سبایا آل النبی فی دمشق

0

وعانت عقائل الوحی ومخدرات النبوه والإمامه جمیع ضروب المحن والبلاء أیام مکثهن فی الکوفه، فقد عانین مراره السجن وشماته الأعداء، وذلّ الأسر، وبعدما صدرت الأوامر من دمشق بحملهن إلى یزید أمر ابن مرجانه بتسییر رؤوس أبناء النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وأصحابهم إلى الشام لتعرض على الشامیّین، کما عرضت على الکوفیّین حتى تمتلأ قلوب الناس فزعاً وخوفاً وتظهر مقدره الاُمویّین، وغلبتهم على آل الرسول.
وقد سیّرت رؤوس العتره الطاهره مع الأثیم زهیر بن قیس الجعفی، کما سیّرت العائله النبویه مع محفر بن ثعلبه من عائده قریش، وشمر بن ذی الجوشن، وقد أوثقت بالحبال، وأرکبت على أقتاب الجمال، وهن بحاله تقشعر منها ومن ذکرها الأبدان وترتعد لها فرائض کل إنسان(۱).
وسارت قافله الأسرى لا تلوی على شیء حتى انتهت إلى القرب من دمشق، فاُقیمت هناک حتى تتزیّن البلد بمظهر الزهو والأفراح، ومن الجدیر بالذکر أنّ مخدّرات النبوه وباقی الأسرى قد التزموا جانب الصمت فلم یطلبوا أی شیء من اُولئک الأنذال الموکّلین بهم، وذلک لعلم العلویات بعدم الاستجابه لأی شیء من مطالبهن.
 
تزیین الشام
وأمرت حکومه دمشق الدوائر الرسمیه وشبه الرسمیه بإظهار الزینه والفرح للنصر الذی أحرزته بقتل أبناء النبیّ (صلّى الله علیه وآله)، ووصف بعض المؤرخین تلک الزینه بقوله:
ولمّا بلغوا – أی أسارى أهل البیت – ما دون دمشق بأربعه فراسخ استقبلهم أهل الشام وهم ینثرون النثار فرحاً وسروراً حتى بلغوا بهم قریب البلد، فوقفوهم عن الدخول ثلاثه أیام وحبسوهم هناک، حتى تتوفّر زینه الشام وتزویقها بالحلیّ والحلل والحریر والدیباج والفضه والذهب وأنواع الجواهر، على صفه لم یر الراؤون مثلها لا قبل ذلک الیوم ولا بعده، ثمّ خرج الرجال والنساء، والأصاغر والأکابر، والوزراء والأمراء، والیهود والمجوس والنصارى وسائر الملل، إلى التفرّج ومعهم الطبول والدفوف والبوقات والمزامیر، وسائر آلات اللهو والطرب، وقد کحّلوا العیون، وخضبوا الأیدی، ولبسوا أفخر الملابس، وتزیّنوا أحسن الزینه، ولم یر الراؤون أشدّ احتفالاً ولا أکثر اجتماعاً منه، حتى کأن الناس کلّهم حشروا جمیعاً فی صعید دمشق(۲).
لقد أبدى ذلک المجتمع الذی تربّى على بغض أهل البیت جمیع ألوان الفرح والسرور بإباده العتره الطاهره وسبی حرائر النبوه.
وروى سهل بن سعد الساعدی ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسین، یقول: خرجت إلى بیت المقدس حتى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدینه مطرده الأنهار کثیره الأشجار، قد علّقت علیها الحجب والدیباج، والناس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء یلعبن بالدفوف والطبول، فقلت فی نفسی: إنّ لأهل الشام عیداً لا نعرفه، فرأیت قوماً یتحدّثون فقلت لهم:
ألکم بالشام عید لا نعرفه؟
نراک یا شیخ غریباً؟
أنا سهل بن سعد قد رأیت رسول الله.
یا سهل، ما أعجبک أن السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها.
وما ذاک؟
هذا رأس الحسین یُهدی من أرض العراق.
واعجباً، یهدى رأس الحسین والناس یفرحون! من أیّ باب یدخل؟
وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إلیها، وبینما هو واقف وإذا بالرایات یتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بیده لواء منزوع السنان، وعلیه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّى الله علیه وآله) وهو رأس أبی الأحرار، وخلفه السبایا محموله على جمال بغیر وطاء، وبادر سهل إلى إحدى السیّدات فسألها: من أنت؟
(أنا سکینه بنت الحسین).
ألک حاجه؟ فأنا سهل صاحب جدّک رسول الله.
(قل لصاحب هذا الرأس أن یقدّمه أمامنا حتى یشتغل الناس بالنظر إلیه، ولا ینظرون إلى حرم رسول الله (صلّى الله علیه وآله)).
وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمائه درهم فباعد الرأس عن النساء(۳).
 
الشامی مع زین العابدین
وانبرى شیخ هرم یتوکّأ على عصاه لیمتّع نظره بالسبایا، فدنا من الإمام زین العابدین فرفع عقیرته قائلاً:
الحمد لله الذی أهلککم وأمکن الأمیر منکم.
وبصر به الإمام فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعایه الاُمویه فقال له:
(یا شیخ، أقرأت القرآن؟).
فبهت الشیخ من أسیر مکبول، فقال له بدهشه: بلى.
(أقرأت قوله تعالى: (قُل لاَ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّهَ فِی الْقُرْبى)، وقوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)، وقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَیْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُربى)؟).
وبهر الشیخ وتهافت فقال:
نعم، قرأت ذلک.
فقال له الإمام: (نحن والله القربى فی هذه الآیات.. یا شیخ، أقرأت قوله تعالى: (إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجسَ أَهْلَ الْبَیتِ وَیُطَهَّرَکُم تطْهِیراً)؟).
قال: بلى.
(نحن أهل البیت الذین خصّهم الله بالتطهیر).
ولمّا سمع الشیخ ذلک من الإمام ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط فی أمر نفسه، وتلجلج وقال للإمام بنبرات مرتعشه:
بالله علیکم أنتم هم؟
(وحق جدّنا رسول الله (صلّى الله علیه وآله) إنّا لنحن هم من غیر شکّ..).
وودّ الشیخ أنّ الأرض قد وارته ولم یجابه الإمام بتلک الکلمات القاسیه، وألقى بنفسه على الإمام وهو یوسع یدیه تقبیلاً، ودموعه تجری على سحنات وجهه قائلاً:
أبرأ إلى الله ممّن قتلکم.
وطلب من الإمام أن یمنحه العفو والرضا فعفا الإمام عنه(۴).
 
سرور یزید
وغمرت یزید موجات من الفرح حینما جیء له بسبایا أهل البیت، وکان مطلاً على منظر فی جیرون، فلمّا نظر إلى الرؤوس والسبایا قال:
لـــــما بدت تلک الحمول وأشرقــت تــــلک الــرؤوس على شفا جیرون
نعـــــب الغراب فقلت: قل أو لا تقل فقد اقتـــضیت من الرسول دیونی(۵)
لقد أخذ ابن هند ثأره من ابن فاتح مکه ومحطم أوثان قریش، فقد أباد العتره الطاهره وسبى ذراریها تشفّیاً وانتقاماً من الرسول الذی قتل أعلام الاُمویّین.
 
رأس الإمام عند یزید
وحمل الخبیث الأبرص شمر بن ذی الجوشن ومحفر بن ثعلبه العائدی رأس ریحانه رسول الله وسیّد شباب أهل الجنه هدیه إلى الفاجر یزید بن معاویه، فسرّ بذلک سروراً بالغاً، فقد استوفى ثأره ودیون الاُمویّین من ابن رسول الله، وقد أذن للناس إذناً عاماً لیظهر لهم قدرته وقهره لآل النبیّ (صلّى الله علیه وآله)، وازدحم الأوباش والأنذال من أهل الشام على البلاط الاُموی، وهم یعلنون فرحتهم الکبرى، ویهنّئون یزید بهذا النصر الکاذب(۶). وقد وضع الرأس الشریف بین یدی سلیل الخیانه، فجعل ینکثه بمخصرته، ویقرع ثنایاه اللتین کان رسول الله (صلّى الله علیه وآله) یترشفهما، وجعل یقول:
(لقد لقیت بغیک یا حسین)(۷).
ثمّ التفت إلى عملائه وأذنابه فقال لهم: (ما کنت أظنّ أباعبد الله قد بلغ هذا السنّ، وإذا لحیته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود)(۸).
وتأمل فی وجه الإمام(علیه السّلام) فغمرته هیبته وراح یقول:
(ما رأیت مثل هذا الوجه حسناً قطّ)(۹).
أجل إنّه کوجه رسول الله (صلّى الله علیه وآله) الذی تحنو له الوجوه والرقاب، والذی یشعّ بروح الإیمان، وراح ابن معاویه یوسع ثغر الإمام بالضرب وهو یقول: إنّ هذا وإیّانا کما قال الحصین بن الحمام:
أبـــــى قومنا إن ینصفونا فانصفت قواضب فی إیمــــاننا تقـــطر الدما
نُفلِّقـــــن هــــاماً مــن رجال أعــزَّه علینـــــا وهــم کانوا أعقَّ وأظلمـا
ولم یتم الخبیث کلامه حتى أنکر علیه أبو برزه الأسلمی فقال له: أتنکت بقضیبک فی ثغر الحسین، أما لقد أخذ قضیبک فی ثغره مأخذاً لربّما رأیت رسول الله (صلّى الله علیه وآله) یرشفه، أما انّک یا یزید تجیء یوم القیامه وابن زیاد شفیعک ویجیء هذا ومحمّد (صلّى الله علیه وآله) شفیعه).
ثم قام منصرفاً عنه(۱۰).
 
السبایا فی مجلس یزید
وعمد الأنذال من جلاوزه الخبیث ابن الخبیث یزید بن معاویه إلى عقائل الوحی وسائر الصبیه فربقوهم بالحبال کما تربق الأغنام، فکان الحبل فی عنق الإمام زین العابدین إلى عنق العقیله زینب وباقی بنات رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، وکانوا کلّما قصّروا عن المشی أوسعوهم ضرباً بالسیاط، وجاءوا بهم على مثل هذه الحاله التی تتصدّع من هولها الجبال، وهم یکبّرون ویهلّلون بسبیهم لبنات رسول الله وإبادتهم لعترته.
وأوقفت مخدرات الرساله بین یدی یزید، فالتفت إلیه الإمام زین العابدین(علیه السّلام) فقال له:
(ما ظَنُّکَ بِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله علیه وآله) لَوْ رَآنَا عَلى هذِهِ الصِّفَهِ؟).
فتأثّر یزید، ولم یبق أحد فی مجلسه إلاّ بکى، وکان منظر العلویات مثیراً للعواطف، فقال یزید:
قبّح الله ابن مرجانه لو کان بینکم وبینه قرابه لما فعل بکم هذا.
إنّه لم یصنع بالسیّدات العلویات بمثل هذه الأعمال إلاّ بأمر یزید وإرضاءً لعواطفه ورغباته واستجابه لعواطف القرشیّین الذین ما آمنوا بالإسلام وکانت نفوسهم مترعه بالحقد لرسول الله (صلّى الله علیه وآله).
والتفت الطاغیه إلى الإمام زین العابدین فقال له:
إیه یا علیّ بن الحسین، أبوک الذی قطع رحمی وجهل حقی، ونازعنی سلطانی، فصنع الله به ما رأیت.
فأجابه شبل الحسین بکل طمأنینه وهدوء بقوله تعالى:
((ما أصاب من مصیبه فی الأرض ولا فی أنفسکم إلا فی کتاب من قبل أن نبرأها إن ذلک على الله یسیر لکیلا تأسوا على ما فاتکم ولا تفرحوا بما أتاکم والله لا یحب کل مختالٍ فخورٍ) ).
وثار الطاغیه وقال للإمام:
(وما أصابکم من مصیبهٍ فبما کسبت أیدیکم).
فردّ علیه الإمام:
(هذا فی حقّ من ظلم لا فی حق من ظُلِم..).
وزوى الإمام بوجهه عنه ولم یکلّمه استهانه به(۱۱).
 
خطاب العقیله
وأظهر الطاغیه الآثم فرحته الکبرى بإبادته لعتره رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فقد صفا له الملک، واستوسقت له الاُمور، وأخذ یهزّ أعطافه جذلاناً متمنّیاً حضور القتلى من أهل بیته ببدر لیریهم کیف أخذ بثأرهم من النبیّ (صلّى الله علیه وآله) فی ذرّیته، وراح یترنّم بأبیات ابن الزبعری قائلاً أمام الملأ بصوت یسمعه الجمیع:
لَیْــــتَ أَشـــــْیَاخِی بِبَدرٍ شَـهِدُو جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِـنْ وَقْعِ الأَسَـلْ
فَـــــأَهَلُّوا وَاســـــــتَهَلُّوا فِرَحــاً ثُمَّ قَالُوا: یَا یَـــــزِیدُ لاَ تُشـَــــلْ
قَــــــدْ قَتَلْنَا الْقَوْمَ مِنْ سَادَاتِهِـمْ وَعَـــــدَلْنَاهُ بـِـــبَدْرٍ فَاعْتَـــــــدَلْ
لَعِبَـــــتْ هَــــــاشِمُ بالْمُلْکِ فَـــلاَ خَبَرٌ جـَــــاءَ وَلاَ وَحــــْیٌ نــَزَلْ
لَـــستُ مِنْ خِــنْدِفَ إِنْ لَمْ أَنْتَقِمْ مِـــــنْ بَنِی أَحْمَدَ مِا کَانَ فَعـــَلْ
ولمّا سمعت العقیله هذه الأبیات التی أظهر فیها التشفّی بقتل عتره رسول الله (صلّى الله علیه وآله) انتقاماً منهم لقتلى بدر، وثبت کالأسد، فسحقت جبروته وطغیانه فکأنّها هی الحاکمه والمنتصره والطاغیه هو المخذول والمغلوب على أمره، وقد خطبت هذه الخطبه التی هی من متمّمات النهضه الحسینیه، قالت (علیها السّلام):
(أَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ، وَصَلَّى اللهُ عَلىَ مُحَمّدَ وآلِهِ أَجْمَعِیَن، صَدَقَ اللهُ کَذَلکَ یَقُولُ: (ثم کان عاقبه الذین أساؤوا السؤى أن کذبوا بأیات الله وکانوا بها یَسْتَهْزِؤُونَ)(۱۲)، أَظَنَنْتَ – یَا یَزِیدُ- حَیْثُ أَخَذْتَ عَلَیْنَا
أَقْطَارَ الأَرْضِ وَآفَاقَ السَّمَاءِ فَأَصْبَحْنَا نُسَاقُ کَمَا تُسَاقُ الإِمَاءِ – أَنَّ بِنَا عَلَى اللهِ هَوَاناً، وَبِکَ عَلَیْهِ کَرَامَهٍ!! وَأَنَّ ذَلِکَ لِعَظِیمَ خَطَرِکَ عِنْدَهُ!! فَشَمَخْتَ بِأَنْفِکَ وَنَظَرْتَ فی عَطْفِکَ، جَذْلانَ مَسْرُوراً، حِینَ رَأَیْتَ الدُّنْیَا لَکَ مُسْتَوْسِقَهً، وَالأُمُورَ مُتَّسِقَهً، وَحِینَ صَفَا لَکَ مُلْکُنَا وسُلْطَاننَا، فَمَهلاً، أَنَسِیتَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (ولا یحسبن الذین کفروا أنما نملی لهم خیر لأنفسهم إنما نملی لهم لیزدادوا إثماً ولهم عذاب مهین)(۱۳).
أَمِنَ الْعَدْلِ یَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِیرُکَ حَرَائِرَکَ وَإمَاءَکَ وَسُوقَکَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَایَا؟! قدْ هَتَکْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَیْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدِ إلى بلدٍ، وَیَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَازِلِ وَالمَنَاهِلِ(۱۴)، وَیَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِیبُ وَالبَعِیدُ، وَالدَّنِیُّ وَالشَّرِیفُ، لَیْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالهِنَّ وَلِیُّ، وَلاَ مِنْ حَمَاتِهنَّ حَمِیُّ.
وَکَیْفَ تُرْتَجىَ مُرَاقبَهُ مَنْ لَفَظَ فُوهُ أَکْبَادَ الأَزْکیَاءِ، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ؟!
وَکَیْفَ لاَ یَسْتَبطِأُ فِی بُغْضِنَا أَهلَ الْبَیْتِ مَنْ نَظَرَ إِلَیْنَا بَالشَّنَفِ(۱۵) والشَّنَآنِ وَالإِحَنِ وَالأَضْغَانِ؟!
ثُمَّ تَقُولُ غَیْرَ مُتَأَثِّمٍ وَلاَ مُسْتَعْظِمٍ:
لأَهَـــــلُّوا وَاســـــْتَهَلُّوا فَــــرَحاً ثُــــمَّ قَـــالُوا: یَـــا یَزِیدُ لاَ تُشَلْ
مُنْتَحِیاً عَلىَ ثَنَایَا أَبِی عَبْدِ اللهِ (علیه السّلام) سَیِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّهِ تَنْکُتُهَا بِمِخْصَرَتِکَ.
وَکَیفَ لاَ تَقُولُ ذَلکَ، وَقَدْ نَکَأُتَ الْقَرْحَهَ، وَاسْتَأْصَلْتَ الشَّأْفَهَ، بإِرَاقَتِکَ دِمَاءَ ذُرَّیَّهِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله علیه وآله) وَنُجُومِ الأرْضِ مِنْ آلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! وتَهْتِفُ بِأَشْیَاخِکَ، زَعَمْتَ أَنَّکَ تُنَادِیهِمْ!
فَلَتَرِدَنَّ وَشِیکاً مَوْرِدَهُمْ، وَلَتَوَدَّنَّ أَنَّکَ شُلِلْتَ وَبُکمْتَ وَلَمْ تَکُنْ قُلْتَ مَا قُلتَ وَفَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ.
أَللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا، وَانتَقِمْ مِمَّنْ ظَلَمَنَا، وَاحْلُلْ غَضَبَکَ بِمَنْ سَفَکَ دِمَاءَنَا وَقَتَلَ حُمَاتَنَا.
فَوَاللهِ مَا فَرَیْتَ إِلاَّ جِلْدَکَ، وَلا حَزَزْتَ إِلاَّ لَحْمَکَ، وَلَتَرِدَنَّ عَلى رَسُولِ اللهِ (صلّى الله علیه وآله) بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ سَفْکِ دِمَاءِ ذُرّیَّتِهِ، وَانْتَهکْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ فِی عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ، وَحَیثُ یَجْمَعُ اللهُ شَمْلَهُمْ وَیَلُمُّ شَعْثَهُمْ وَیَأْخُذُ بِحَقِّهِمْ (ولا تحسبن الذین قتلوا فی سبیل الله أمواتاً بل أحیاء عند ربهم یرزقون)(۱۶).
وَحَسْبُکَ بِاللهِ حَاکِماً، وَبِمُحَمَّدٍ (صلّى الله علیه وآله) خَصِیماً، وَجَبِرَئیلَ ظَهیراً، وَسَیَعْلَمُ مَنْ سَوَّلَ لَکَ وَمَکَّنَکَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِینَ، بِئْسَ للِظَّالِمِینَ بَدَلاً وَأَیُّکُمُ شَرُّ مَکَاناً وأَضْعَفُ جُنْداً.
وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَیَّ الدَّوَاهِی مُخَاطَبَتَکَ، إِنِّی لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَکَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِیعَکَ، وَأَسْتَکْثِرُ تَوْبِیخَکَ، لَکِنِ الْعُیُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّىَ.
أَلاَ فَالعَجَبُ کُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ بِحِزْبِ الشَّیْطَانِ الطُّلَقَاءِ، فَهَذِهِ الأَیْدِی تَنْطِفُ(۱۷).مِنْ دِمَائِنَا، وَالأَفْوَاهُ تَتَحَلَّبُ مِنْ لُحُومِنَا، وَتِلکَ الْجُثَثُ الطَّوَاهِرُ الزَّوَاکِی تَنْتَابُهَا الْعَوَاسِلُ(۱۸). وَتَعْفِرُهَا أُمَّهَاتُ الْفَرَاعِلِ(۱۹)، وَلَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً لَتَجِدُنَا وَشِیکاً مُغْرَماً، حِینَ لاَ تَجِدُ إِلاَّ مَا قَدَّمَتْ یَدَاکَ، وَمَا ربُّکَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِیدِ، فَإلَى اللهِ الْمُشْتَکىَ، وَعَلَیْهِ الْمُعَوَّلُ.
فَکِدْ کَیْدَکَ، وَاسْعَ سَعْیَکَ، ونَاصِبْ جَهْدَکَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُوَنَّ ذِکْرَنَا، ولاَ تُمِیتُ وَحْیَنَا، وَلاَ تُدْرکُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْکَ عَارَهَا.
وَهَلْ رَأْیُکَ إِلاَّ فَنَداً، وَأَیَّامُکَ إِلاَ عَدَداً، وَجَمْعُکَ إِلابَدَداً، یَوْمَ یُنَادِی الْمُنَادِ: أَلاَ لَعْنَهُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِینَ.
فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِی خَتَمَ لأَوَّلِنَا بِالسَّعَادهَ وَالمَغْفِرهِ، وَلآخِرنَا بِالشَّهَادَهِ وِالرَّحْمَهِ.
وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ یُکْمِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ، وَیُوجِبَ لَهُمُ الْمَزِیدَ، وَیُحْسِنَ عَلَیْنَا الْخِلافَهَ، إِنَّهُ رَحِیمُ وَدُودُ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَکِیل(۲۰).
وهذا الخطاب من متمّمات النهضه الحسینیه، ومن روائع الخطب الثوریه فی الإسلام، فقد دمّرت فیه عقیله بنی هاشم وفخر النساء جبروت الاُموی الظالم یزید، وألحقت به وبمن مکّنه من رقاب المسلمین العار والخزی، وعرّفته عظمه الاُسره النبویه التی لا تنحنی جباهها أمام الطغاه والظالمین، وعلّق الإمام الشیخ محمّد حسین آل کاشف الغطاء على هذا الخطاب بقوله:
أتستطیع ریشه أعظم مصوّر، وأبدع ممثل أن یمثّل لک حال یزید وشموخه بأنفه، وزهوه بعطفه وسروره وجذله باتّساق الاُمور، وانتظام الملک ولذّه الفتح والظفر والتشفّی والانتقام بأحسن من ذلک التصویر والتمثیل، وهل فی القدره والإمکان لأحد أن یدفع خصمه بالحجّه والبیان والتقریع والتأنیب، ویبلغ ما بلغته سلام الله علیها بتلک الکلمات، وهی على الحال الذی عرفت، ثمّ لم تقتنع منه بذلک، حتى أرادت أن تمثّل له وللحاضرین عنده ذلّه الباطل، وعزّه الحق وعدم الإکتراث واللامبالاه بالقوه والسلطه والهیبه والرهبه، أرادت أن تعرّفه خسّه طبعه، وضعه مقداره، وشناعه فعله، ولؤم فرعه وأصله(۲۱).
ویقول المرحوم الفکیکی:
تأمّل معی فی هذه الخطبه الناریه کیف جمعت بین فنون البلاغه، وأسالیب الفصاحه، وبراعه البیان، وبین معانی الحماسه، وقوه الاحتجاج، وحجّه المعارضه، والدفاع فی سبیل الحریه والحقّ والعقیده، بصراحه هی أنفذ من السیوف إلى أعماق القلوب، وأحدّ من وقع الأسنه فی الحشا، والمهج فی مواطن القتال، ومجالات النزال، وکان الوثوب على أنیاب الأفاعی، ورکوب أطراف الرماح أهون على یزید من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذی صرخت به ربیبه المجد والشرف فی وجوه طواغیت بنی اُمیّه وفراعنتهم فی منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلیه والارستقراطیه الکریهه، ثمّ أنّ هذه الخطبه التأریخیه القاصعه لا نزال تنطق ببطولات الحوراء الخالده وجرأتها النادره، وقد احتوت النفس القویه الحساسه الشاعره بالمثالیه الأخلاقیه الرفیعه السامیه، وسیبقى هذا الأدب الحیّ صارخاً فی وجوه الطغاه الظالمین على مدى الدهر وتعاقب الأجیال وفی کل ذکرى لواقعه الطفّ الدامیه المفجعه(۲۲).
 
محتویات الخطاب
وحلّلنا محتویات خطاب العقیله فی کتابنا (حیاه الإمام الحسین)، وننقله لما فیه من مزید الفائده، وهذا نصّه: وکان هذا الخطاب العظیم امتداداً لثوره کربلاء، وتجسیداً رائعاً لقیمها الکریمه وأهدافها السامیه، وقد حفل بمایلی:
أوّلاً: إنّها دلّلت على غرور الطاغیه وطیشه، فقد حسب أنّه هو المنتصر بما یملک من القوى العسکریه التی ملأت البیداء وسدّت أفاق السماء إلاّ أنّه انتصار مؤقّت، ومن طیشه أنّه حسب أنّ ما أحرزه من الانتصار کان لکرامته عند الله تعالى وهوان لأهل البیت، ولم یعلم أنّ الله إنّما یملی للکافرین فی الدنیا من النعم لیزدادوا إثماً ولهم فی الآخره عذاب ألیم.
ثانیاً: إنّها نعت علیه سبیه لعقائل الوحی، فلم یرع فیهم قرابتهم لرسول الله (صلّى الله علیه وآله)، وهو الذی منَّ علیهم یوم فتح مکه، فکان أبوه وجدّه من الطلقاء، فلم یشکر للنبیّ هذه الید، وکافئه بأسوء ما تکون المکافئه.
ثالثاً: أنّ ما اقترفه الطاغیه من سفکه لدماء العتره الطاهره، فإنّه مدفوع بذلک بحکم نشأته وموارثیه، فجدّته هند هی التی لاکت کبد سیّد الشهداء حمزه، وجدّه أبو سفیان العدوّ الأوّل للإسلام، وأبوه معاویه الذی أراق دماء المسلمین وانتهک جمیع ما حرمه الله، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التی فطر علیها.
رابعاً: إنّها أنکرت علیه ما تمثّل به من الشعر الذی تمنّى فیه حضور شیوخه الکفره من الاُمویّین لیروا کیف أخذ بثأرهم من النبیّ (صلّى الله علیه وآله) بإبادته لأبنائه، إلاّ أنّه سوف یرد موردهم من الخلود فی نار جهنم.
خامساً: إنّ الطاغیه بسفکه لدماء العتره الطاهره لم یسفک إلاّ دمه، ولم یقرِ إلاّ جلده، فإنّ تلک النفوس الزکیه حیّه وخالده، وقد تلفّعت بالکرامه، وبلغت قمّه الشرف، وأنّه هو الذی باء بالخزی والخسران.
سادساً: إنّما عرضت إلى من مکّن الطاغیه من رقاب المسلمین، فهو المسؤول عمّا اقترفه من الجرائم والموبقات، وقد قصدت سلام الله علیها مغزى بعیداً یفهمه کل من تأمّل فیه.
سابعاً: أنّها أظهرت سموّ مکانتها، وخطر شأنها، فقد کلّمت الطاغیه بکلام الأمیر والحاکم، فاستهانت به، واستصغرت قدره، وتعالت عن حواره، وترفّعت عن مخاطبته، ولم تحفل بسلطانه، لقد کانت العقیله على ضعفها وما ألمّ بها من المصائب أعظم قوّه وأشدّ بأساً منه.
ثامناً: أنّها عرضت إلى أنّ یزید مهما بذل من جهد لمحو ذکر أهل البیت(علیهم السّلام)، فإنّه لا یستطیع إلى ذلک سبیلاً لأنّهم مع الحقّ، والحقّ لابدّ أن ینتصر، وفعلاً فقد انتصر الإمام الحسین، وتحوّلت مأساته إلى مجد لا یبلغه أی إنسان کان، فأیّ نصر أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من النصر الذی أحرزه الإمام علیه السّلام.
هذا قلیل من کثیر ممّا جاء فی هذه الخطبه التی هی آیه من آیات البلاغه والفصاحه، ومعجزه من معجزات البیان، وهی إحدى الضربات التی أدّت إلى انهیار الحکم الاُموی(۲۳).
 
جواب یزید
ولم یستطع الطاغیه الجواب على خطاب العقیله، فقد انهار کبریاؤه وغروره وتمثّل ببیت من الشعر وهو:
یَا صَیْحَــــــهً تُحْمَدُ مِنْ صَوَائِحِ مَـــا أَهْوَنَ الْمَوْتَ عَلَى النَّوَائِحِ
ولا توجد أیّه مناسبه بین ذلک الخطاب الثوری الذی أبرزت فیه عقیله الوحی واقع یزید وجرّدته من جمیع القیم والمبادئ الإنسانیه، وبین هذا البیت من الشعر الذی حکى أنّ الصیحه تحمد من الضوائح، وأنّ النوح یهون على النائحات، فأی ربط موضوعی بین الأموین.
 
اضطراب الطاغیه
وتلبّدت الأجواء السیاسیه على الطاغیه، وحار فی أمره فقد فضحته العقیله بخطابها الخالد، وجرّدته من السلطه الشرعیه، وأخذت الأوساط الشعبیه فی دمشق تتحدّاه وتنقم علیه جریمته النکراء بإبادته لعتره رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، فأخذ یلتمس له المعاذیر، فقال لأهل الشام:
أتدرون من أین أتى ابن فاطمه، وما الحامل له على ما فعل، وما الذی أوقعه فیما وقع؟
لا.
یزعم أن أباه خیر من أبی، واُمّه فاطمه بنت رسول الله خیر من اُمّی، وأنّه خیر منّی، وأحقّ بهذا الأمر، فأمّا قوله: أبوه خیر من أبی، فقد حاجّ أبی أباه إلى الله عز وجلّ، وعلم الناس أیّهما حکم له، وأمّا قوله: اُمّه خیر من اُمّی، فلعمری أنّ فاطمه بنت رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، خیر من اُمی، وأمّا قوله: جدّه خیر من جدّی فلعمری ما أحد یؤمن بالله والیوم الآخر وهو یرى أنّ لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) فینا عدلاً، ولا ندّاً.. ولکنّه إنّما أتى من قلّه فقهه، ولم یقرأ قوله تعالى: (والله یؤتی ملکه من یشاء)(۲۴).
لقد حسب الخبیث أنّ منطق الفضل عند الله تعالى إنّما هو الظفر بالملک والسلطان، فراح یبنی تفوّقه على الإمام بذلک، ولم یعلم أنّ الله تعالى لا یرى للملک أی قیمه، فإنّه یهبه للبرّ والفاخر.
لقد تخبّط الطاغیه، وراح یبنی مجده الکاذب على تغلّبه وقهره لسبط رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، وقد خاب فکره وضلّ سعیه، فقد انتصر الإمام فی ثورته انتصاراً لم یحرزه أی فاتح على وجه الأرض، فها هی الدنیا تعجّ بذکره، وها هو حرمه یطوف به المسلمون کما یطزفون ببیت الله تعالى، ولیس هناک ضریح على وجه الأرض أعزّ ولا أرفع من ضریح أبی الأحرار، فکان حقّاًهذا هو النصر والفتح.
 
العقیله مع الشامی ویزید
ونظر شخص من أهل الشام إلى السیّده الزکیه فاطمه بنت الإمام الحسین فقال لیزید:
هب لی هذه الجاریه لتکون خادمه عندی.
وقد ظنّ أنّها من الخوارج فیحق له أن تکون خادمه عنده، ولمّا سمعت العلویه ذلک، سرت الرعده بأوصالها، وأخذت بثیاب عمّتها مستجیره بها، فانبرت العقیله وصاحت بالرجل:
(کذبت ولؤمت، ما ذلک لک، ولا لأمیرک..).
واستشاط الطاغیه غضباً من استهانه العقیله به وتحدّیها لشأنه، فقال لها: کذبت، إن ذلک لی، ولو شئت لفعلت.
فنهرته العقیله ووجّهت له سهاماً من منطقها الفیاض قائله:
(کلاّ والله ما جعل لک ذلک، إلاّ أن تخرج من ملّتنا، وتدین بغیر دیننا..) وفقد الطاغیه إهابه، فقد أهانته أمام الطغمه من أهل الشام فصاح بالحوراء:
إیّای تستقبلین بهذا، إنّما خرج من الدین أبوک وأخوک.
ولم تحفل العقیله بسلطانه ولا بقدرته على البطش والانتقام، فردّت علیه بثقه:
(بدین الله ودین أبی وجدّی اهتدیت أنت وأبوک إن کنت مسلماً..).
وأزاحت العقیله بهذا الکلام الذی هو أشدّ من الصاعقه الستار الذی تستّر به الطاغیه من أنّ الإمام الحسین وأهل بیته من الخوارج، فقد استبان لأهل الشام أنّهم ذرّیه رسول الله، وأنّ یزیداً کاذب بادّعائه.
وصاح الرجس الخبیث بالعقیله:
کذبت یا عدوّه الله.
ولم تجد العقیله جواباً تحسم به مهاترات الطاغیه، غیر أن قالت:
(أنت أمیر مسلّط، تشتم ظلماً، وتقهر بسلطانک..).
وتهافت غضب الطاغیه وأطرق برأسه إلى الأرض، فأعاد الشامی کلامه إلى یزید طالباً منه أن تکون بنت رسول الله (صلّى الله علیه وآله) خادمه عنده فصاح به یزید:
وهب الله لک حتفاً قاضیاً(۲۵).
لقد احتفظت عقیله الوحی بقواها الذاتیه، وإرادتها الواعیه الصلبه التی ورثتها من جدّها الرسول (صلّى الله علیه وآله)، فقابلت الطاغیه بهذا الکلام المشرّف الذی حقّقت به أعظم الانتصار.
یقول بعض الکتّاب:
وقد حقّقت زینب سلام الله علیها – وهی فی ضعفها- واستکانتها أوّل نصر حاسم على الطغاه وهم فی سلطانهم وقوتهم، فقد أفحمته المرّه بعد المرّه، وقد أظهرت للملأ جهله، کما کشفت عن قلّه فقهه فی شؤون الدین، فإنّ نساء المسلمین لا یصحّ مطلقاً اعتبارهن سبایا، ومعاملتهن معامله السبی فی الحروب(۲۶).
وأکبر الظنّ أن کلام الشامی کان فاتحه انتقاد لیزید، وبدایه لتسرّب الوعی عند الشامیّین، وآیه ذلک أنّه لم یکن الشامی بلیداً إلى هذا الحدّ، فقد کان یکفیه ردّ الحوراء علیه وعلى یزید، ومقابلتها لیزید بالعنف الذی أخرجته من ربقه الإسلام إن استجاب لطلب الشامی، وهذا ممّا یشعر أنّ طلبه کان مقصوداً لأجل فضح یزید.
 
النیاحه عند الحسین
وطلبن عقائل الوحی من الطاغیه أن یفرد لهن بیتاً لیقمن فیه مأتماً على سیّد الشهداء، فقد نخر الحزن قلوبهن، فلم یکن بالمستطاع أن یبدین ما ألمّ بهنّ من عظیم الأسى خوفاً من الجلاوزه الجفاه الذین جهدوا على منعهن من البکاء على أبی عبد الله، یقول الإمام زین العابدین: کلّما دمعت عین واحد منّا قرعوا رأسه بالرمح، واستجاب یزید لذلک، فأفرد لهن بیتاّ، فلم تبق هاشمیه ولا قرشیه إلا لبسن السواد حزناً على الحسین، وخلدن بنات الرساله إلى النیاحه سبعه أیام، وهنّ یندبن سیّد الشهداء(علیه السّلام) بأقسى ما تکون الندبه، وینحن على الکواکب من نجم آل عبد المطلب، وقد اهتزت الأرض من کثره نیاحهن وبکائهن(۲۷).
وبهذا ینتهی بنا الحدیث عن بعض ما عانته سیده النساء زینب (علیها السّلام) من المصائب فی دمشق.
_____________________________
 
المصادر :
۱ – تحفه الأنام فی مختصر الإسلام: ۸۴٫
۲ – حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۶۹:۳٫
۳ – حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۷۰:۳٫
۴ – حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۷۱:۳٫
۵ – مقتل الحسین(علیه السّلام) – المقرّم: ۴۳۷٫
۶ – البدایه والنهایه ۱۹۸:۸٫
۷ – حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۷۴:۳٫
۸ – تاریخ الإسلام – الذهبی ۳۵۱:۲٫
۹ – تاریخ القضاعی: ۷۰٫
۱۰ – تاریخ ابن الأثیر ۳۹۸:۳٫
۱۱ – الإرشاد: ۲۷۶٫
۱۲ – سوره الروم: الآیه ۱۰٫
۱۳ – سوره آل عِمران: الآیه ۱۷۸٫
۱۴ – المناهل: جمع منهل، وهو موضع الشرب من العیون، والمراد من یسکن فیها.
۱۵ – الشنف: البغض والعداء.
۱۶ – سوره آل عمران: الآیه ۱۶۳٫
۱۷ – تنطف: أی تستوفی من دمائنا.
۱۸ – العواسل: جمع عاسل، وهو الذئب.
۱۹ – الفراعل: جمع فرعل، وهو ولد الضبع.
۲۰ – أعلام النساء ۵۰۴:۲٫ بلاغات النساء:۲۱٫ حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۷۸:۳-۳۸۰٫
۲۱ – السیاسه الحسینیه:۳۰٫
۲۲ – حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۸۱:۳٫
۲۳ – حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۸۲:۳-۳۸۳٫
۲۴ – تاریخ الطبری ۲۲۶:۶٫ البقره: ۲۴۷٫
۲۵ – تاریخ الطبری ۲۶۵:۶٫
۲۶ – حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۹۰:۳٫
۲۷ – حیاه الإمام الحسین(علیه السّلام) ۳۹۲:۳٫

Leave A Reply

Your email address will not be published.