الفطره تدل على ضروره المعاد

0

 
إذا نظرنا إلى الدین ـ من ناحیه السیر التکاملی لعلم الاجتماع ـ وجدنا أن الإنسان قد مرّ بمرحله فکریه آمن فیها إیماناً راسخاً بالحیاه بعد الموت، ولا یقتصر هذا الإیمان على مرحله ما بعد التاریخ فی هذا العالم الملیء بالتحوّلات، وإنما یمتدّ أیضاً إلى المرحله الباهته لما قبل التاریخ.
ونستطیع أن نرجع فی هذا المجال إلى الحفریات التی قام بها علماء الآثار، وهی تدلّ على أن الإنسان القدیم کان یعتقد بوجود حیاه أخرى بعد الحیاه الدنیویه , فالأدوات والوسائل التی کان الناس یدفنونها مع موتاهم تشیر إلى رؤیتهم الخاصه للبعث بعد العبور من بوابه الموت ، إلا إن تصورهم لم یکن سلیماً، فهم کانوا یظنون بان الإنسان یعیش فی ذلک العالم کما عاش فی هذا العالم ، ولهذا فهو یحتاج إلى هذه الأدوات وسوف یستغلّ کلّ ما دُفن معه لتسهیل شؤون حیاته تلک.
فان الإنسان فی أیّ عصرٍ عاش وفیّ ارض استقر ، کان مزوّداً بادراکٍ خفی کالإلهام یجعله فی انتظار (غدٍ) بعد (الیوم) ولا تعنینا کثیراً تلک التحلیلات الذهنیه التی قام بها بعض علماء الاجتماع الذین یهتمون ببعدٍ واحد فقط ، ولهذا فأنهم یبتعدون عن الواقع ویبحثون الموضوع متأثرین بمجموعهٍ من العوامل الاقتصادیه والاجتماعیه فحسب ، ومشیرین إلى الخرافات التی تُنسب إلى بعض الأدیان ومتناسین الأبعاد الإیجابیه فی هذا المضمار.
ومثل هذه العقائد العمیقه الجذور لا یمکن اعتبارها ـ بهذا البساطه ـ ناتجه عن التلقین أو العاده ، لان العادات والتلقینات لا یمکن أن تبقى ثابته على مرّ العصور وتعاقب التحوّلات الاجتماعیه.
والذین یغوصون فی بحور من الخیال یحاولون تغطیه ما ینبع من أعماق فطرتهم بألوان من التصوّرات الأسطوریه وحتى غیر المفهومه .

المعاد فی نظر الأُمم السالفه:
وقد کان الإیمان بالمعاد موجوداً لدى الرومان والمصریین والبابلیین والکلدانیین والیونانیین وغیرهم من الأمم ، وإن کان وجوده عند کثیر منهم بشکل سطحی اقرب ما یکون إلى الخرافه ، وابعد ما یکون عن المنطق الإلهی التوحیدی.
مثلاً کان من الشائع بین طوائف الکونغو انه متى ما توفّی ملکهم اجتمعت على قبره اثنتا عشره فتاه ، ولکی یلتحقن به فی أسرع وقت ممکن فإنّهن یتصارعن ویتنازعن ، وقد یؤدّی هذا الصراع إلى قتل بعضهن.
وکان سکان جزائر الفیجی یعتقدون إن الأموات یقومون بکل النشاطات التی یؤدیها الإحیاء من تشکیل العائله والزراعه والحروب.
یقول العالِم الفلکی الفرنسی (کامیل فلاماریون):
(من عادات سکان جزیره (فیجی) إنهم یدفنون آبائهم وأمهاتهم أحیاء عندما یصلون إلى سنّ الأربعین عاماً، والسبب فی اختیار هذه المرحله من العمر هو إنها وسط العمر تقریباً وأکمل مراحل الحیاه ، ویتخیّل هؤلاء أن المتوفى یُبعث یوم النشور بنفس القوى الجسمیه والکمالات البدنیه التی توفی وهو یتمتع بها).
ویقول عالِم الاجتماع الشهیر ( صاموئیل کینغ ):
(لیس الدین موجوداً فی جمیع أرجاء العالم الیوم فحسب ، وإنما تدلّ الدراسات العمیقه على أن الفئات البشریه الأولى کانت تتمتّع بلونٍ من الدین، کما إن لأسلاف إنسان الیوم (وهو الإنسان المسمى بالنیاندرتال) نوعاً من الدین، فقد کانوا یوارون موتاهم التراب بشکل خاص ویضعون إلى جنبهم وسائل عملهم، وقد اثبتوا بهذا أنهم مؤمنون بوجود عالمٍ آخر).
وقد کان سکان المکسیک یدفنون مع ملوکهم المهرّجین الذین کانوا یُضحکونهم أیام حیاتهم، وذلک لکی یؤنسوهم فی قبورهم بأحادیثهم وسخریاتهم وحرکاتهم اللطیفه، ویزیلوا آثار الهمّ والغمّ من قلوبهم.
وکان الیونانیون یعتقدون قبل ثلاثه آلاف سنه أن الإنسان لا ینعدم بمجرّد موته، بل له هناک حیاه خاصه مثل حیاه هذا العالَم، وفیها حاجات کحاجات هذا العالم، ولهذا فإنهم کانوا یضعون مع الموتى شیئاً من المواد الغذائیه…

المعاد أمر بدیهی:
ومع أن الإیمان بکیفیه البعث کان ملیئاً بالخرافات أو خلیطاً من الحق والباطل، إلاّ أنّ استمرار هذا الخط الفکری على مرّ الزمن یؤکد بأن لهذا الإیمان نواه مغروسه فی أعماق الفطره، وهی تُغذّى عن طریق الإلهام والإدراک الباطنی وقد تمّ غرسها فی کیان کل إنسان خلال خلقته.
ولما کان من المسلّم به أنّ جمیع العلوم والمعارف البشریه تقوم على أساس البدیهیات الأولى، بحیث لو تسرّبّ الشک إلى البدیهیات لانهارت جمیع هذه العلوم، لذا کانت شهاده الفطره أقوى برهان بحیث لا یساویها بل لا یدانیها أی منطق آخر.
ونحن نشعر من أعماقنا وبفطرتنا ـ من دون حاجهٍ إلى استدلال ـ أن الوجود قائم على أساس العدل والمسؤولیه ، وهذه الفطره الإنسانیه هی التی تمهد للإنسان طریق الوصول إلى الحقیقه.
فإذا کان ضمیرنا یؤکّد لنا من الأعماق وجود المسؤولیه والحساب فإننا سوف ندرک بکل وضوح حتمیه البعث بدلیل یقینی ، وذلک لان فطرتنا هی الحاکمه بذلک وهی أقوى من الیقین التجریبی.
ونحن ندرک بوضوح ان العبث واللامسؤولیه فی العالم الواقعی لا رصید لهما، فالقوانین المحکمه سائده على جمیع الموجودات، بدءاً من أجزاء الذرّه الضئیله وانتهاء بالأجرام السماویه الهائله، فالنجوم والکواکب تولد وتموت حسب قانون، وماده الشمس تتحوّل إلى طاقه ضوئیه حسب معادله دقیقه، وکل حرکه تتم فی مسارات ومدارات معینه، وحتى الطاقه الکامنه فی الذرّه لا تسلک طریق العبث والضیاع.

وهنا نتساءل:
لماذا یشذّ سلوک الإنسان عن جمیع الموجودات ، فهو لیس قائماً على أساس العدل، بل هو یشیع الظلم والفوضى والهرج والمرج ؟
والجواب عن ذلک واضح، لان الإنسان الأصیل یختلف عن سائر الموجودات فی کونه مزوداً بنعمه الوعی والإراده.
فمجال نشاطنا ـ کبشر ـ واسع جداً ولو شاء الله أن یخلقنا مجبَرین فی الطاعه للقوانین الطبیعیه لکنا کذلک، ولکن حکمته البالغه قد اقتضت أن یجعل الإنسان خلیفته فی الأرض وان یمنحه حریه الاختیار , إذن فکل خطوه یخطوها الإنسان فی الظلم والهرج والمرج هی ناشئه عن سوء استغلاله للحریه الممنوحه له أو عن سوء فهمه لها.

المعاد والعداله:
ولما کانت الدنیا مکاناً للامتحان لأجل الاجتیاز إلى المراحل اللاحقه ، لذا فإنّ هذه الحیاه الملیئه بالظلم واغتصاب الحقوق لیست هی کل الحیاه، وإنما تمثّل فی الحقیقه فصلاً قصیراً من قصه طویله جداً تمتد إلى اللانهایه.
ومن هنا فإنّ الإحساس الفطری یقول لنا: إنّ الظالم الفارّ من وجه العداله الأرضیه ، والمتعدی على حقوق الناس الذی لم یقع فی قبضه القانون والمجرم الذی لم یؤخذ منه الحق بسبب عوامل معیّنه ـ کل هؤلاء سوف یخضعون للحساب الدقیق طبقاً لقانون الوجود ، أی العدل.
فضروره وحتمیه نظام العدل فی الوجود یدفعان الإنسان للتفکیر بأنّ العداله سوف تطبق بحقه بدقهٍ یوماً ما.
ولو کانت العداله الواقعیه مثلاً متوهماً أی إنّ ما نحسّه فی قلوبنا خالٍ من الحقیقه فلماذا نحن نطلب العداله بشکل فطری لأنفسنا وللآخرین؟
ولماذا تشتعل أعماقنا إذا شاهدنا حقوقاً قد هُضمت؟
ولماذا نتنازل حتى عن حیاتنا فی سبیل تحقیق العداله؟
ولماذا یمتّد حبّها إلى أعماق أنفسنا؟
وهل یمکن أن ننتظر شیئاً لا وجود له على الإطلاق؟
ألیس هذا الظمأ الداخلی فی طلب العداله دلیلاً على وجودها کما یکون الظمأ فی طلب الماء دلیلاً على وجوده.
إن الأمل فی حیاه أبدیه شیء أصیل مغروس فی أعماق فطره الإنسان، والبقاء الأبدی لیس رغبهً عارضه ولا أمراًً اکتسابیاً، وهو لیس مختصاً بفئه معینه من الناس، وإنما هو رغبه فطریه داله على تمتع الإنسان باستعدادٍ وقابلیهٍ للحیاه الخالده.
ومن ناحیه أخرى فإنّ أیّ رغبهٍ طبیعیه فی نظام الوجود سوف تُشبَع فی الموقع المناسب، بینما الرغبه فی حیاه خالده لا یمکن إشباعها فی هذه الدنیا الفانیه.
نستخلص من ذلک أنّ أیّ إنسان یخطو نحو الموت، ویودّع هذه الحیاه لا تزول بذلک حقیقه وجوده، بل فی ذلک العالم الآخر فقط یستطیع أن یحقّق أمله فی الحیاه الخالده، وهذا بنفسه دلیل على واقعیه الحیاه الخالده للإنسان.
یقول المحقق الأوروبی الدکتور (نورمان ونسان):
(إنّ أیّ شک أو تردّد لم یزلزل یقینی فی الحیاه الخالده، فانا مؤمن بها واعتقد أنها غیر قابله للرد.
وفی الواقع فإن الشعور الفطری بالحیاه الخالده هو بنفسه من أهم الأدله الایجابیه التی تهدینا إلى هذه الحقیقه، فإذا أراد الله للإنسان أن یظفر بحقیقه ما فانه یبذر منذ البدء بذرتها فی أعماق ضمیره، ومن الواضح أنّ ظمأ الإنسان إلى البقاء وأمله فی الخلود شامل للإنسان فی جمیع إرجاء العالم، ولهذا فانه لا یمکن أن نصدّق بأنّ هذا الأمل لا یتحقق أبداً , والعقل الإنسانی لم یؤمن بحقائق ما وراء الطبیعه بالدلیل والبرهان الریاضی، بل الإلهام الباطنی هو الذی دفعه لهذا الاعتقاد، وللإلهام أیضاً دور مهم فی مجال الحقائق العلمیه).
ویُعدّ الإیمان بالحیاه الخالده أصلاً من أصول الأدیان الکبیره، وجزءاً لا یتجزأ من الأدیان الإلهیه والاهتمام بهذا الموضوع فی رسالات الأنبیاء إلى حدّ انه لم یبعث نبی إلاّ وقد أعدّ أتباعه للمستقبل الذی ینالون فیه الثواب أو العقاب، ویظفرون فیه بالتکامل أو الانحطاط حسب ما قدّموا لأنفسهم من أعمال.
والله سبحانه هو المبدع والملهم للکائنات، وهو ینظر إلى عباده نظره لطف ورحمه لا نهائیه، ولهذا فانه إکمالاً لرحمته ـ وعلاوهً على ما غرسه فی أعماق عباده من دلاله فطریه واضحه ـ فقد أرسل الأنبیاء بالکتاب والبیّنه لیهدوا الناس إلى واجباتهم ویؤکدوا لهم واقعیه البعث، وذلک لأنّ هوى النفس والعادات والرغبات المادیه تخمد الشیء الکثیر من شعاع الفطره، وعندئذٍ تصبح الدلاله الباطنیه غیر کافیه لعروج الإنسان إلى الأفق الإنسانی الرفیع.

Leave A Reply

Your email address will not be published.