دور العقل فی فهم وتفسیر القرآن
قال: اعلم أنّ أسرار القرآن وحقائقه أسرار إلهیه وحقائق ربّانیه، منزّله من عالم القدس والطهاره على النفوس المقدّسه الطاهره والذوات الشریفه المنزّهه، لقوله: (إنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ)۱ ولقوله: (کَلاّ إنَّها تَذْکِرَهٌ * فَمَنْ شاءَ ذَکَرَهُ * فِی صُحُفٍ مُکَرَّمَهٍ * مَرْفُوعَهٍ مُطَهَّرَهٍ * بـِأیْدِی سَفَرَهٍ * کِرامٍ بَرَرَهٍ)۲٫ فلا یکون لها نزول ولا ظهور إلاّ فی نفوس کامله وذوات طاهره من الذنب والمعاصی المعبّر عنها بالرجس، لقوله تعالى: (الْخَبـِیثاتُ لِلْخَبـِیثِینَ وَالْخَبـِیثُونَ لِلْخَبـِیثاتِ والطَّیِّباتُ لِلطَّیِّبـینَ وَالطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّباتِ)۳٫ وقد أکّد الآملی أنّ هذه الطهاره التی أشارت إلیها الآیات لم تتحقّق إلاّ فی الأنبیاء والرسل والأئمّه والأولیاء؛ قال: (ولیس هذه النفوس الطاهره والذوات الکامله إلاّ للأنبیاء والرُّسل، وبعدهم لهؤلاء الأئمّه التابعین لهم على قدم الصدق والطهاره من أرباب التوحید. من هنا قلنا ونقول: إنّ الراسخین فی العلم على الإطلاق هم الأنبیاء ثمّ الرُّسل، ثمّ الأولیاء، ثمّ الأئمّه، ثمّ العلماء الورثه المسمّین بأرباب التوحید، حتّى لا یدخل أحد آخر فی هذا الحکم بغیر الحقّ، لأنّ الدخول فی هذا مشروط بشرط الطهاره الذاتیه، ولیس هذا إلاّ لأهل التوحید، فلا یدخل فیهم غیرهم). ولم یبیّن القرآن مصداقاً للمطهّرین إلاّ أهل البیت علیهم السلام حیث قال: (إنَّما یُرِیدُ اللهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)۴٫ وهی صریحه فی (طهاره أهل البیت وتقدّسهم وتنزّههم من الذنب والمعصیه، لأنّ هذا الرجس لا یخلو من وجهین، إمّا أن یکون بمعنى الکفر والشرک، وإمّا أن یکون بمعنى الذنب والفسق. فإن کان بالمعنى الأوّل فطهارتهم وتنزّههم من ذلک معلوم بالضروره، وإن کان بالمعنى الثانی، فلو لم یکونوا طاهرین منه، مطهّرین عن أمثاله، لا یصدق علیهم الطهاره، لأنّ الذنب والفسق من أقذر النجاسات وأنجسها، وقد شهد الحقّ بطهارتهم منه، فیجب أن یکونوا طاهرین بالضروره، وإلاّ یلزم الخلاف فی قول الله تعالى، وذلک مستحیل). ولم یکتف الآملی بما تقدّم لإثبات دعوى اختصاص التأویل بأهل البیت علیهم السلام، وإنّما حاول أن یدلّل على ذلک من خلال جمله من الآیات والروایات بالطریقه التی یفهمها. قال تعالى وفی مقام إثبات أنّ الأنبیاء والأئمّه هم أولو الأمر والتأکید على عصمتهم: (یا أیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أطِیعُوا اللهَ وَأطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الأمْرِ مِنْکُمْ فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْء فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بـِاللهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَأحْسَنُ تَأْوِیلاً)۵، وقال أیضاً: (وَإذا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الْخَوْفِ أذاعُوا بـِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلى أُولِی الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبـِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَیْکُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّیْطانَ إلاّ قَلِیلاً)۶٫ یعقّب الآملی على هاتین الآیتین بقوله: (بیان ذلک هو أنّ الولیّ المشار إلیه وإلى متابعته وجوباً، إمّا أن یکون شخصاً معیّناً أو أشخاصاً معیّنین، أو یکون المراد به السلاطین الصوریه کما هو رأی بعض الناس. فإن کان الأوّل یجب أن یکون هذا الشخص المشار إلیه معیّناً فی زمان الرسول صلّى الله علیه وآله، وإلاّ یلزم هناک الأمر بالإجمال والإهمال من غیر تحقیق وتعیین، وهذا عبثٌ منه، والعبث على الله تعالى محال; لأنّ الناس إذا لم یکن لهم علمٌ بوجود ولیّ الأمر هذا، فکیف یطیعونه، ومتابعه المجهول من جمیع الوجوه مستحیله) وبمقتضى اللطف (فإنّه یجب تعیینه، فإذا عُیّن فإمّا أن یکون واحداً أو جماعهً أو کلّ الأُمّه…) (ومحال أن یکون الأُمّه کلّها، لأنّ الکلّ لا یقدر أن یطیع الکلّ، وهو بعد ممتنع، وإن کان واحداً، فذلک الواحد…). فیثبت بذلک المطلوب، وهو أنّ أهل الذکر هم المعصومون من أهل بیت النبیّ صلّى الله علیه وآله. ثمّ بعد أن یستعرض مجموعه من الآیات لتأکید اختصاص التأویل بهؤلاء یقول: (فإذا تقرّرت هذه القواعد، وتحقّقت هذه الضوابط فلابدّ أن یکون أولو الأمر هؤلاء معصومین، وأنّه تجب متابعتهم وطاعتهم والاستفاده منهم لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أهْلَ الذِّکْرِ إنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)۷، وهذا دلیل واضح على وجوب الرجوع إلیهم، ولقوله تعالى: (وَإنَّهُ لَذِکْرٌ لَکَ وَلِقَوْمِکَ)۸٫ وهذا دلیل واضح على أنّ أهل الذکر هم آل النبیّ، إذ الذکر إشاره إلى القرآن بالاتّفاق، وبناءً على هذا فالسؤال حقّ السؤال فیما یرتبط بفهم القرآن وعلمه لا یجوز أن یلقى إلاّ علیهم أو یتوجّه به إلاّ إلیهم)۹٫ وبهذا یثبت عند الآملی أنّ الراسخ من أهل البیت لا یحکم إلاّ بما أنزل الله ـ والحکم هنا بمعنى التعلیم ـ لأنّه (الراسخ فی العلم الإلهی والأوضاع النبویّه، وهو یحکم بحسب الظاهر والباطن على مجموع القرآن ظاهراً وباطناً إلى أن یصل إلى السبعه أبطن، فإنّ ذلک کلّه مخصوص بعد النبیّ صلّى الله علیه وآله بأهل بیته وذرّیته)۱۰٫
وأمّا أقوال النبیّ صلّى الله علیه وآله فی خصوص ذلک فکثیرهٌ لا تکاد تحصى؛ منها قوله صلّى الله علیه وآله: إنّی تارکٌ فیکم الثقلین; کتاب الله وعترتی أهل بیتی، حبلان متّصلان لن یفترقا حتّى یردا علیَّ الحوض، ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا بعدی أبداً. ثمّ یستطرد الآملی فی نقل الأقوال عن أهل البیت علیهم السلام أنفسهم والتی تدلّ على اختصاص التأویل بهم:
منها: ما جاء عن علی أمیر المؤمنین علیه السلام: أین الذین زعموا أنّهم الراسخون فی العلم دوننا، کذباً وبغیاً علینا، أنْ رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا یُستعطى الهدى، ویُستجلى العمى، إنّ الأئمّه من قریش غُرسوا فی هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاه من غیرهم۱۱٫
ومنها: ما عن علیّ علیه السلام أیضاً: فأین تذهبون؟ وأنّى تؤفکون؟ والأعلام قائمه، والآیات واضحه، والمنار منصوبه، فأین یتاه بکم! وکیف تعمهون وبینکم عتره نبیّکم! وهم أزمّه الحقّ، وأعلام الدِّین، وألسنه الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، ورِدُوهم ورود الهیم العطاش. أیّها الناس، خذوها عن خاتم النبیّین صلّى الله علیه وآله: (إنّه یموت من مات منّا ولیس بمیّت، ویبلى من بلی منّا ولیس ببال) فلا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أکثر الحقّ فیما تنکرون۱۲٫ ویطیل الآملی هنا فی معالجه هذه القضیه من وجهه مدرسه أهل البیت علیهم السلام۱۳٫ (ویستعید إرثاً شیعیّاً معروفاً فی هذا الصدد، ویسترجح نفس الأدلّه والأقوال والحجج التی استعان بها المنظّرون الشیعه، لتأکید النصّ على الإمامه وانحصارها فی أهل البیت علیهم السلام. ولن تختلف معالجه الآملی لهذه الحجج والأدلّه عن معالجه غیره. إنّه مذهبیّ بامتیاز، بمعنى أنّه یعود إلى حیاض انتمائه المذهبی، ویتترّس وراء موروثه ، مستفیداً منه فی رسم صوره رؤیته الصوفیه لمسأله التأویل والقیّمین علیه.
وکیف کان، فالآملی یرى أنّ الأوصاف التی مرّ ذکرها، وأشار إلیها القرآن، ودلّل علیها النبیّ صلّى الله علیه وآله لا تلیق إلاّ بهؤلاء، ولا تناسب إلاّ کمالهم)۱۴٫ (وبناءً علیه فلا یصدق اسم الرسوخ إلاّ علیهم، ولا یجوز أخذ التأویل إلاّ منهم، وممّن تابعهم على قدم الصدق والاستقامه. ومن تخلّف عنهم فی خصوص القرآن وأسراره الحقیقیّه، غرق فی بحر الهلاک والضلال والجهل والشفاء، ومن هذا وجبت متابعتهم والاقتداء بهم فی الکلّ)۱۵٫ ویرى الآملی أنّ من أدلّه اختصاص التأویل بأهل البیت علیهم السلام، تأکید ثبوته لخاتم الأولیاء مقیّداً أی المهدی المنتظر علیه السلام، وافتراض أنّ عصره هو عصر التأویل على ما هو علیه، وفی أجلى صوره وأوضح معانیه. یقول مرکّزاً على هذه الفکره. (فلو لم یکن مخصوصاً بهم وبتابعیهم، لم یکن الله تعالى یقیّد التأویل بالإمام المنتظر منهم المسمّى بالمهدی فی قوله: (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بـِکِتاب فَصَّلْناهُ عَلى عِلْم هُدىً وَرَحْمَهً لِقَوْم یُؤْمِنُونَ * هَلْ یَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِیلَهُ یَوْمَ یَأْتِی تَأْوِیلُهُ یَقُولُ الَّذِینَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بـِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَیَشْفَعُوا لَنا أوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَیْرَ الَّذِی کُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما کانُوا یَفْتَرُونَ)۱۶٫ فزمان المهدی إذاً یقتضی ظهور التأویل على ما هو علیه، وظهور الشریعه على ما ینبغی، ورفع المذاهب والملل بحیث لا یبقى إلاّ مذهب واحد ودین واحد، کما أشار إلیه الحقّ تعالى فی قوله: (یُرِیدُونَ أنْ یُطْفِئوُا نُورَ اللهِ بـِأفْواهِهِمْ وَیَأْبَى اللهُ إلاّ أنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ * هُوَ الَّذِی أرْسَلَ رَسُولَهُ بـِالْهُدى وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَى الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ)۱۷، ولقد أُشیر إلى هذا الیوم بخبر منسوب إلى رسول الله صلّى الله علیه وآله یقول فیه: قال عیسى علیه السلام: نحن نأتیک بالتنزیل، وأمّا التأویل فسیأتی به الفارقلیط فی آخر الزمان۱۸٫ والفارقلیط بلسانهم هو المهدی علیه السلام، فیکون تقدیره أنّه سیأتیکم بتأویل القرآن وتحقیقه کما جئنا بتفسیر القرآن وتنزیله، لأنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، وتأویلاً وتفسیراً ومحکماً ومتشابهاً وغیر ذلک من الأحکام)۱۹٫
وکیف کان فلقد عقّب الآملی على هذا السرد بقوله: (إنّ الغرض من کلّ ذلک هو إثبات أنّ التأویل حقّ التأویل بعد أجداده الطاهرین مخصوص به وبزمانه)۲۰٫
ـــــــــــــــــ
(۱) الواقعه: ۷۷ـ ۷۹٫
(۲) عبس: ۱۱ ـ ۱۶٫
(۳) النور: ۲۶٫
(۴) الأحزاب: ۳۳٫
(۵) النساء: ۵۹٫
(۶) النساء: ۸۳٫ .
(۷) النحل: ۴۳٫
(۸) الزخرف: ۴۴٫
(۹) تفسیر المحیط الأعظم والبحر الخضم: ج۱ ص۴۲۷ ـ۴۳۳، بتصرّف.
(۱۰) المقدّمات من کتاب نصّ النصوص فی شرح فصوص الحکم، سیّد حیدر الآملی، مع تصحیحات: هنری کربین، پروفسوردسربن، عثمان إسماعیل یحیى، طهران: ۱۹۷۴: ص۳۷٫
(۱۱) نهج البلاغه: الخطبه ۱۴۴، تحقیق: الدکتور صبحی الصالح.
(۱۲) نهج البلاغه: الخطبه: ۸۷ . تحقیق الدکتور صبحی الصالح .
(۱۳) تفسیر المحیط الأعظم والبحر الخضم: ج۱ ص۴۳۴ـ۴۴۰٫
(۱۴) العرفان الشیعی: ص۷۳۴٫
(۱۵) تفسیر المحیط الأعظم والبحر الخضم: ج۱ ص۴۳۲٫
(۱۶) الأعراف: ۵۲ ـ ۵۳٫
(۱۷) التوبه: ۳۲ـ ۳۳٫
(۱۸) عوالی اللآلی العزیزیه فی الأحادیث الدینیّه: ج۴ ص۱۲۴٫
(۱۹) جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مع رساله نقد النقود فی الوجود، السیّد حیدر الآملی: ص۱۰۴، مع تصحیحات: هنری کربین وعثمان إسماعیل یحیى.
(۲۰) تفسیر المحیط الأعظم والبحر الخضم: ج۱ ص۴۶۴٫