أخلاقیات الحرب عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)

0

أخلاقیات الحرب عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام).

وعصرنا الحاضر ـ عصر الآله ـ الذی شهدت فیه الشعوب أعلى مستوى لها من العلم والتقدُّم فی جمیع المجالات، سیَّما التسلیحیه منها ، کثُرت فیه الحروب والنزاعات ، واستُخدمت فیها أنواع أسلحه غریبه لا عهد للإنسانیه بها ، لا تُبقی أخضراً ولا یابساً ، ولا إنساناً ولا حیواناً ، فقد استخدمت التقنیه لهدم حیاه الإنسان أکثر من استخدامها لبنائها .

وما یهمُّنا مع کتابه هذه السطور ، هو الوقوف على أخلاقیات المتحاربین أثناء الحرب والقتال ، بصرف النظر عن الدوافع والدواعی والأهداف المنظوره لهم ، علماً بأنَّ المؤسسات الدولیه قد أولت الأهمیه الکبرى لبعض جوانب ومخلّفات الحرب ، کالأسرى والمدنیین ، بحیث سعت لأن یکونوا بمعزل عن نتائج الحرب ومآسیها مهما کانت . وعصرنا الحاضر قد شهد حروباً مدمِّره ، حصدت أرواح الملایین من البشر ، ودمَّرت مدناً وقرى وحتى دولاً بالکامل .

وکانت دوافع أغلب تلک الحروب تسلُّطیه استعماریه بحته ، یضاف إلیها سلب الثروات الطبیعیه من الشعوب ، ووضع الید على المناطق الحسَّاسه والإستراتیجیه ، کالممرَّات المائیه .

وقد مارس أرباب القوه والقهر ـ للوصول إلى أهدافهم ـ أبشع الجرائم وأخسّ الأسالیب ، کقصف المدنیین ، وسبی النساء والأطفال ، وتعذیب الأسرى وحتى قتلهم فی بعض الأحیان ، والأمثله على ذلک عدیده ماثله للعیان فی عصرنا الحاضر : کممارسات الصرب فی البوسنه ، والصهاینه فی فلسطین المحتلَّه والمناطق الأخرى ، وما جرى ویجری فی العراق وغیره …

ولم یکن الحکَّام المسلمون قدیماً وحدیثاً أحسن حالاً من غیرهم ، إذ إنَّهم مارسوا الأسالیب المذکوره نفسها ، واقترفوا الجرائم الفظیعه مع خصومهم ، وعاشوراء التاریخ وما جرى فیها ماثل للعیان ، والعهود التی توالت على رقاب المسلمین ، کالعهد الأُموی والعباسی ، وعهد بنی مروان والحجاج ، أمثله أخرى حیَّه على تراجع الفضیله ، وانتهاک حقوق الإنسان .

ولکن الإنسانیه عِبَر تاریخها وفی الوقت نفسه ، لم تُعدم وجود حکَّام شرفاء أبرار ـ وإن کانوا قلَّه ـ عاشوا الفضیله والشرف فی کل لحظه من لحظات حیاتهم ، وکتبوا بأحرف من نور أروع المُثل فی حروبهم التی قلَّما کانت حروباً هجومیه ، من هؤلاء أمیر المؤمنین علیّ ابن أبی طالب (علیه السلام) الذی عاش حیاه مظلومه ، قضاها فی درء العدوان ودفع الفتن ، ومع ذلک اتبع سیاسه رصینه ثابته ، فلم یغدر ولم یفجر ، بل کان یبتغی من محاربه خصومه وأعدائه إنقاذ المغرَّر بهم من الضلاله ، وتثبیت قواعد دولته وإعاده الأمور والحق إلى النصاب الطبیعی .

قال (علیه السلام) : ( فَوَاللَّهِ ، مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ یَوْماً إِلاَّ وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِی طَائِفَهٌ ، فَتَهْتَدِیَ بِی وتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِی ، وذَلِکَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا وَ إِنْ کَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا ) (۱) . فقد کان فی حروبه کلها یکره أن یکون البادئ بالحرب ، بل کان یبادر إلى وعظ عدوه وخصمه وإرشاده ؛ مُلقیاً الحجه ، ومبیّناً له فداحه النتائج ، حتى لا یتذرَّع أحد بعد وقوع الواقعه بأنَّنا لو کنا نعلم أو نعقل ما کنا من أصحاب السعیر ! ولا یخفى ما فی مخاطبه هؤلاء من صعوبه ؛ حیث الجهل المطبق والضلال المبین ، خصوصاً فی مثل تلک الظروف .

قال (علیه السلام) فی جمله ما أوصى به معقل بن قیس الریاحی حین أنفذه إلى الشام : ( فَإِذَا لَقِیتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِکَ وَسَطاً ، ولا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ یُرِیدُ أَنْ یُنْشِبَ الْحَرْبَ ، ولا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ یَهَابُ الْبَأْسَ ، حَتَّى یَأْتِیَکَ أَمْرِی ولا یَحْمِلَنَّکُمُ شَنَآنُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَ الإِعْذَارِ إِلَیْهِمْ ) (۲) .

وقال (علیه السلام) مخاطباً جنده قبل لقاء العدو فی صِفِّین : ( لا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى یَبْدَءوکُمْ فَإِنَّکُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّهٍ وتَرْکُکُمْ إِیَّاهُمْ حَتَّى یَبْدَءوکُمْ حُجَّهٌ أُخْرَى لَکُمْ عَلَیْهِمْ ) (۳) . ویذکر أرباب التاریخ أنَّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) عندما خرج لمحاربه معاویه فی صِفِّین ، وکان جند معاویه قد غلبوا جند الإمام إلى شریعه الفرات ؛ بغیه منع الماء عنهم حتى یموتوا عطشاً ، رفض الإمام أن یعامل العدو بالمثل بعدما أزاحه عن شریعه الماء مع قدرته على ذلک .

وهکذا لم یکن علیّ بن أبی طالب (علیه السلام) عدوانیاً فی أی معرکه من معارکه ؛ لأنَّه کان واثقاً من نفسه أنَّه على الحق ویقاتل من أجله ، ولذلک کان یتقدَّم نحو خصمه بقَدم ثابته وبرباطه جأش ، لا یأبه معها للجیوش المتجمهره التی ترید النیل منه ، والتی لا تجد حرجاً فی منع الماء عنه وعن جنده ، وتتَّبع سیاسه الغدر والخداع ، وتستفید من الممارسات المشینه کملاحقه الأسرى والمدنیین والمدبرین من المعرکه وإیذاء الجرحى . وکانت الجیوش تلجأ إلى مثل تلک الأمور عند الإحساس بالهزیمه ، أو بقصد إدخال الرعب والقلق النفسی فی قلوب المقاتلین للسیطره على أرض المعرکه عند بدئها .

قال (علیه السلام) : ( فَإِذَا کَانَتِ الْهَزِیمَهُ ـ بِإِذْنِ اللَّهِ ـ فَلا تَقْتُلُوا مُدْبِراً ، ولا تُصِیبُوا مُعْوِراً ، ولا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِیحٍ ) (۴) . ولم تقتصر الجرائم من قبل الأعداء على المجروحین والأسرى ، بل کانت تتعدَّى إلى النساء والأطفال والشیوخ ؛ إمعاناً فی الثأر للهزیمه وإسقاطاً للمعنویات ، مع العلم أنَّ النساء لیس علیهنّ جناح حتى ولو سَبَبْنَ واعتدین ، فلا یصح الرد علیهنّ فضلاً عن المبادره إلى إیذائهن وتعذیبهنّ ، ولقد کان العرب یعیِّرون الرجل الذی یرفع یده على المرأه ، بل یعیِّرون حتى أبناءه من بعده . وإلى هذا أشار الإمام (علیه السلام) فی الوصیه الرابعه عشر ، حیث قال : ( ولا تَهِیجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَکُمْ وسَبَبْنَ أُمَرَاءَکُمْ ؛ فَإِنَّهُنَّ ضَعِیفَاتُ الْقُوَى والأَنْفُسِ والْعُقُولِ ، إِنْ کُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْکَفِّ عَنْهُنَّ وإِنَّهُنَّ لَمُشْرِکَاتٌ وإِنْ کَانَ الرَّجُلُ لَیَتَنَاوَلُ الْمَرْأَهَ فِی الْجَاهِلِیَّهِ بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَهِ ، فَیُعَیَّرُ بِهَا وعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ ) (۵) .

ولم یکن عموم المدنیِّین البعیدین عن ساحه الحرب والنزال ، بمعزلٍ عن نتائج الحرب المروعه ، بل کانت بعض الجیوش تصب جام غضبها ونقمتها علیهم لفقدها بعض المواقع ، أو لمقتل قائد من قوادها ، أو لخسارتها الحرب ، وکأنَّ الناس علیهم أن یدفعوا الضریبه رغم بُعدهم عن ساحه الحرب .وقد لفت أمیر المؤمنین (علیه السلام) نظرَ أصحابه وأهل بیته إلى خطوره هذا الأمر ، وحذّرهم من الوقوع فیه ؛ لأنَّ فیه إغضاباً لله تعالى ، وذلک عندما أُلقی القبض على عبد الرحمان بن ملجم بعد أن ضرب الإمام (علیه السلام) فی محرابه .

قال (علیه السلام) : ( یَا بَنِی عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، لا أُلْفِیَنَّکُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِینَ خَوْضاً ، تَقُولُونَ : قُتِلَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ . أَلا لا تَقْتُلُنَّ بِی إِلاَّ قَاتِلِی ، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَهً بِضَرْبَهٍ ولا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ ؛ فَإِنِّی سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله علیه وآله) یَقُولُ : إِیَّاکُمْ والْمُثْلَهَ ولَوْ بِالْکَلْبِ الْعَقُورِ ) (۶) . ختاماً أقول:عِشتَ الحقیقه فی حیاتک وتسنَّمتَ ذروه المجد فی زمن الانحدار ، کنت عظیماً وبعض الناس دونک أقزام تتوسَّل فی رفعتها الرذیله . ــــــــــــــ۱ ـ نهج البلاغه ، الخطبه : ۵۵ . ۲ـ نهج البلاغه ، من وصیه له : ۱۳ .۳ـ نهج البلاغه ، من وصیه له : ۱۴ . ۴ ـ م . ن . ۵ ـ م . ن . ۶ ـ نهج البلاغه ، من وصیه له : ۴۷ .

 

 

 

http://shiastudies.com/ar/

 

أخلاقیات الحرب عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام). أخلاقیات الحرب عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام). أخلاقیات الحرب عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام). أخلاقیات الحرب عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام). أخلاقیات الحرب عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام). . أخلاقیات الحرب عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)

 

 

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.