تاريخ حياة الإمام الهادي عليه السلام (04)

0

يقول صالح بن سعيد:

دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) يوم وروده فقلت له: جعلت فداك في كلّ الأمور ارادوا اطفأء نورك والتّقصير بك، حتّى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصّعاليك. فقال: ها هنا أنت يا ابن سعيد ؟ ثمّ أومأ بيده فاذا أنا بروضات أنيقات، وأنهار جاريات، وجنّات فيها خيرات عطرات، وولدان كأنّهنّ اللّؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي فقال (عليه السلام) لي: حيث كنّا فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصّعاليك(01).

وقد لقي الإمام الهادي (عليه السلام) اشدّ العناء والعذاب خلال فترة اقامته في سامرّاء، ولا سيّما من المتوكّل حيث كان يتعرّض باستمرار للتّهديد والإيذاء منه ويواجه الخطر الجسيم والنماذج التي تذكرها لا حقاً تدل على الوضع الخطير. للإمام في سامرّاء وتصلح شاهداً على مدى تحمّله وصبره ومقاومته في مقابل الطّواغيت الظّالمين. يقول الصقر بن أبي دلف الكرخي:

لمّا حمل المتوكّل سيّدنا أبا الحسن العسكريّ (عليه السلام) جئت اسأل عن خبره، قال: فنظر اليّ الزّرافي (وكان حاجباً للمتوكّل) فأمر ان ادخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك ؟ فقلت: خير أيّها الاستاذ، فقال: اقعد فأخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: اخطأت في المجيء.

قال: فوحى النّاس عنه ثمّ قال لي: ما شأنك وفيم جئت ؟

قلت: لخبر مّا، فقال: لعلّك تسأل عن خبر مولاك ؟ فقلت له: ومن مولاي ؟ مولاي أمير المؤمنين!، فقال: اسكت! مولاك هو الحقّ فلا تحتشمني فانّي على مذهبك، فقلت: الحمد الله.

قال: أتحبّ ان تراه ؟ قلت: نعم، قال: اجلس حتّى يخرج صاحب البريد من عنده.

قال: فجلست فلمّا خرج قال لغلام له: خذ بيد الصّقر وأدخله الى الحجرة الّتي فيها العلويّ المحبوس، وخّلّ بينه وبينه، قال: فأدخلني الى الحجرة وأومأ الى بيت فدخلت فاذا هو جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور، قال: فسلّمت عليه فردّ عليّ ثمّ أمرني بالجلوس ثمّ قال لي: يا صقر ما أتى بك ؟ قلت: سيّدي جئت اتعرّف خبرك ؟ قال: «ثمّ نظرت الى القبر فبكيت فنظر اليّ فقال يا صقر لا عليك لن يصلوا الينا بسوء الان، فقلت: الحمد الله».

(ثمّ سألته عن حديث مرويّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابني) ثمّ قال (عليه السلام): ودّع واخرج فلا آمن عليك(02).

قال المسعودي في مروج الذّهب:

سعي الى المتوكّل بعليّ بن محمّد الجواد (عليهما السلام) انّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وانّه عازم على الوثوب بالدّولة فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا على داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرّمل والحصى وهو متوجّه الى الله تعالى يتلو آيات من القرآن.

فحمل على حاله تلك الى المتوكّل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشّرب فدخل عليه والكأس في يد المتوكّل، فلمّا رآه هابه وعظمه وأجلسه الى جانبه وناوله الكأس الّتي كانت في يده، فقال: والله ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً، فقال (عليه السلام): انّيّ قليل الرّواية للشّعر، فقال: لابدّ، فأنشده (عليه السلام) وهو جالس عنده:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم        غلب الرّجال فلم تنفعهم القلـل

واستُنزلوا بعد عزّ من معاقلهم         وأُسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهـم صارخ من بعد دفنهـم     أين الأساور والتّيجان والحلـل

أين الوجـوه الّتي كانت منعّمـة      من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين سائلهم               تلك الوجوه عليها الدّود تقتتـل

قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا     وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا

قال: فبكى المتوكّل حتّى بلّت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع الى علي (عليه السلام) أربعة آلاف دينار، ثمّ ردّه الى منزله مكرّماً(03).

ومرّة اخرى هاجموا دار الإمام: فقد مرض المتوكّل مرضاً اشرف منه على التّلف، فوصف له الإمام (عليه السلام) دواءً لعلاجه، وعوفي بسبب تناوله ذلك الدّواء. وبُشّرت امّ المتوكّل بعافيته فحملت الى أبي الحسن (عليه السلام) عشرة آلاف دينار تحت ختمها.

فلمّا كان بعد أيّام سعى البطحائيّ بأبي الحسن (عليه السلام) الى المتوكّل فقال: عنده سلاح و أموال، فتقدّم المتوكّل الى سعيد الحاجب ان يهجم ليلاً عليه ويأخذ ما يجد عنده من الاموال والسّلاح ويحمل اليه.

فقال ابراهيم بن محمّد: قال لي سعيد الحاجب: صرت الى دار أبي الحسن (عليه السلام) بالّليل، ومعي سلّم فصعدت منه الى السّطح، ونزلت من الدّرجة الى بعضها في الظّلمة، فلم ادر كيف اصل الى الدار فناداني أبو الحسن (عليه السلام) من الدّار: يا سعيد مكانك حتّى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن آتوني بشمعة فنزلت فوجدت عليه جبّة من صوف وقلنسوة منها وسجّادته على حصير بين يديه و هو مقبل على القبلة فقال لي: دونك بالبيوت.

فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومة بخاتم امّ المتوكّل وكيسا مختوماً معها، فقال أبو الحسن (عليه السلام): دونك المصلّى فرفعت فوجدت سيفا في جفن غير ملبوس، فأخذت ذلك وصرت اليه.

فلّمّا نظر الى خاتم امّه على البدرة بعث اليها، فخرجت اليه، فسألها عن البدرة، فأخبرني بعض خدم الخاصّة انّها قالت له: كنت نذرت في علّتك ان عوفيت ان احمل اليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها اليه وهذا خاتمك على الكيس ما حركّها. وفتح الكيس الاخر وكان فيه أربع مائة دينار، فأمر ان يضمَّ الى البدرة بدرة أخرى وقال لي: احمل ذلك الى أبي الحسن واردد عليه السّيف والكيس بما فيه، فحملت ذلك اليه واستحييت منه، وقلت: يا سيّدي عزّ عليّ بدخول دارك بغير اذنك، ولكنّي مأمور به، فقال لي:

(وَسَيعلَمُ الّذّينَ ظَلَمُوا اَيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ)(04).

*      *      *

واخيراً فقد انتهت الحكومة الغاشمة للمتوكّل، فبتحريض من ابنه «المنتصر» قامت مجموعة من الأتراك المسلّحين بقتله وقتل وزيره الفتح بن خاقان بينما كانا منهمكين في شرب الخمر واللّهو(05). وبذلك تطهّرت الأرض من وجوده المنحطّ.

واستلم المنتصر في صبيحة تلك الّليلة الّتي قتل فيها المتوكّل مقاليد الخلافة وأمر بهدم بعض قصور أبيه(06). ولم يؤذ العلويّين وإنّما اظهر الرّأفة والعطف عليهم وأجاز زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، وأبدى للزّائرين الخير والإحسان(07). وأصدر أمره بإعادة «فدك» إلى أولاد الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، ورفع الخطر عن الأوقاف العائدة الى آل أبي طالب(08)، وكانت فترة خلافة المنتصر قصيرة فقد امتدّت ستّة اشهر فحسب، وتوفّي في عام  «248» هجري(09).

وانتقلت الخلافة من بعده الى ابن عمّه «المستعين» وهو حفيد المعتصم، وقد سلك طريقة الخلفاء السّابقين، وفي أثناء حكمه نهضت مجموعة من العلويّين وانتهى بها الأمر الى القتل.

ولم يستطع المستعين الصّمود في وجه تمرّد الا تراك من جيشه، فأستخرج المتّمرّدون المعتزّ من السّجن وبايعوه. وبذلك ارتفع نجم المعتزّ واضطرّ المستعين ليبدي استعداده للصّلح معه وصالحه المعتزّ بحسب الظّاهر واستدعاه إلى سامرّاء ولكنّه في وسط الطّريق أمر به فقتل(10).

وقد جرت سيرة المستعين على اطلاق أيدي بعض المقرّبين إليه وزعماء الأتراك في نهب المال والعبث به حسب ما تقتضيه اهواؤهم(11)، ولكنّه كان يسلك مع أئمّتنا المعصومين (عليهم السلام) سلوكاً مُشينا جدّاً وقاسيا، وبناءً على بعض الرّوايات فانّه قد تعرّض للّعن من قبل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وانتهت حياته(12).

وبعد المستعين استلم الخلافة «المعتزّ» وهو ابن المتوكّل واخ المنتصر. وكان موقفه من العلويّين سيئاً جدّاً. وخلال حكمه تعرّضَت طائفة من العلويّين للقتل أودُسّ اليها السُّم. وفي زمانه أيضاً استشهد الإمام الهادي (عليه السلام).

وأخيراً فقد واجه المعتزّ تمردّاً اشترك فيه زعماء الاتراك وآخرون وعزلوه عن الحكم وضُرب وجُرح على أيديهم ثمّ القوا به في سرداب وأغلقوا عليه بابه حتّى هلك في داخله(13).

——————————————————————————-

(01) ـ الإرشاد للمفيد: ص 313 ـ 314.

(02) ـ بحار الأنوار: ج 50 ص 195 ـ 194.

(03) ـ البحار: ج 50 ص 211 ـ 212.

(04) ـ احقاق الحق: ج 12 ص 452 ـ 453، الفصول المهمّة لابن صبّاغ المالكي: ص 281 ـ 282.

(05) ـ تتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 341 ـ 342.

(06) ـ تتمة المنتهى: ص 243.

(07) ـ تتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 344.

(08) ـ تتمة المنتهى: ص 244.

(09) ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 493، تتمة المختصر في أخبار البشر: ج 1 ص 344.

(10) ـ المختصر في أخبار البشر: ج 2 ص 42 ـ 44.

(11) ـ المختصر في أخبار البشر: ج 2 ص 42 ـ 44، تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 499، تتمة المنتهى: ص 246.

(12) ـ بحار الأنوار: ج 50 ص 249.

(13) ـ تتمّة المنتهى: ص 252 ـ 254، المختصر في أخبار البشر: ج 2 ص 45.

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.