الإمامة تنصيب إلهي أم انتخاب بشري؟ (05)
أما كاشف الغطاء فقد عرض إلى صفات الإمام (عليه السلام) وقال فيما يختص في مواهبه العلمية:(وأن يكون أفضل أهل زمانه في كل فضيلة، وأعلمهم بكل علم، لأن الغرض منه تكميل البشر وتزكية النفوس، وتهذيبها بالعلم والعمل الصالح (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(01).
والناقص لا يكون مكملاً، والفاقد لا يكون معطياً، فالإمام في الكمالات دون النبي وفوق البشر)(02).
وكما ترى هذا هو الرأي الصريح للشيعة في علم الإمام، وليس فيه أي غلو أو هوى كما يتهمهم الخصوم.
وهنا يحضرني قول من وصف كلام الإمام علي (عليه السلام) أمير المؤمنين في نهج البلاغة فقال:(كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).
وأفضل كلام يقال في هذا المجال كلمة الإمام الرضا (عليه السلام) فهي من أعمق الأدلة على الإمامة، واكثرها استيعاباً وشمولاً وبياناً لمنصبها فقال (عليه السلام):هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟
إن الإمامة أجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيمون إماماً باختيارهم.
إن الإمامة خصّ الله بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة، والخلّة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرفه بها، وأشاد بها ذكــره، فقال عــزّ وجـــلّ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) فقال الخــــليل سروراً بها: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)؟ قال عزّ وجـــلّ: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(03).
فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة. ثم أكرمه الله تعالى وجعل ذريته أهل الصفوة والطهارة.
فقال عزّ وجلّ: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(04).
ولم تزل الإمامة في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً بعد قرن حتى ورثها النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) قال عزّ وجلّ:
(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(05).
فكانت الخلافة للنبي الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله) التي قلّدها علياً بأمر الله عزّ وجلّ فصارت له في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عزّ وجلّ: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ)(06).
فالامامة أصبحت في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد النبي محمد (صلّى الله عليه وآله)، فمن يختار هؤلاء الجهال؟
إن الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، وخلافة الله عزّ وجلّ وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام) حتى وصلت إلى الإمام زين العابدين، ومنه إلى الإمام الباقر، ومنه إلى الإمام الصادق، ومنه إلى الإمام الكاظم عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام، وهكذا تتابعت في هذه الذرية الطاهرة إلى الإمام المهدي الثاني عشر عجّل الله فرجه الشريف.
وتعرض (عليه السلام) بعد هذا إلى علم الأنبياء والأئمة فقال:
(إن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله، ويؤتيهم من مخزون علمه. وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم)، ثم انظروا إلى قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(07). وقال عزّ وجلّ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(08) وقال عزّ وجلّ في الأئمة من أهل بيت نبيه (صلّى الله عليه وآله) وعترته وذريته (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(09).
فالعبد الصالح الذي اختاره الله عزّ وجلّ لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم الهاماً، فهو معصوم، مؤيد، موفق، مسدد، قد أمن الخطايا والزلل، والعثار؛ يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه.
(ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(10).
فهل يقدرون على مثل هذا فيختارون؟! أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه، تعدوا وبيت الله الحق، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون، وفي كتاب الله الهدى والشفاء فنبذوه واتبعوا أهواءهم فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم، فقال عزّ وجلّ: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(11). وقال عزّ وجلّ: (فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)(12). وقال عزّ وجلّ: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(13).
انتهى بذلك حديث الإمام الرضا (عليه السلام)(14) وهو حافل بأكمل وأروع صور الاستدلال والحجة الدامغة على ضرورة الإمامة، واستحالة الاختيار والانتخاب من قبل سائر الناس، ووجوب رجوع التعيين في ذلك إلى الله تعالى وحده فهو الذي يختار لهذا المنصب الرفيع من يشاء من عباده ممن تتوفر فيه صفات العلم الغزير والمعرفة الواسعة الشاملة لشؤون الحياة الفردية والجماعية. وممن يتحلى بطهارة النفس، وصفاء الذات، وعدم الانقياد والخضوع لدواعي الهوى، ونوازع الشرور والغرور. وبهذه الصفات الكاملة الشاملة يصلح الإمام لهداية الناس واصلاحهم، وارشادهم إلى طرق الخير والكمال، وغرس روح الثقة والفضيلة في نفوسهم ليكونوا كما أرادهم الله عزّ وجلّ وكما أرادهم نبي الله (صلّى الله عليه وآله): (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)(15)
………………………….
المصادر :
01- سورة الجمعة: الآية 2.
02- سورة الأنبياء: الآية 72-73.
03- سورة البقرة: الآية 124.
04- سورة الأنبياء: الآيتان 72-73.
05- سورة آل عمران: الآية 68.
06- سورة الروم: الآية 56.
07- سورة يونس: الآية 35.
08- سورة البقرة: الآية 269.
09- سورة النساء: الآية 54-55.
10- سورة الحديد: الآية 21.
11- سورة القصص: الآية 50.
12- سورة محمد: الآية 8
13- سورة المؤمن: الآية 35
14- راجع عيون أخبار الرضا، ج1، ص216-222 وأصول الكافي.
15- سورة آل عمران: الآية 110