السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي رحمه الله دراسة في سيرته 03
دوره في مواجهة مدّعي السفارة:
ابتلى الحسين بن روح خلال فترة سفارته بمدّعي السفارة والألوهية والعقائد المنحرفة التي ظهرت على أيدي المدعين كالبابية والحلولية والضد والتناسخ وغيرها.
ومن أبرز هؤلاء المدعين هو الشلمغاني، والحسين بن منصور الحلاج[47]، وأبو بكر البغدادي[48] وسوف نستعرض فيما يلي حياة وعقائد بعضهم.
الشلمغاني:
هو أبو جعفر محمد بن علي الملقب بالشلمغاني نسبةً إلى قرية في نواحي واسط وتسمى شلمغان ويلقب أيضاً بابن العزاقر. وكان الشلمغاني قبل انحرافه من وجهاء الشيعة وأعيانهم وكانت له العديد من الكتب والتي ملأت بيوت الشيعة، ذكرها النجاشي في رجاله منها: كتاب التكليف، ورسالة إلى ابن همام، وكتاب ماهية العصمة، كتاب الزاهر بالحجج العقلية، كتاب المباهلة، كتاب الأوصياء، كتاب المعارف، كتاب الإيضاح، كتاب فضل النطق على الصمت… إلخ[49].
وكان ممن لم يعترض على سفارة الحسين بن روح في بادئ الأمر، وكان وكيلاً عن الحسين بن روح (رحمه الله) في فترة غيابه فمضى بمكانة كبيرة عند الشيعة، ولكنه استغلّ غياب الحسين بن روح لينشر أفكاره وعقائده المنحرفة، ومن أهم تلك العقائد:
١- التناسخ والحلول: فقد ادّعى في بادئ الأمر أن روح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حلّت في محمد بن عثمان وروح الإمام علي (عليه السلام) حلّت في الحسين بن روح وروح فاطمة الزهراء (عليها السلام) حلّت في أم كلثوم بنت محمد بن عثمان ثم ادّعى حلول الألوهية فيه وكان يقول: هذا سر عظيم لا يتحمّله إلّا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه [50].
٢- كان يعتقد بحمل الضد: وهو إظهار فضيلة للولي في مقابل الطعن فيه بضدها[51].
٣- يعتقد العزاقرية بترك الصلاة والصيام والغُسل ولا يتناكحون بعقد على سُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يبيحون الفروج، ولا إشكال عندهم في نكاح المحارم ونساء الأصدقاء والأولاد[52].
كان الشلمغاني من المقربين لابن الوزير المحسن بن أبي الحسن بن فرات وبعد مقتل الوزير أبي الحسن وابنه الحسين استوزر أبو القاسم الخاقاني، وفي هذه الفترة هرب الشلمغاني إلى الموصل بعد أن طلبه الوزير الخاقاني وبقى سنين هناك[53]، وبعدها رجع إلى بغداد وادّعى الألوهية، فقبض عليه الوزير ابن مقله في شوال سنة اثنين وعشرون وثلاثمائة وقتله في آخر ذي القعدة من السنة نفسها. وكان للحسين بن روح دور كبير في كشف زيف دعوى الشلمغاني، من خلال عدة أساليب:
لمّا بلغ الحسين بن روح (رحمه الله) انحرافه عن طريق أم كلثوم بنت محمد بن عثمان التي أخبرتها أم أبي جعفر بن بسطام بما قاله الشلغماني في حقها من حلول روح الزهراء (عليها السلام) في جسدها وروح أمير المؤمنين (عليه السلام) في جسد الحسين بن روح وروح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جسد محمد بن عثمان، كتب الحسين بن روح إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه ومن تابعه على القول، وأقام على تولّيه وكان يوهم بني بسطام بأن المقصود من اللعن هو البعد عن النار والعذاب وكان يشير إليه بأن هذا الأمر سر لا يتحمّله إلّا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه الإيمان[54]، وكانت له مكانة عند بني بسطام حتى أن الكثير منهم اعتقدوا بما يعتقد.
كان لتوقيع صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) الأثر البالغ في بيان حقيقة الشلمغاني ومدى انحرافه، وخرج التوقيع على يد الحسين بن روح وهو في السجن عام (٣١٢هـ) وأخذه أبو علي بن همام ووزّعه على الشيوخ والأعيان في مختلف الأمصار[55].
ونص التوقيع الذي نقله الطوسي في الغيبة، والطبرسي في الاحتجاج واللفظ للثاني هو: “عرِّف – أطال الله بقاك! وعرّفك الله الخير كله وختم به عملك – من تثق بدينه وتسكن إلى نيته من إخواننا أدام الله سعادتهم: بأن (محمد بن علي المعروف بالشلمغاني) عجّل الله له النقمة ولا أمهله، قد ارتدّ عن الإسلام وفارقه، وألحد في دين الله وادّعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى، وافترى كذباً وزوراً، وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً.
وإنا برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله (صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته) منه، ولعنّاه، عليه لعائن الله تترى، في الظاهر منا والباطن، في السر والجهر، وفي كل وقت وعلى كل حال، وعلى كل من شايعه وبلغه هذا القول منا فأقام على توليه[56] بعده. أعلمهم تولاك الله! إننا في التوقّي والمحاذرة منه على مثل ما كنا عليه ممن تقدمه من نظرائه، من: (السريعي، والنميري، والهلالي، والبلالي) وغيرهم. وعادة الله جل ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة، وبه نثق وإياه نستعين وهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل“[57]. كتب الحسين بن روح إلى شيوخ وأعيان الشيعة بلعنه والبراءة منه[58].
كتب الشلمغاني للحسين بن روح يسأله أن يباهله فردّ عليه الحسين بن روح بما جعل من ذلك قرينة إضافية على انحرافه، روى الطوسي في الغيبة بسنده عن أبي علي بن همام وقال: “أنفذ محمد بن علي الشلمغاني العزاقري إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله وقال: أنا صاحب الرجل وقد أُمِرْتُ بإظهار العلم، وقد أظهرته باطناً وظاهراً، فباهلني، فأنفذ إليه الشيخ (رضي الله عنه) في جواب ذلك: أينا تقدم صاحبه فهو المخصوم، فتقدم العزاقري فقتل وصلب وأخذ معه ابن أبي عون، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة“[59].
الحلاج:
وهو الحسين بن منصور الحلاج أبو مغيث نشأ في محافظة واسط [60]ظهرت دعوته سنة (٢٩٩هـ) وكان في بداية أمره يزعم أنه رسول الإمام الغائب (عجّل الله فرجه) ووكيله وبابه، وقد ورد اسمه مع مدّعي البابية[61] ثم ادّعى الحلول والمعجزة ثم الربوبية[62]، مارس الحيل والزندقة لتضليل الناس بأساليب تشبه الشعوذة والسحر[63]، قال عنه ابن النديم: (وكان رجلاً محتالاً مشعبذاً، يتعاطى مذاهب الصوفية، ويتحلّى ألفاظهم، ويدّعي كل علم، وكان صفراً من ذلك. وكان يعرف شيئاً من صناعة الكيمياء. وكان جاهلاً مقداماً متدهوراً جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم، يروم إقلاب الدول، ويدّعي عند أصحابه الإلهية، ويقول بالحلول، ويظهر مذاهب الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة. وفى تضاعيف ذلك يدّعي أن الإلهية قد حلّت فيه، وأنه هو هو، تعالى الله جل وتقدس عما يقول هؤلاء علواً كبيراً)[64].
قام بنشر دعوته في قم وبغداد والأهواز، وفي كل مكان يحلّ به يكون له فيه أتباع وكذلك يكون له مناوئين يردون عليه حججه فقد لُعن في قم وطرد منها على يد علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أبي الشيخ الصدوق، روى الطوسي في الغيبة قال: (أخبرني جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أن ابن الحلاج صار إلى قم، وكاتب قرابة أبي الحسن يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً ويقول: أنا رسول الإمام ووكيله، قال: فلما وقعت المكاتبة في يد أبي (رضي الله عنه) خرقها وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات؟ فقال له الرجل -وأظن أنه قال إنه ابن عمته أو ابن عمه–: فإن الرجل قد استدعانا فلم خرقت مكاتبته وضحكوا منه وهزؤا به، ثم نهض إلى دكانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه.
قال: فلما دخل إلى الدار التي كان فيها دكانه نهض له من كان هناك جالساً غير رجل رآه جالساً في الموضع فلم ينهض له، ولم يعرفه أبي، فلما جلس وأخرج حسابه ودواته كما يكون التجار، أقبل على بعض من كان حاضراً، فسأله عنه فأخبره فسمعه الرجل يسأل عنه، فأقبل عليه وقال له: تسأل عني وأنا حاضر؟ فقال له أبي: أكبرتك أيها الرجل وأعظمت قدرك أن أسألك، فقال له: تخرق رقعتي وأنا أشاهدك تخرقها؟ فقال له أبي: فأنت الرجل إذاً. ثم قال: يا غلام برجله وبقفاه، فخرج من الدار العدو لله ولرسوله، ثم قال له: أتدّعي المعجزات عليك لعنة الله؟ أو كما قال فأخرج بقفاه فما رأيناه بعدها بقم)[65].
وفي بغداد هزم على يد أبي سهل النوبختي عندما أفحمه ودفع حجته عندما أراد كسب أبي سهل وأتباعه إليه فراسله مدّعياً أنه وكيل الإمام (عجّل الله فرجه) فوقع السحر على الساحر عندما جعل منه أحدوثة للسخرية مبيناً زيف دعواه، (فأرسل إليه أبو سهل (رضي الله عنه) يقول له: إني أسألك أمراً يسيراً يخف مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن [ويبغضني إليهن] وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة، وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك، وإلّا انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤونته، وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداعٍ إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة.
فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يردّ إليه جواباً، ولم يرسل إليه رسولاً، وصيّره أبو سهل (رضي الله عنه) أحدوثة وضحكة ويُطنَّز به عند كل أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه)[66].
وفي حادثه أخرى عندما كان يحرِّك يده لقوم فينثر منها الدراهم وكان في القوم أبو سهل فطلب منه درهما ًمكتوباً عليها اسمه واسم أبيه فعجز عن ذلك[67] وطُرد من الأهواز بعد أن قام المتكلم المعتزلي المعروف أبو علي الجبائي بكشف حيلته[68].
هذا الانحراف في العقائد وادِّعائه الكفر جعل عند العلماء مبرراً كافياً لتكفيره وهدر دمه وممن كفّره أبو بكر محمد بن داوود إمام الظاهرية في سنة(٢٩٧هـ)[69]. فأودع في السجن لمدة ثمان سنوات، وكان ذلك بأمر من الوزير علي بن عيسى سنة (٣٠١هـ) وقتل بأمر من المقتدر العباسي سنة (٣٠٩هـ) وقبل مقتله صُلب على الجسر ببغداد وقُطعت أطرافه الأربعة ثم حُزّ رأسه وأُحرقت جثته ورُميتْ في نهر دجلة[70]، وأُرسل رأسُه إلى خراسان لأن له فيها أتباعاً[71]، وقد ادّعى أتباعه أنّه لم يعدم وإنما أُعدم شبيه له[72].
……………………..
[47] كانت بداية انحرافه في زمن سفارة محمد بن عثمان وسبب انحرافه لامتناعه تسليم الأموال التي عنده إلى السفير الثاني (ينظر موجز دائرة معارف الغيبة: ٢٥).
[48] هو محمد بن أحمد البغدادي وهو أبن أخ الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري وكان ممن ادّعى السفارة الكاذبة وكانت مهمة السفير الثالث صدّ هذه الدعاوي (ينظر موجز دائرة معارف الغيبة: ٨)
[49] رجال النجاشي: ٣٧٨.
[50] ينظر الغيبة للطوسي: ٢٥٦، ينظر موسوعة الإمام المهدي:١/٥١٤.
[51] ينظر الغيبة للطوسي: ٢٥٨.
[52] آل نوبخت، عباس إقبال أشتيان.
[53] آل نوبخت، عباس إقبال الأشتياني: ٢٥٩.
[54] ينظر الغيبة للطوسي: ٢٥٧.
[55] ينظر الغيبة للطوسي: ٢٦٠.
[56] البحار: ج٥١، ص٣٧٧، وفي الاحتجاج للطبرسي: ٢/٢٩٠
[57] البحار: ج٥١، ص٣٧٧، وفي الاحتجاج للطبرسي: ٢/٢٩٠.
[58] ينظر الغيبة للطوسي: ٢٥٧.
[59]الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي:٣/١١٢٢.
[60] الأعلام، الزركلي:٦ / ٢٧٣.
[61] ينظر الغيبة، الطوسي: ٢٥٤.
[62] ينظر آل نوبخت: ١٤٠ ١٤١.
[63] تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: ٨ / ١٢٠ وما بعدها.
[64] الفهرست، ابن النديم: ٢٤١.
[65] الغيبة للطوسي: ٢٥٤- ٢٥٥.
[66] الغيبة للطوسي: ٢٥٥.
[67] صلة تاريخ الطبري، عريب بن سعد القرطبي: ٦٤.
[68] ينظر تاريخ بغداد: ٨/١٢٢.
[69] ينظر البداية والنهاية، ابن كثير: ١١/ ١٥٩.
[70] ينظر البداية والنهاية، ابن كثير: ١١/ ١٦٣.
[71] الكامل في التاريخ، ابن الأثير: ٨ / ١٢٩.
[72] المصدر السابق.