، بل تعدّتها لبیان أهمیه هذه المعرفه الخطیره وثمرتها الیانعه حیث قال: (أعظم الحکمه معرفه الإنسان نفسه). فإذا ضممنا هذا إلى قوله تعالى: (یُؤْتِی الْحِکْمَهَ مَنْ یَشَاءُ وَمَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَهَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً)۹ تبیّن أن من أوضح مصادیق الحکمه هی معرفه النفس، ومن عرفها فقد أوتی خیراً کثیراً.
(أکثر الناس معرفه لنفسه أخوفهم لربه). فإذا ضممناه إلى قول الله سبحانه: (إِنَّمَا یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)۱۰ اتضح أن من أهمّ المعارف وأنفعها معرفه النفس.
(نال الفوز الأکبر من ظفر بمعرفه النفس).
(من عرف نفسه جاهدها).
(من عرف نفسه کان لغیره أعرف).
ثم بیّن _ علیه السلام _ الآثار المترتبه على الجهل بالنفس فقال:
(أعظم الجهل جهل الإنسان نفسه).
(کفى بالمرء جهلاً أن یجهل نفسه).
(من جهل نفسه کان بغیره أجهل).
(من لم یعرف نفسه کان بغیره أجهل)۱۱٫
من هنا ذکر المحققون من علمائنا أن المعرفه الأنفسیه أنفع من المعرفه الآفاقیه، وهذان الاصطلاحان مأخوذان من قوله تعالى:(سَنُرِیهِمْ آیَاتِنَا فِی الْآفَاقِ وَفِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)۱۲ وقال: (وَفِی الْأَرْضِ آیَاتٌ لِلْمُوقِنِینَ .وَفِی أَنْفُسِکُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)۱۳٫ ولعل هذا هو مراد إمام المتقین علی علیه السلام فی قوله: (المعرفه بالنفس أنفع المعرفتین). توضیح ذلک: (أن طریقی النظر إلى الآفاق والأنفس وإن کانا نافعین جمیعاً، غیر أن النظر إلى آیات النفس أنفع، فإنه لا یخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحیه والبدنیه، وما یعرضها من الاعتدال فی أمرها أو طغیانها أو خمودها، والملکات الفاضله أو الرذیله والأحوال الحسنه أو السیئه التی تقارنها.
واشتغال الإنسان بمعرفه هذه الأمور والإذعان بما یلزمها من أمن أو خطر، وسعاده أو شقاء، لا ینفکّ من أن یعرّفه الداء والدواء من موقف قریب، فیشتغل بإصلاح الفاسد منها والالتزام بصحیحها، بخلاف النظر فی الآیات الآفاقیه فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهیرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها وتحلیتها بالفضائل الروحیه، لکنه ینادی لذلک من مکان بعید.
هذا مضافاً إلى أن النظر فی الآیات الآفاقیه والمعرفه الحاصله من ذلک نظر فکری وعلم حصولی، بخلاف النظر فی النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفه المتجلّیه منها، فإنه نظر شهودی وعلم حضوری. والتصدیق الفکری یحتاج فی تحقّقه إلى نظم الأقیسه واستعمال البرهان، وهو باق مادام الإنسان متوجّها إلى مقدّماته غیر ذاهل عنها ولا مشتغل بغیرها، ولذلک یزول العلم بزوال الإشراف على دلیله وتکثر فیه الشبهات ویثور فیه الاختلاف. وهذا بخلاف العلم النفسانی بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العیان، فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آیات نفسه وشاهد فقرها إلى ربها وحاجتها فی جمیع أطوار وجودها، وجد أمراً عجیباً، وجد نفسه متعلّقه بالعظمه والکبریاء متصله فی وجودها وحیاتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبّها، وسائر صفاتها وأفعالها بما لا یتناهى بهاءً وسناءً وجمالاً وجلالاً وکمالاً من الوجود والحیاه والعلم والقدره وغیرها من کل کمال. وعند ذلک تنصرف عن کل شیء وتتوجّه إلى ربها وتنسى کل شیء وتذکر ربّها، فلا یحجبه عنها حاجب، ولا تستتر عنه بستر، وهو حق المعرفه الذی قُدّر لإنسان.
وهذه المعرفه الأحرى بها أن تسمى بمعرفه الله بالله (من دلّ على ذاته بذاته) وأما المعرفه الفکریه التی یفیدها النظر فی الآیات الآفاقیه، سواء حصلت من قیاس أو حدس أو غیر ذلک، فإنما هی معرفه بصوره ذهنیه عن صوره ذهنیه، وجلّ الإله أن یحیط به ذهن أو تساوی ذاته صوره مختلفه اختلقها خلق من خلقه )ولا یحیطون به علما)۱۴ نعم، العقل والکشف قاصران عن فهم کنه النفس من حیث (إن حقیقه الوجود الصمدی مأخوذه فی حقیقتها، وإلى هذا المعنى أشار الشیخ الأکبر محی الدین ابن عربی فی قصیده له:
ولست أدرک من شیء حقیقته وکیف أدرکه وأنتمُ فیه
لأن هاهنا ثلاثه أمور:
الأمر الاول: معرفه النفس بالفکر النظری.
الأمر الثانی: ومعرفتها الشهودیه الذوقیه على قدر جدولها الوجودی.
الأمر الثالث: ومعرفتها بالکنه بمعنى الإحاطه بالوجود الصمدی.
والأول سهل، والثانی صعب، والثالث محال فی معرفه أی شیء کان)۱۵٫
من هنا جاءت کلمات الأعلام فی التأکید والحثّ على معرفه النفس وأنها الطریق الموصل إلى معرفه المبدأ والمعاد. قال صدر المتألهین: (مفتاح العلوم بیوم القیامه ومعاد الخلائق هو معرفه النفس ومراتبها). وقال أیضاً: (علم النفس هو أمّ الحکمه وأصل الفضائل، وهی أمّ الصناعه ومعرفتها أشرف المباحث بعد إثبات المبدأ الأعلى ووحدانیته، والجاهل بمعرفتها لا یستحق أن یقع علیه اسم الحکمه وإن أتقن سائر العلوم، فالعلم المشتمل على معرفتها أفضل من غیره)۱۶٫ وقال المعلم الأول: (کل معرفه فهی فی نظرنا شیء حسن، ومع ذلک فنحن نؤثر معرفه على أخرى. إما لدقّتها وإما لأنها تبحث عما هو أشرف وأکرم، ولهذین السببین کان من الجدیر أن نرفع دراسه النفس إلى المرتبه الأولى، ویبدو أن معرفه النفس تُعین على معرفه الحقیقه الکامله)۱۷٫
لکن کلام الغزالی کان أکثر تفصیلاً وتوضیحاً: (تقریر النفس وهل هی باقیه أم لا کالقطب لسائر العلوم، وله یجدّ المجتهدون ویعمل العاملون، ولا فائده أعظم منه، فإن نبوه الأنبیاء والثواب والعقاب والجنّه والنار وسائر شؤون الدنیا والآخره المأخوذه عن الرسل لا تثبت متى أبطلت هذه المسأله، فان النفس إذا لم یکن لها بقاء فجمیع ما أخبرنا به أو طمعنا فیه باطل…)18.
وقال حسن زاده آملی: (فمبحث النفس من غرر المباحث الحکمیه فی جمیع الصحف العلمیه. وألذّ المعارف وأعزّها بعد معرفهِ الله تعالى شأنه، معرفهُ الإنسان نفسه، وهی من أهمّ المعارف وأجلّها، کیف لا ومعرفتها أمّ الحکمه وأصلها، ومفتاح خزائن الملکوت، ومرقاه معرفه الرب، لکونها مثال مفطرها ذاتاً وصفه وفعلاً، ولا طریق إلى حصول معرفه الرب إلا من معرفه الآفاق والأنفس. والمروی عن الوصی الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام وعن الإمام الصادق علیه السلام أیضاً: (الصوره الإنسانیه هی أکبر حجج الله على خلقه، وهی الکتاب الذی کتبه بیده، وهی الهیکل الذی بناه بحکمته، وهی مجموع صور العالمین، وهی المختصره من اللوح المحفوظ وهی الشاهده على کل غائب، وهی الحجه على کل جاحد، وهی الطریق المستقیم إلى کل خیر، وهی الجسر الممدود بین الجنه والنار)۱۹٫
_________________
(۱) الإسراء: ۸۵٫
(۲) الحجر: ۲۹٫
(۳) طه: ۱۱۰٫
(۴) یس: ۸۴٫
(۵) الحکمه المتعالیه فی الأسفار العقلیه الأربعه، الحکیم الإلهی والفیلسوف الربانی صدر الدین محمد الشیرازی: ج ۱ ، ص ۲۳۰ ، دار إحیاء التراث العربی، بیروت – لبنان.
(۶) الأعراف: ۱۸۵٫
(۷) الحشر: ۱۹٫
(۸) الأصول من الکافی، لثقه الإسلام أبی جعفر محمد بن یعقوب بن إسحاق الکلینی الرازی، ج ۱ ، ص ۱۱ ، کتاب العقل والجهل، الحدیث: ۳ .
(۹) البقره: ۲۶۹٫
(۱۰) فاطر: ۲۸٫
(۱۱) یمکن مراجعه هذه الکلمات فی غرر الحکم ودرر الکلم للآمدی
(۱۲) حم السجده: ۵۳٫
(۱۳) الذاریات: ۲۰ – 21.
(۱۴) المیزان فی تفسیر القرآن، للعلامه السید محمد حسین الطباطبائی، ج ۶ ، ص ۱۷۱ منشورات مؤسسه الأعلمی للمطبوعات، بیروت – لبنان.
(۱۵) عیون مسائل النفس وسرح العیون فی شرح العیون، ص ۸۱۷، تألیف: آیه الله حسن حسن زاده آملی، مؤسسه انتشارات أمیرکبیر . طهران – عین رقم: ۶۶ .
(۱۶) شرح الهدایه الاثیریه، لصدر المتألهین الشیرازی: ص ۷ ، الطبعه الحجریه.
(۱۷) أول کتاب النفس بنقل الدکتور فؤاد الأهوانی إلى العربیه، نقلاً عن مسائل عیون النفس (ناقص).
(۱۸) من شرح قصیده ابن سینا للمناوی: ص ۸۴ ، طبع مصر
(۱۹) عیون مسائل النفس: ص ۳۷ ، حسن حسن زاده آملی.

Leave A Reply

Your email address will not be published.