بحوث تمهیدیه فی الملل و النحل
بحوث تمهیدیه
وقبل الخوض فی صلب الموضوع نقدّم أُموراً تمهیدیه تنیر السبیل لروّاد هذا العلم :
۱٫الملّه والنحله فی اللغه:
الملّه بمعنى الطریقه المقتبسه من الغیر، یقول سبحانه: ( بَلْ مِلَّهَ إِبْرَاهِیمَ حَنِیفاً ) .( [۱ ])
وأمّا النحله فهی بمعنى الدعوى والدین، ولکن تستعمل کثیراً فی الباطل، یقال: انتحال المبطلین. وفی المصطلح المناهج العقائدیه لأُمّه خاصه أو جمیع الأُمم، سواء کانت حقاً أم باطلاً .
۲٫الصله بین علم العقائد وعلم الملل والنحل:
إنّ علم الکلام یبحث عن المسائل العقائدیه الّتی ترجع إلى المبدأ والمعاد، ویوجه عنایته إلى إثبات فکره خاصه فی موضوع معیّن، ولکن علم الملل والنحل یسرد المناهج الکلامیه وعقائد الأقوام دون أن یتحیّز إلى منهج دون منهج، وهمّه عرض هذه الأُسس الفکریه على روّاد الفکر والمعرفه، فنسبه هذا العلم إلى علم العقائد نسبه تاریخ العلم إلى نفسه .
۳٫تعریفه، موضوعه، مسائله، غایته:
إنّ علم الملل والنحل کسائر العلوم له تعریفه وموضوعه ومسائله وغایته.
أمّا تعریفه: فهو العلم بتاریخ نشوء المذاهب والدیانات عْبر القرون ومقارنتها مع بعض .
وأمّا موضوعه: فهو عقائد الأُمم الّذی یعبر عنه بالملل والنحل.
وأمّا مسائله: فهی الاطّلاع على آراء أصحاب الدیانات .
وأمّا غایته: فتتحد غایته مع تاریخ العلوم على وجه الإطلاق، وهی إعطاء البصیره للمحقّق الکلامی فی نشوء العقائد واشتقاق بعضها من بعض .
۴٫المصنّفات فی الملل والنحل:
إنّ ما کتب فی هذا المجال على قسمین: قسم منه یتناول جمیع أدیان البشر أو أکثرها. وقسم منه یختصّ بالفرق الإسلامیه.
أمّا القسم الأوّل، فهو :
۱٫«الآراء والدیانات»: تألیف حسن بن موسى النوبختی (المتوفّى ۲۹۸ هـ).
۲٫«المقالات» :تألیف محمد بن هارون الورّاق البغدادی (المتوفّى سنه ۳۴۷ هـ).
یصفه النجاشی بقوله: کتاب کبیر، حسن، یحتوی على علوم کثیره، قرأت هذا الکتاب على شیخنا أبی عبد الله ( [۲ ]).
۳٫«أُصول الدیانات»: لأبی الحسن علی بن الحسین المسعودی (المتوفّى عام ۳۴۵ هـ) صاحب مروج الذهب، یذکر فیه کتابه هذا .
۴٫الملل والنحل لابن حزم الظاهری (المتوفّى عام ۴۵۶ هـ) .
۵٫الملل والنحل لأبی الفتح محمد بن عبد الکریم الشهرستانی (۴۷۹-۵۴۸ هـ) .
وأمّا القسم الثانی، فنظیر :
۱٫«مقالات الإسلامیین واختلاف المصلین»: تألیف شیخ الأشاعره أبی الحسن علی بن إسماعیل الأشعری (۲۶۰-۳۲۴ هـ).
۲٫«التنبیه والرد»: لأبی الحسین الملطی (المتوفّى عام ۳۷۷ هـ).
۳٫«الفرق بین الفرق»: تألیف الشیخ عبد القاهر البغدادی التمیمی (المتوفّى عام ۴۲۹ هـ) .
۴٫«التبصیر فی الدین»: للطاهر بن محمد الاسفراینی (المتوفّى عام ۴۷۱ هـ).
۵٫«فرق الشیعه»: تألیف الشیخ أبی القاسم سعد بن عبد الله القمی (المتوفّى ۲۹۹ هـ). وربّما ینسب هذا الکتاب إلى حسن بن موسى النوبختی.
وکتابنا هذا یرکز البحث على الفرق الإسلامیه وما یمت إلیها بصله وإن لم یکن فی الحقیقه منها .
۵٫علل تکوّن الفرق الإسلامیه :
لبّى النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) دعوه ربّه وانتقل إلى جواره وترک لأُمتّه دیناً قیماً، علیه سمات من أبرزها بساطه العقیده ویسر التکلیف. کما ترک للاهتداء بعده: کتاب الله العزیز الّذی فیه ( تِبْیَاناً لِکُلِّ شَیْء ) ( [۳ ]) ، وسنّته الوضّاءه المقتبسه من الوحی ( [۴ ]) السلیم من الخطأ، وعترته الطاهره قرناء الکتاب .( [۵ ])
وکان الجدیر بالمسلمین التمّسک بالعروه الوثقى وتوحید الکلمه فی عامّه المواقف، إلاّ فیما کان الاختلاف فیه أمراً ضروریاً لا یجتنب، ولکن مع الأسف نجم بینهم فرق ومذاهب یختلف بعضها عن بعض فی جوهر الإسلام وأُصوله .
وأمّا ما هو العامل أو العوامل لتکون الفرق نشیر إلیها إجمالاً:
العامل الأوّل: الاتجاهات الحزبیه والتعصّبات القبلیه:
إنّ أعظم خلاف بین الأُمّه هو الخلاف فی قضیه الإمامه، وما سلّ سیف فی الإسلام وفی کلّ الأزمنه على قاعده دینیه مثلما سلّ على الإمامه.
ومع أنّ الرسول لم یترک الأُمّه سدى، بل نصب خلیفه للمسلمین ومن یقوم بوظائف النبوه بعده وان لم یکن نبیاً بل إماماً منصوصاً، لکن مع الأسف اجتمع الأنصار فی سقیفه بنی ساعده قبل تجهیز النبی ومواراته ثم التحق بهم نفر من المهاجرین لا یتجاوز عددهم الخمسه، فکثر الاختلاف والنزاع بینهم، فکل طائفه کانت تحاول جرّ النار إلى قرصها، فیقول مندوب الأنصار رافعاً عقیرته: یا معشر الأنصار لکم سابقه فی الدین وفضیله فی الإسلام لیست فی العرب، إلى أن قال: استبدّوا بهذا الأمر دون الناس .
وقال نفر من المهاجرین: من ذا الّذی ینازع المهاجرین فی سلطان محمد وإمارته وهم أولیاؤه وعشیرته.
فصارت المناشده فی السقیفه الحجر الأساس للتفرق وانثلام الکلمه ونسیان الوصیه الّتی أدلى بها النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) فی غیر واحد من المواقف منها یوم الغدیر .
العامل الثانی: سوء الفهم واللجاج فی تحدید الحقائق :
ثار أهل العراق والحجاز ومصر على عثمان نتیجه الأحداث المؤلمه الّتی ارتکبها عماله فی هذه البلاد وانتهى الأمر إلى قتله وتنصیب علی مکانه، وقد قام علی (علیه السلام) بعزل الولاه آنذاک عملاً بواجبه أمام الله سبحانه وأمام المبایعین له، غیر أنّ معاویه قد عرف موقف علی بالنسبه إلى عمال الخلیفه فرفض بیعه الإمام، ونجم عن ذلک حرب صفین بین جیش علی وجیش معاویه، فلمّا ظهرت بوادر الفتح لصالح علی (علیه السلام) التجأ معاویه وحزبه إلى خدیعه رفع المصاحف والدعوه إلى تحکیم القرآن بین الطرفین، فصار ذلک نواه لحدوث الاختلاف فی جبهه علی (علیه السلام) ، وقد أمر الإمام بمواصله الحرب وقام بتبیین الخدعه، غیر أنّ الظروف الحاکمه على جیش الإمام ألجأته إلى وقف الحرب وإدلاء الأمر إلى الحکمین وإعلان الهدنه .
ومن عجیب الأمر انّ الذین کانوا یصرون على إیقاف الحرب ندموا على ما فعلوا، فجاءوا إلى الإمام یصرون على نقض العهد، غیر أنّ الإمام وقف فی وجههم لما یتضمن اقتراحهم من نقض العهد، وعند ذلک ظهرت فرقه باسم المحکّمه، حیث زعموا انّ مسأله التحکیم تخالف قوله سبحانه: ( إِنِ الْحُکْمُ إِلاَّ للهِ ) ، وما هذا إلاّ نتیجه سوء الفهم واعوجاج السلیقه، لأنّ الإمام أرجأ المسأله إلى حکم الحکمین على ضوء القرآن والسنّه، فکیف یکون ذلک مخالفاً لقوله سبحانه: ( لا حکم إلاّ لله ) ، فإنّ الحکم على وفقها حکم لله سبحانه، وقد صار هذا الاعوجاج مبدأ لظهور الخوارج بفرقها المختلفه على ساحه التاریخ .
العامل الثالث: المنع عن کتابه الحدیث :
قد منع الخلفاء بعد رحیل الرسول (صلى الله علیه وآله وسلم) عن کتابه الحدیث وتدوینه، بل التحدیث عنه إلى أواخر القرن الأوّل، بل إلى عهد المنصور العباسی، مع أنّ حدیث الرسول عدل القرآن الکریم، فالقرآن وحی بلفظه ومعناه، وسنته وحی بمعناه لا بلفظه. وقد اعتمدوا فی منع کتابه السنّه ونشرها على روایات مزوّره مخالفه للکتاب والسنّه الثابته.
وقد ترک هذا المنع آثاراً سلبیه أقلّها حرمان الأُمّه عن السنّه النبویه الصحیحه قرابه قرن ونصف، فظهر الوضّاعون والکذّابون بین المسلمین، فرووا عن لسان الرسول ما شاءوا وما أرادوا، وصارت هذه الحیلوله سبباً لازدیاد الحدیث حتّى أخرج محمد بن إسماعیل البخاری صحیحه عن ستمائه ألف حدیث، وأین حیاه الرسول الملیئه بالأحداث من التحدیث بهذا العدد الهائل من الأحادیث؟! ولذلک غربلها البخاری فأخرج منها ما یقارب ألفین وسبعمائه وواحداً وستین حدیثاً، ولا یقلّ عنه صحیح مسلم وکتب السنن .
العامل الرابع: فسح المجال للأحبار والرهبان:
إنّ الفراغ الّذی خلّفه المنع عن نقل أحادیث الرسول أوجد أرضیه مناسبه لتحدیث الأحبار والرهبان عن العهدین، فصاروا یحدّثون عن الأنبیاء والمرسلین بما سمعوه من مشایخهم أو قرأوه فی کتبهم .
یقول الشهرستانی: وضع کثیر من الیهود الذین اعتنقوا الإسلام أحادیث متعدده فی مسائل التجسیم والتشبیه، وکلّها مستمده من التوراه .( [۶ ])
ویقول الکوثری: إنّ عدّه من أحبار الیهود ورهبان النصارى ومؤابذه المجوس أظهروا الإسلام فی عهد الراشدین ثم أخذوا بعدهم فی بث ما عندهم من الأساطیر .( [۷ ]) ولو کان نشر الحدیث وتدوینه وتحدیثه أمراً مسموحاً لما وجد الأحبار والرهبان مجالاً للتحدیث عن کتبهم المنحرفه. ولشغل المسلمون عن سماع ما یبثّون من الخرافات لأجل الاشتغال بالقرآن والسنّه، ولکنّ الفراغ الّذی خلّفه المنع أعان على تحدیثهم واجتماع الناس حولهم، ومن قرأ سیره کعب الاحبار، ووهب بن منبه الیمانی، وتمیم بن أوس الداری وغیرهم یقف على دورهم فی نشر الأساطیر وإغواء الخلفاء بها.
العامل الخامس: الاحتکاک الثقافی:
التحق النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) بالرفیق الأعلى وقام المسلمون بفتح البلدان والسیطره علیها وکانت الأُمم المغلوبه ذات حضاره وثقافه فی المعارف والعلوم والآداب .
وکان بین المسلمین رجال ذوو درایه ورغبه فی کسب العلوم وتعلم ما فی هذه البلاد من آداب وفنون، فأدّت هذه الرغبه إلى المذاکره والمحاوره أوّلاً، ونقل کتبهم إلى اللغه العربیه ثانیاً، حتّى انتقل کثیر من آداب الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامی، ولاشک انّ من تلک المعارف ما یضاد مبادئ الإسلام، وکان بین المسلمین من لم یتدرع فی مقابلها، ومنهم من لم یتورّع عن أخذ الفاسد منها، فصار ذلک مبدأ لظهور دیانات وعقائد على الصعید الإسلامی عندما صبغوا ما أخذوه من الکتب بصبغه الإسلام .
العامل السادس: الاجتهاد فی مقابل النص :
إذا کانت العوامل الخمسه سبباً لنشوء المذاهب الکلامیه فهناک عامل سادس صار مبدأ لتکون المذهب الکلامی والمذهب الفقهی، وهو تقدیم الاجتهاد ـ لمصلحه مزعومه ـ على النص .
إنّ الرسول (صلى الله علیه وآله وسلم) قد أوصى المسلمین بعترته وشبّههم بسفینه نوح وقال فی محتشد عظیم: «یا أیّها النّاس إنّی ترکت فیکم ما إن أخذتم به لن تضلوا: کتاب الله وعترتی أهل بیتی». ( [8 ]) ومع ذلک استأثر القوم بالأمر یوم السقیفه وقضوا أُمورهم من دون مشوره أو حوار مع أهل البیت، فصار ذلک سبباً لظهور مذاهب فقهیه مبنیه على تقدیم المصلحه المزعومه على نص النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) ، وعلى هذا الأساس منعوا من متعه الحج ومتعه النساء وتوریث الأنبیاء إلى غیر ذلک من المذاهب الفقهیه، کما حدثت مذاهب کلامیه لأجل الاستبداد بفکرهم من دون عرضها على الکتاب والسنّه.
هذه هی العوامل السته الّتی صارت سبباً لظهور المذاهب بین الإسلامیین. ومن حسن الحظ انّ أغلب الطوائف تشترک فی الأُمور الّتی بها یناط الإسلام والإیمان، وإن کانوا یختلفون فی مباحث کلامیه أو مسائل فقهیه.
إلى هنا تمت البحوث التمهیدیه، وسنشرع فی سرد المذاهب .
________________________________________
[۱] . البقره: ۱۳۵ .
[۲] . رجال النجاشی: برقم ۱۴۶ .
[۳] . النحل: ۸۹ .
[۴] . النجم: ۴ .
[۵] . حدیث الثقلین .
[۶] . الملل والنحل: ۱ / ۱۶ .
[۷] . مقدّمه تبیین المفتری: ۳۰ .
[۸] . کنز العمال: ۱ / ۴۴، باب الاعتصام بالکتاب والسنّه.