المسيح عيسى بن مريم (علی نبینا و آله و علیهما السلام) جزء الأول1
احتفل المجتمع البشري قبل أيام بميلاد المسيح نبي الله عيسى(ع)، وهو أحد أنبياء أولي العزم الذين جاءوا برسالة مخصوصة لمن بعثوا إليهم، وقد تحدث القرآن الكريم عن شخصيته من جوانب متعددة، فذكر أنه عبد الله ونبيه(ص)، قال تعالى:- (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله)[1] ، وأنه كلمته ألقاها إلى مريم(ع)، وقد خلقه الله سبحانه وتعالى من دون أب ورفعه تعالى إليه، قال سبحانه:- (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه).[2]
وقد دلت النصوص أنه ينـزل في آخر الزمان، وسوف يصلي خلف الإمام صاحب الزمان(عج) كما نعتقد نحن الشيعة الإمامية.
وقد سمي بعيسى، وذكر في معناه أقوال، فقيل أنه بمعنى: السيد، وقيل: المُخلص، وقيل: المُنجي. وأما لقب المسيح، فقد اختلف في سبب إطلاقه عليه، فذكرت فيه أقوال:
منها: أن ذلك يعود إلى كونه معصوماً من كل ذنب وخطيئة، فقد مسحت عنه الذنوب والأرجاس.
ومنها: أن التعبير المذكور يشير إلى واحدة من المعاجز التي كانت تجري على يديه، فإنه(ع) كان يمسح على المرضى بيده، فيشفيهم مما هم فيه بإذن الله تعالى.
ومنها: أن ذلك يعدّ لما كان يمارسه من سياحة في الأرض، لأنه كان يسيح في الأرض من أجل تبليغ الدعوة.
ولا ريب أن الحديث عن كافة الجوانب التي عرضها القرآن الكريم في الحديث عن شخصية نبي الله(ع) يستوجب طولاً لا يسعه هذا المختصر، لذا سوف نقصر الحديث على جوانب من سيرته المباركة.
الولادة ومتعلقاتها:
وقع الخلاف في تحديد تأريخ ولادته(ع) وأنه في أي وقت، كما وقع الخلاف في تحديد اليوم الذي ولد فيه، فقيل أنه الجمعة، وقيل غير ذلك.
وليس في القرآن الكريم شيء حيال ذلك، وهذا لما ذكرناه غير مرة من أن القرآن الكريم ليس كتاب قصة بمعنى استعراضه لكل الحيثيات والجزئيات المرتبطة بالقصص، وإنما هو كتاب عظة وعبرة، فيعرض من القصة ما يكون مرتبطاً بتحقيق الغرض الذي جاء من أجله.
وكيف ما كان، فهنا جوانب جديرة بالوقوف عندها حين التعرض لولادة نبي الله عيسى(ع).
منها:
كيفية خلقه:
كما هو معروف، فإن المسيح عيسى(ع) خلقه الله سبحانه وتعالى من دون أب، وهذا من الأمور المثيرة للتعجب والاستغراب، لأن المعروف أن يكون الإنجاب عن طريق التقاء العنصر الذكوري بالعنصر الأنثوي، ولا يتصور وجود المخلوق من دون التقاء لهذين العنصرين بعضهما مع بعض، ولهذا قلنا بأن ولادة المسيح عيسى(ع) مثار للاستغراب والتعجب، لأنه قد ولد من أم وبدون أب، قال تعالى:- (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وصدقت لكلمات ربهاا وكتبه وكانت من القانتين)[3] ، وقال سبحانه:- (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين)[4] ، فإن المستفاد منها أنه تم خلقه بواسطة النفخ من روح الله سبحانه عن طريق الفرج. وليس المقصود من النفخ النفخ المتعارف، بل هو تعبير كنائي عن الأمر الإلهي الذي ألقي إلى مريم العذراء(ع)، قال تعالى:- (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)[5]. والروح المنفوخ منه هو الروح المخلوق بالأمر الإلهي وهو نفسه الروح الذي تمثل لمريم وتكلم معها.
ويزول الاستغراب والتعجب، عند الرجوع للقرآن الكريم، فإن المستفاد من آياته الشريفة أن إيجاد الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته يتم عن طريقين:
الأول: الخلق، وهذا الذي يكون بالصورة الطبيعية التي تتمثل في التقاء العنصر الذكوري بالعنصر الأنثوي.
الثاني: الأمر، وهو الذي لا يخضع إلى لقاء العنصرين المعروفين، بل يكون خاضعاً للإرادة الإلهية، ولقانون كن فيكون.
ويشير لهذين الأمرين قوله تعالى:- (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)[6] ، ولم يكن وجوده(ع)، بواسطة الطريق الأول، بل كان من خلال الطريق الثاني، أعني بصورة الأمر الإلهي وهو كلمة(كن)، ولهذا يشير قوله تعالى:- (ولنجعله آية للناس)[7] ، فإن أحد موجبات كونه آية لهم أن يكون خلقه بصورة إعجازية مخالفة لما هو المعروف والمتعارف بينهم، ولهذا كان وجوده وفقاً لقانون كن، والأمر الإلهي.
ومنها:
مدة الحمل:
لما كان إيجاد المسيح عيسى(ع) من خلال الأمر الإلهي، وليس الخلق، فلا يلزم أن يمر بحال التخلق الجنينية المعروفة، وأطوارها، بأن يبقى تسعى أشهر في رحم أمه، لأن من خلقه بدون أب قادر على أن يوجده دون حاجة إلى ذلك. إلا أنه وقع الخلاف بين المفسرين في تحديد مدة الحمل، وقد ذكر الشيخ الطبرسي(ره) أقوالاً في ذلك: قال(ره): واختلفوا في مدة حملها، فقيل: ساعة واحدة، قال ابن عباس، لم يكن بين الانتباذ والحمل إلا ساعة واحدة، لأنه تعالى لم يذكر بينهما فصلاً، لأنه قال:- (فحملته فانتبذت به فأجاءها)، والفاء للتعقيب.
وقيل: حملت به في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة حين زاغت الشمس من يومها، وهي بنت عشر سنين، عن مقاتل.
وقيل: كانت مدة حملها تسع ساعات، وهذا مروي عن أبي عبد الله(ع). وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أنه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غيره[8]
وقد عنى بالمروي عن أبي عبد الله(ع)، ما جاء في كتاب روضة الكافي، بسند عن أبان عن رجل، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن مريم حملت بعيسى(ع) تسع ساعات، كل ساعة شهراً[9]. وهو واضح في تحديد مدة الحمل بأنها تسع ساعات كما لا يخفى.
إلا أن الخبر مرسل، وهذا يمنع من الاستناد إليه، إلا أن يقرر أن المقصود هو حدث تاريخي، وليس مطلباً تفسيرياً، ولا عقدياً، فلا يحتاج النظر في السند، بل يكفي توفر موجبات الاعتبار للخبر التاريخي فيه ليستند إليه، فتأمل.
وقد جاء تحديد مدة الحمل بتسع ساعات في التفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم، من دون أن ينسبه لنص عن معصوم.
ويدل على أن مدة حملها به ستة أشهر خبر محمد بن عمرو الزيات عن رجل من أصحابنا، عن أبي عبد الله(ع) قال: لم يولد لستة أشهر إلا عيسى بن مريم، والحسين بن علي(ع)[10]
ولم يتضح مستند بقية الأقوال المذكورة، لعدم تعرض القرآن الكريم لشيء حول ذلك، وحتى ما استظهره ابن عباس(رض) من الآية يمكن منعه، لأنه يقوم على حصول التعقيب دون تراخٍ، وهو غير واضح، لأن التعقيب كما يكون بدون تراخٍ يكون معه بنحو لا ينفي عنه عنوان التعقيب.
وكيف ما كان، قد يتمسك لقول ابن عباس، أنه لما كان مخلوقاً من دون أب، فيلزم أن يكون تخلقه بهذه الكيفية. وتماميته تتوقف على تمامية الملازمة، وللتأمل في منعها مجال.
وبالجملة، لعل أقرب الأقوال للقبول هو قول ابن عباس، ويمكن انسجامه مع الخبر المروي عن الإمام الصادق(ع)، لعدم تضمن المصادر المتعرضة لقصته(ع) ذكراً لحصول سفر أو لطول غياب من السيدة مريم(ع)، ويساعد على ذلك حالة التعجب التي أصابت قومها عندما شاهدوها تحمل غلاماً، فلو كانت قد غابت عنهم مدة من الزمن لم يكن وجه للتعجب، إذ يحتمل أنها خلال هذه المدة قد تزوجت وأنجبت، لكن الحالة التي كاوان عليها لما شاهدوها تحمل طفلاً تساعد على أنهم فارقوها قبل قليل وهي فتاة بكر، لم تعرف الرجال، فكيف تأتي الساعة تحمل طفلاً.
ومنها:
مكان الولادة:
وكما لم يتعرض القرآن الكريم لتحديد زمان الولادة، كذلك لم يتضمن تحديد مكانها، نعم أشار القرآن إلى خروج السيدة مريم(ع) إلى مكان بعيد، قال تعالى:- (فانتبذت به مكاناً قصياً)[11] ، والقصي هو المكان البعيد. وقد تضمنت النصوص تحديداً لمكان الولادة، فاشتملت على ذكر أماكن:
انتهی الجزء الاول
من موقع سماحة الشيخ محمد العبيدان القطیفی
بإمكانك تقراء الجزء الثاني عبر هذا الرابط : https://b2n.ir/h72243
___________________________________
[1] سورة النساء الآية رقم 172.
[2] سورة النساء الآية رقم 157.
[3] سورة التحريم الآية رقم 12.
[4] سورة الأنبياء الآية رقم 91.
[5] سورة النساء الآية رقم 171.
[6] سورة الأعراف الآية رقم 54.
[7] سورة مريم الآية رقم 21.
[8] مجمع البيان في تفسير القرآن – ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات نویسنده : الشيخ الطبرسي جلد 6 : صفحه417
[9] بحار الأنوار ج 14 باب ولادة عيسى(ع) ح 28 ص 219.
[10] بحار الأنوار ج 14 باب ولادة عيسى(ع) ،ح 2 ص 207.
[11] سورة مريم الآية رقم 22.