آثار الذنوب الدنیویه
إنّ الحضاره الإنسانیه التی وفرت جمیع وسائل الملذات والراحه لجسد الإنسان جعلت بعض الناس یظن أنّ جمیع أمراضه عضویه تصیب هذا الجسد فیعالجه عند الأطباء المهره للشفاء بینما لا یدری ما الداء الحقیقی والدواء والشفاء؟ فإنّ الداء الحقیقی الذنوب ضررها فی الأرواح کضرر السموم فی الأبدان والدواء الاستغفار والشفاء أن تتوب فلا تعود إلى الذنوب، موطن هذه الروح، والحق أنّ أسباب الأمراض العضویه أسباب مادیه جلیه ظاهره کسوء التغذیه مثلاً، أما الذنوب فهی أسباب خفیه للأمراض الروحیه التی تکون آثارها المادیه المحسوسه أشد فتکاً بالفرد والمجتمع من الأمراض العضویه، ومع هذا قد ینکر ویکابر بعض الناس فی الأسباب الخفیه للأمراض الروحیه أو یعزوها إلى أسباب مادیه فیصدق الأسباب الظاهره المحسوسه للأمراض العضویه فقط ولکن من سبر التاریخ واستقراء حال الأمم والشعوب یرى آثار الأسباب الخفیه للأمراض الروحیه وهی الذنوب أشد فتکاً بالفرد والمجتمع من آثار الأمراض العضویه فما الذی أغرق أهل الأرض کلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذی سلط الریح العقیم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض کأنهم أعجاز نخل خاویه ودمرت دیارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبره للأمم إلى یوم القیامه؟ وما الذی أرسل على قوم ثمود الصیحه حتى قطعت قلوبهم فی أجوافهم وماتوا على آخرهم؟ وما الذی رفع قرى اللوطیه حتى سمعت الملائکه نبیح کلابهم ثم قلبها علیهم فجعل عالیها سافلها فأهلکهم جمیعاً ثم أتبعهم حجاره من سجیل السماء أمطرها علیهم وما هی من الظالمین ببعید! وما الذی أرسل على قوم شعیب سحاب العذاب کالظلل فما صار فوق رؤوسهم أمطر علیهم ناراً تلظى؟ وما الذی أغرق فرعون وقومه فی البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذی خسف بقارون داره وماله وأهله؟ وما الذی أهلک القرون من بعد نوح علیه الصلاه والسلام بأنواع العقوبات ودمرها تدمیراً؟ وما الذی أهلک قوم صاحب یاس بالصیحه حتى خمدوا عن آخرهم؟ وما الذی بعث على بنی إسرائیل قوماً أولوا بأس شدید فجاسوا خلال الدیار وقتلوا الرجال وسبوا الذراری والنساء وأحرقوا الدیار ونهبوا الأموال؟ وما الذی سلط علیهم بأنواع العذاب والعقوبات مره بالقتل والسبی وخراب البلاد ومره بجور الملک، ومره بمسخهم قرده وخنازیر، وآخر ذلک أقسم رب العزه والجلاله تبارک وتعالى لیبعثن علیهم إلى یوم القیامه من یسومهم سوء العذاب؟ والجواب واضح للعیان فإنّ مصائب الذنوب أعظم من الذنوب، وقد ورد فی الدعاء المأثور: (اللهم إنی أعوذ بک من زیغ القلوب ومن تبعات الذنوب ومن مردیات الأعمال ومضلات الفتن).
وفی هذا المقال لا نتکلم على آثار الذنوب الأُخرویه من حیث المعصیه ومخالفه الرب الموجبه لاستحقاق العقاب الذی قد یظن بعض الأفراد انحصار آثارها فی هذا المجال لأنهم لا یرون تأثیرها فی الحال بل من حیث آثارها الدنیویه على الفرد والمجتمع ومنها:
۱-إفساد القلب بحیث یصبح أعلاه أسفله لا یستقر فیه شیء من الحق ولا یؤثر فی شیء من المواعظ کالکوز المنکوس فیخرج ما یدخل فیه فیصیر خالیاً من الحق والمعارف مظلماً قابلاً لجمیع المفاسد نعوذ بالله من ذلک. قال الإمام الصادق علیه الصلاه والسلام : (کان أبی علیه الصلاه والسلام یقول: "ما من شیء أفسد للقلب من خطیئه، إن القلب لیواقع الخطیئه فما تزال حتى تغلب علیه فیصیر أعلاه أسفله"(1).کما أن الذنوب سبب لرین القلب وصدأه الموجب لظلمته وعماه فلا یقدر أن ینظر إلى وجوه الخیرات ولا یستطیع أن یشاهد صور المعقولات کالمرآه إذا ألقیت فی مواضع الندى رکبها الصدأ وذهب صفاؤها وبطل جلاؤها فلا ینقش فیهل صور المحسوسات فکذلک تفعل الذنوب بالقلب من قسوته وغلظته وزوال نوره بما یعلوه من الذنوب قال الشاعر:
رأیت الذنوب تمیت القلوب وترک الذنوب حیا القلوب
وقد یورث الذل إدمانها فاختر لنفسک عصیانها
۲-الذنوب أسباب للأسقام والأوجاع لعموم الآیه الشریفه (وَمَا أَصَابَکُم مِّن مُّصِیبَهٍ فَبِمَا کَسَبَتْ أَیْدِیکُمْ وَیَعْفُو عَن کَثِیرٍ) (۲)، ولقول الصادق علیه الصلاه والسلام: " أما أنه لیس فی عرق یضرب ولا نکبه ولا صداع ولا مرض إلا بذنب" (3).
۳-الذنوب أسباب للسطوات والنکبات والمصائب والبلیات، فقد روی عن الرسول علیه أفضل التحیه والسلام: "ما أصاب رجل من المسلمین نکبه إلا لیغفر الله له الذنوب"، وروی عن الإمام الصادق علیه الصلاه والسلام: "تعوذوا بالله من سطوه الله باللیل والنهار. فسئل علیه الصلاه والسلام: وما سطوات الله؟ قال: الأخذ على المعاصی"(4).
فالذنوب من أقوى الأسباب الجالبه لجهد البلاء ودرک الشقاء وسوء القضاء وشماته الأعداء وزوال النعم وتحول العافیه وفجاءه النقم فما زالت عن العبد نعمه إلا لسبب الذنوب ولا حلت نقمه إلا بذنب، قال تعالى (وَمَا أَصَابَکُمْ مِنْ مُصِیبَهٍ فَبِمَا کَسَبَتْ أَیْدِیکُمْ) (۵)، وقال تعالى (ذَلِکَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ یَکُ مُغَیِّراً نِّعْمَهً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى یُغَیِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) (۶).
۴-الذنوب تذهب الرزق ولعل السر فی ذلک أنّ الحکمه البالغه اقتضت تطهیر المذنب بالمصائب والبلایا، وصرف الرزق عنه من أعظم المصائب لأن الفقر من کاسرات الظهر، قال الإمام الباقر علیه الصلاه والسلام: "إنّ العبد لیذنب الذنب فیزوی عنه الرزق"(7)، وفی روایه أخرى علیه الصلاه والسلام: "إنّ الذنب یحرم العبد الرزق" (8) فالذنوب تؤدی إلى زوال النعم واستحقاق النقم، قال الإمام الباقر علیه الصلاه والسلام: "إن الله قضى قضاء حتما ألا ینعم على العبد بنعمه فیسلبها إیاه حتى یحدث العبد ذنبا یستحق بذلک النقمه"(9).
۵-الذنوب تحدث فی الأرض أنواعاً من الفساد فی المیاه والهواء والزرع والثمار وتخرب الدیار والمساکن، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ) (۱۰) وقال الإمام الرضا علیه الصلاه والسلام: "حق على الله أن لا یعصى فی الدار إلا أضحاها للشمس حتى تطهرها"(11).
۶-الذنوب تؤخر قضاء الحوائج بل تمنع من قضائها تأدیباً لینزجر عما فعله المذنب کما هو معروف بین المحبین فلا یتوجه لأمر إلاّ یجده مغلقاً دونه أو متعسراً علیه، فإنّ للذنوب تأثیراً فی سلب الرحمه الإلهیه، وذلک لأن الفیض الإلهی لا بخل ولا منع من قبله تعالى وإنما ذلک بحسب عدم استعداد المذنب لهذا الفیض الإلهی من الرحمه فی قضاء حوائجه، قال الإمام الباقر علیه الصلاه والسلام: "إن العبد یسأل الحاجه فیکون من شأنه قضاؤها إلى أجل قریب أو إلى وقت بطیء , فیذنب العبد ذنبا فیقول الله تبارک وتعالى للملک: لا تقض حاجته واحرمه إیاها فإنّه تعرض لسخطی واستوجب الحرمان منی"(12).
۷-الذنوب تعدم فلاح الإنسان، والفلاح کلمه جامعه لخیر الدنیا والآخره، وذلک لأنّ الله تعالى خلق قلب المؤمن نورانیاً قابلاً للصفات النورانیه فإذا أذنب خرج فیه نقطه سوداء وإن زاد فی الذنب ازدادت النقطه السوداء حتى تغلب النقاط السود على جمیع قلبه فلا یفلح بعدها أبداً لان القلب حینئذٍ لا یقبل شیئاً من الصفات النورانیه، قال الصادق علیه الصلاه والسلام: "إذا أذنب الرجل خرج فی قلبه نکته سوداء فإنّ تاب انمحت وإنْ زادت حتى تغلب على قلبه فلا یفلح بعدها أبدا"(13).
۸-الذنوب تؤدی إلى وحشه فی القلب، ولا یعدمها أی لذه ولو اجتمعت لذات الدنیا بأسرها وکذلک وحشه بین المذنب وبین الناس ولا سیما أهل الخیر، فإنّ المذنب بعد عن مجالسهم وحرم برکه الانتفاع بهم؛ بل وحشه تحصل بینه وبین زوجته وأولاده وأقاربه فتراه مستوحشا حتى من نفسه، کما أنّ الذنوب تخرج الغیره والحیاء من قلب المذنب على نفسه وأهله وعموم الناس فلا یستقبح بل یحسن الفواحش والظلم لغیره ویزینه له کان الدیوث أخبث خلق الله.
۹-إنّ إحداث الذنوب تؤدی إلى إحداث أنواع جدیده من البلاء، فإنّ الناس إذا اخترعوا فی الذنوب وجوهاً لم یکن یعرفها أحد قبلهم کآلات القمار واللهو وغیره مثلا أحدث الله لهم بلاء لم یکونوا یعرفونه کأمراض خطیره ووسائل للقتل والدمار والسلب والظلم وغیرها، قال الإمام الرضا علیه الصلاه والسلام: "کلما أحدث العباد من الذنوب ما لم یکونوا یعلمون أحدث الله لهم من البلاء ما لم یکونوا یعرفون" (14)، کما أن الذنوب تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضاً حتى یعز على الإنسان مفارقتها والخروج منها فإنّ عقوبه السیئه سیئه بعدها، حتى أنّ بعض المذنبین یرتکب الذنب من غیر لذه یجدها ولا داعٍ إلیه إلا لما یجد من ألم مفارقه الذنب.
۱۰-إن الذنوب تقصر العمر وتمحق البرکه وتورث الذل وتسقط الجاه والمنزله عند الناس وتحدث الخوف فی القلوب من السلطان ففی الدعاء المأثور: (اللهم أعزنی بطاعتک ولا تذلنی بمعصیتک) (۱۵)، وقال الإمام الصادق علیه الصلاه والسلام: "إنّ أحدکم لیکثر به الخوف من السلطان وما ذلک إلا بالذنوب فتوقوها ما استطعتم ولا تمادوا فیها"(16).
وفی الختام لو لم یکن فی ترک الذنوب إلا إقامه المروءه وصون العرض وحفظ الجاه وصیانه المال الذی جعله الله تعالى قواماً لمصالح الدنیا والآخره ومحبه الخلق وصلاح المعاش وراحه البدن ونعیم القلب وطیب النفس وانشراح الصدر والأمن من مخاوف الفساق والفجار وقله الهم والغم والحزن وعز النفس عن احتمال الذل وصون القلب أن تطفئه ظلمه الذنب وتیسیر الرزق علیه من حیث لا یحتسب وتیسیر العلم والثناء الحسن بین الناس وکثره الدعاء له والمهابه التی یکتسبها وجهه التی تلقى فی قلوب الناس وانتصارهم وحمیتهم له إذا أوذی وظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه وخطبتهم لمودته وصحبته لکفى فی ذلک لترک الذنوب التی لها من الآثار القبیحه المذمومه المضره بالقلب والبدن فی الدنیا ما لا یعلمها إلا الله تعالى.
______________________
[۱] الکافی ج۲ ص۲۶۸ ح۱
[۲] سوره الشورى، الآیه :۳۰
[۳] الکافی ج۲ ص۲۶۹ ح۳
[۴] الکافی ج۲ ص۲۶۹ ح۶
[۵] سوره الشورى، الآیه :۳۰
[۶] سوره الأنفال، الآیه: ۵۳
[۷] الکافی ج۲ ص۲۷۰ ح۸
[۸] الکافی ج۲ ص۲۷۱ ح۱۱
[۹] الکافی ج۲ ص۲۷۳ ح۲۲
[۱۰] سوره الروم، الآیه: ۴۱
[۱۱] الکافی ج۲ ص۲۷۲ ح۱۸
[۱۲] الکافی ج۲ ص۲۷۱ ح۱۴
[۱۳] الکافی ج۲ ص۲۷۱ ح۱۳
[۱۴] الکافی ج۲ ص۲۷۵ ح۲۹
[۱۵] إقبال الأعمال – دعاء یوم المباهله.
[۱۶] الکافی ج۲ ص۲۷۵ ح۲۷