أحیاء عاشوراء وإحیاؤها … إحیاء للإنسان

0

 
احمرّت جلودهم ظمأ ودماً .. قطّعتهم الرماح والسیوف .. بدّدت أجسادهم وقع حوافر الخیول … عفّرت خدودهم الأتربه والرمال .. وطوى التاریخ صفحتهم سنین طوال ، لکنَّهم ظلوا أحیاء ، ووهبوا للناس الحیاه .
َمنْ هؤلاء غیر شهداء عاشوراء … أحیاء عاشوراء .
إذاً هکذا هم الشهداء ، یُقتلون لیهبوا لنا الحیاه ، فاستحقّوا أن یکونوا أحیاءً عند ربهم یرزقون ، واستحقّوا أن یکونوا أحیاءً عندنا أبداً ما بقینا وبقی اللیل والنهار ، فکان إحیاء عاشوراء إحیاء لنا وحیاه لهم جزاء ما قدَّموه .
ولا عجب أن تقتحم عاشوراء کل هذا الطود المتراکم من السنین ، وتعْبُر حدودها الضیّقه إلى رحاب عالمیه فسحه ، تحمل مفاهیم فکریه معقَّده ومتغیِّره ومختلفه ؛ فهذا مرجعه إلى مجموعه السمات والخصائص التی امتازت بها عاشوراء ، والتی جعلت منها یوماً نادراً فی تاریخ البشریه :
فالسمه الأولى : کون عاشوراء نهضه وثوره إصلاحیه ولیست انقلابیه ، والثوره من أکثر حلول التغییر جذریه وسرعه وقوه فی التأثیر ، شبیهه بالنواه فی صغر حجمها ، لکنّها عندما تنفجر تصدر طاقه تفوق أضعاف حجمها . لذا فإنّ الطاقه التی تصدرها الثوره تقتحم حدود زمانها ومکانها ، إلى زمان ومکان آخر وأفسح تؤثِّر علیهما ، وتغیِّر من مسار ومفاهیم شعوب ذلک الزمان وذلک المکان .
لذا کان على البعض أن یفهم أنّه لا یوجد تصدیر ثوره ، وإنّما هی حاله طبیعه فی الثوره بأن تمتد خارج إطارها ، فهی لا تعترف بحدود الزمان وحدود الجغرافیا التی رسمها الإنسان لنفسه ، بل هی لا تعترف أیضاً بالاتجاهات الفکریه والدینیه المختلفه ، وغیر المتناغمه معها . فالثوره الحسینیه أثّرت على الکثیر من المسیحیین والهندوسیین ، أمثال : غاندی ، کما أنّ الثوره الخمینیه فی عصرنا الحدیث ألقت بظلالها على الشیعه والسنّه على حدٍ سواء ، وکما هی أیضاً ثوره یولیو جمال عبد الناصر ، والثوره البلشفیه الروسیه ، والثوره الفرنسیه التی غیّرت الکثیر من اتجاهات البشریه الفکریه والسیاسیه ؛ لذا کان ینبغی على مَن یحاسب إیران بحجه تصدیر الثوره ، أن یحاسب فرنسا أیضاً ؛ لأنّ ثورتها لم تلتزم حدودها الجغرافیه ولم تمر عبر النقاط الجمرکیه!!
السمه الثانیه : أنّ عاشوراء وإن کانت نهضه من أجل الدفاع عن قیم الدین وثوابته ، لکنّ الإمام الحسین ( علیه السلام ) کشف فی خطابه العاشورائی ، بأنّ ما نحن مقدمین علیه إنّما هو نابع ومتناغم أیضاً مع صمیم الفطره الإنسانیه ، الداعیه إلى رفض کافه أنواع الاستبداد السیاسی ، فخاطب ( علیه السلام ) الأعداء قائلاً : ( إن لم یکن لکم دین ولا تخشون المعاد ، فکونوا أحراراً فی دنیاکم ) .
من هنا کانت عاشوراء ملهِمه ومؤثِّره للکثیر من الثوَّار والشعوب بمختلف توجُّهاتهم الفکریه ، حتى قال غاندی : ( لقد طالعتُ بدقه حیاه الإمام الحسین ، شهید الإسلام الکبیر ، ودقَّقتُ النظر فی صفحات کربلاء ، واتضّح لی أنّ الهند إذا أرادت إحراز النصر ، فلا بد لها من اقتفاء سیره الحسین) .
هذا التأثر والاقتفاء الذی یدعو إلیه غاندی ، الهندوسی التوجُّه والفکر ، بلا شک سببه أنّ نهضه الحسین الإمام ( علیه السلام ) کانت ذات خطاب فکری عام تفهمه کل البشریه.
السمه الثالثه : صحیح أنّ هناک العدید من الثورات التی قامت ، ومجدّتها شعوبها سنین طوال ، لکنّها لم تحظى من الاهتمام والانتشار والتعاطف کما حظیت به ثوره الإمام الحسین ( علیه السلام ) . وحتى من ناحیه الاستمراریه ؛ إذ إنّ هناک العدید من الثورات التی خَفَتَ صوتها وضعف تأثیرها ، بل واندثرت نهائیاً مع تراکم السنین ، کما هو حال الثوره الروسیه . وهذا بلا شک مرجعه إلى مدى متانه وقوه الأهداف الإستراتیجیه التی تستند علیها الثوره ، فکانت أهداف الثوره الحسینیه ذات ارتباط وثیق بالإسلام ، الدین الخاتم المحفوظ من قبل الله تعالى ، وکانت الثوره الحسینیه إحدى الأدوات التی حفظ الله بها دینه ، فکان حری أن تُحفظ أیضاً تلک الثوره کما حُفظ القرآن الکریم وبقی .
لذا یقول الکاتب الانجلیزی تشارلز دیکنز : ( إنْ کان الإمام الحسین قد حارب من أجل أهداف دنیویه ، فإنَّنی لا أدرک لماذا اصطّحب معه النساء والصبیه والأطفال ؟ إذن ، فالعقل یحکم أنّه ضحّى فقط لأجل الإسلام ) .
السمه الرابعه : من المهم ملاحظه عنصر القاده فی جمیع الثورات ، الذین غالباً ما یذاع صیتهم فور نجاح ثوراتهم ، فی حین کان الإمام الحسین ( علیه السلام ) ذا شخصیه عظیمه وعریقه ومعروفه نَسَباً وتُقى . وشخصیته هی التی أضافت للثوره بُعداً وقیمه لا یمکن أن تضیفها شخصیه أخرى غیره . والشهاده التی نالها إنّما کانت جمالاً إلى ذلک الجمال ؛ وهذا ما یفسّر بقاء وامتداد ثوره الإمام الحسین ( علیه السلام ) على الرغم من أنّها هُزمت عسکریاً ، لکنّ مکانه وعظمه الإمام الحسین ( علیه السلام ) وإخلاصه للهدف وتخطیطه المتقن ، جعلها تنتصر فکریاً ، لیأتی من بعده الثوَّار ویقتبسوا من ذلک الفکر المتوقِّد ویحقِّقوا به نصرهم العسکری .
والحقیقه أنَّنا حین نحیی عاشوراء ، نحیی فی أنفسنا مجموعه من القیم والمفاهیم التی أحیاها هؤلاء الأحیاء الشهداء ، والتی نادراً ما تتکرَّر فی تاریخ البشریه ، فی ملحمه بطولیه ثوریه نهضویه وتغییریّه مثل ملحمه کربلاء . فعاشوراء تکتنز فی ثنایاها تعالیم متناغمه بین السلوک العملی والخطابی ، وهی بذلک تُلهم المستمعین إلیها وتغذّیهم من مواقفها وقصصها الزاخره .
فعاشوراء تُحیی فی الإنسان مفهوم الحیاه الصحیحه الکریمه ، القائمه على الحریه ورفض الاستبداد ، وعدم الاستسلام والرضوخ للمستبّدین ، أی لیس المهم فیها أن تحیى ، بقدر ما أنّ المهم فیها کیف تحیى فیها حیاه الأحرار ، حتّى وإن کانت قیمه الحریه الوحیده هی التضحیه بالدم ، فعبّر عن ذلک الإمام الحسین ( علیه السلام ) بقوله : ( إنّی لا أرى الموت إلاّ سعاده ، والحیاه مع الظالمین إلاّ برما ) .
ومن هذا المفهوم الکربلائی بالتحدید ، انطلق وأنتصر روح الله ، حتى قال: ( کل ما لدینا من عاشوراء ) ، ومن هذا المفهوم انطلق وانتصر ( نصر الله ) . فی حین أنّ الذین غابت عنهم تعالیم عاشوراء ، رفعوا شعار : ( بدنا نعیش ) ، بغضّ النظر إن کانت عیشتهم تلک عیشه الأحرار ، أو ما هو على الأرجح عیشه الأذلاّء العبید للحاکم وإسرائیل وأمریکا .
یقول موریس دوکابری : ( یقال فی مجالس العزاء أنّ الحسین ضحّى بنفسه لصیانه شرف وأعراض الناس ، ولحفظ حرمه الإسلام ، ولم یرضخ لتسلُّط ونزوات یزید . إذاً تعالوا نتَّخذه لنا قدوه ، لنتخلَّص من نیر الاستعمار ، وأن نفضّل الموت الکریم على الحیاه الذلیله ) .
أیضاً إنّ عاشوراء الحسین ( علیه السلام ) أحیت فی الإنسان مفهوم إمکانیه التغییر ، فقط بتوفر العزیمه والإراده ، سواء التغییر الفردی الذی جسّده الأنصار مثلاً فی انتقال بعضهم من معسکر الأعداء إلى معسکر الإمام الحسین ( علیه السلام) ، أو التغییر الجماعی ، تغییر الأُمّه ، ذلک الذی جسّده الإمام الحسین ( علیه السلام ) منذ انطلاقه من المدینه ومکّه ناحیه کربلاء . فی حین کان یخشى ذلک الناس والصحابه فی تلک المرحله ، ممَّا جعلهم مکبَّلین وغیر متصوِّرین لإمکانیه الإصلاح ، فأستطاع الإمام ( علیه السلام ) بثورته تلک ، کسر عقده الخوف لدى الناس من بطش الطغاه ، بالضبط کما أنّ ( حزب الله ) استطاع أن یکسر عقده الخوف والهزیمه من إسرائیل .
عاشوراء تُحیی فی الإنسان وترسِّخ فیه مفهوم المشارکه ، خصوصاً بین الرجل والمرأه ؛ لأننا لا یمکننا للحظه أن نتصوَّر کربلاء من غیر الحسین ( علیه السلام ) . کما أنَّنا لا یمکننا أن نتصوَّر کربلاء من غیر الحوراء زینب ( علیها السلام ) . وهذا المفهوم بالتحدید ممَّا ینبغی قراءته واستیعابه بشکل جدِّی ، خصوصاً أنّ الدور الذی لعبته المرأه فی کربلاء خطیر وعظیم ؛ هذا یعنی إمکانیه الاعتماد علیها لتکون قائده ومؤثّره فی المیادین الإنسانیه المختلفه .
وفی عاشوراء یبرز بقوه مفهوم الحوار المنطقی الهادئ غیر المتحامل ، سواء کان حوار الإمام الحسین ( علیه السلام ) مع أنصاره والتشاور معهم ، أو حوار الإمام الحسین ( علیه السلام ) مع أعدائه ، الذی یعکس مدى سلمیه تلک الثوره التی خاضها ، وجعل أبواب الحوار مشرعه ما لم یعمل على إجهاضها الآخر ، وهذا ما فعله الأُمویون حینما بدءوا الإمام الحسین ( علیه السلام ) بالقتال .
أمّا عن عاشوراء الأخلاق والقیم والمبادئ الإنسانیه ، فهی ممَّا یصعب حصرها ؛ إذ لا تخلو خطوه أو کلمه أو لحظه من لحظات ذلک الیوم إلاّ وکانت متوّجه ومحمَّله بکم وافر من المواقف الأخلاقیه ، التی تغذِّی روح الإنسان ، سواء داخل معسکر الإمام الحسین ( علیه السلام ) ، أو من جهه تعامل الإمام الحسین ( علیه السلام ) مع أعدائه . وبالمقابل الطریقه الخارجه عن إطار الإنسانیه التی تعامل بها الأُمویون مع الإمام ( علیه السلام ) وأهل بیته وأنصاره .
من هنا یحقّ لنا بفخر أن نستذکر عاشوراء دون الالتفات لِمَا یقوله السفهاء منّا ومن غیرنا ، کما هو حقّ لبقیه شعوب الأرض أن تحیی وتستذکر وتقدِّس عظمائها وبالطریقه التی تراها ؛ لأنّ الأمّه الواعیه هی التی لا تتنازل عن تأریخها ، خصوصاً عندما یمس کرامتها وحریتها ، وعندما یرتبط الأمر بالدفاع عن فکرها الذی آمنت به عن وعی وإدراک ، فکیف وهی ترى أنّ عظیمها الإمام الحسین ( علیه السلام ) لا یماثله فی العظمه عظیم آخر .
یقول الهندی تاملاس توندون : ( هذه التضحیات الکبرى من قبیل شهاده الإمام الحسین ، رفعت مستوى الفکر البشری . وخلیق بهذه الذکرى أن تبقى إلى الأبد ، وتُذکر على الدوام ) .
شهداء عاشوراء هاهم إلى الیوم أحیاء ، نستذکرهم واحداً تلو الآخر فی أیَّام إحیاء عاشوراء ؛ لأنّ ذکراهم إحیاء للإنسان ، أیُّ إنسان ؛ ذلک الذی یترجم مفاهیم عاشوراء ویخرجها من إطارها التاریخی إلى واقعنا الحالی . وما تبیان مظلومیّه هؤلاء الأحیاء الشهداء ، وشحذ العاطفه تجاههم ، الأمر الذی دعا إلیه أئمه الهدى ( علیهم السلام ) ، إلاّ لترسیخ مبادئهم الثوریه ، وإحیاء قیمهم ومفاهیمهم الفکریه والدینیه والأخلاقیه فی نفس کل إنسان .

Leave A Reply

Your email address will not be published.