سفر مسلم إلى العراق

0

  وجدد هنا لک المواثیق المؤکده على ما انطوت علیه أضالعه من التضحیه والمفادات دون إحدى الحسنیین الحیاه السعیده أوالخلود بالذکر المؤبد بمرضاه رب العالمین ، ثم ودّع أهله وسافر إلى العراق ومعه قیس بن مسهر الصیداوی وعماره بن عبدالله السلوی وعبدالرحمن بن عبدالله الأزدی (۳) مع دلیلین استأجرهما من قیس یدلانه على الطریق (۴).
 ولم یأخذ الطریق الجدد إلا وألق الحق معه ولم یهبط الى واد إلا وعبق الصدق یصحبه ومزیج نفسه شهامه من قومه وبساله من عمه أمیر المؤمنین (علیه السلام) وعزیمه ممن شرفه بالولایه والنیابه عنه سید الشهداء ، وأنه لایرى الموت دون الحق إلا سعاده والحیاه مع الضالمین إلا برما.
 ____________
 1) مروج الذهب ج۲ ص۶| شرح الشریشی على مقامات الحریری ج۱ ص۱۹۲٫
 2) تاریخ الطبری ج۶ ص۱۹۸٫
 3) کامل ابن الاثیر ج۴ ص۹ ، والأخبار الطوال ص۲۳۱٫
 4) الإرشاد للشیخ المفید.
وبینا هو یسیر الى قصده الأسنى إذ ضل الدلیلان عن الطریق فتاهوا فی البر واشتد بهم الحر والعطش ولم یستطع الدلیلان حراکا ولکن بأن لهما سنن الطریق فقالا لمسلم علیک بهذا السمت فالزمه لعلک تنجو ، وحیث أنه لم یسعه حملهما للتوصل الى النجاه لأنهما على وشک الهلاک وغایه ما وضح للدلیلین العلائم المفضیه الى الطریق لا الطریق نفسه ، ولم تکن المسافه بینهم وبین الماء معلومه ولیس لهما طاقه على الرکوب بأنفسهما ولا مردفین مع آخر وبقاء مسلم (علیه السلام) معهما إلى منتهى الأمر یفضی الى هلاکه ومن معه فکان الواجب المؤکد التحفظ على النفوس المحترمه بالمسیر لادراک الماء فلذلک ترکهما فی المکان (۵).
 ومضى على الوصف ومات الدلیلان عطشا وأفضى مسلم إلىالماء فأقام به وهذا الموضع (۶) یعرف بالمضیق من بطن الخبت (۷).
 وکتب الى الحسین (علیه السلام) مع رسول استأجره من أهل هذا الموضع یعرفه خبر الدلیلین وأنه ینتظر أمره.
 وهنا نستفید منزله عالیه لمسلم فی التقوى والورع فی أمر الدین وأنه لا یتخطى رأی حجه الوقت فی حله ومرتحله وإنما کتب الى إمامه بهذه الحادثه لأنه احتمل أن یکون هذا الحادث یغیر رأی الإمام فتوقف عن المسیر لیرى ما عنده ویکون على بصیره فی إنفاذ أمره.
 ولما قرأ السبط الشهید کتاب مسلم أمره بالمسیر الى مقصده تعریفا بأن هذه الأحوال لا تغیر ما عزم علیه من إجابه طلب الکوفیین وقد ملاؤ الأجواء هتافا بأنهم لا إمام لهم غیره ینتظرونه لیقیم ودهم فلو لم یجبهم تکون لهم الحجه علیه یوم نصب الموازین والإمام المنصوب من قبل الله تعالى لا یعمل عملا یسبب اللوم علیه.
____________
 5) استنبطنا ذلک مما یحمله مسلم من القدسیه التی تمنعه من ترک الأولى فضلا عما یراد من الدین بل ما تقتضیه الإنسانیه.
 6) الأخبار الطوال ص۲۳۲٫
 7) فی الطبری ج۶ ص۱۹۸ ، وابن الأثیر ج۴ ص۹ الخبیت بالخاء المعجمه والباء الموحده ثم المثناه من تحت وبعدها المثناه من فوق ، وفی إرشاد الشیخ المفید الخبت بالخاء المعجمه ثم الباء الموحده وبعدها تاء مثناه من فوق ، وفی نص الأخبار الطوال ص ۲۳۲ الحربث بالحاء والراء المهملتین ثم الباء الموحده وبعدها ثاء مثلثه وهو غیر مراد قطعا لأن الحربث کما فی تاج العروس ومعجم البلدان نبت طیب ، وأما ما فی الإرشاد فیمکن إرادته لأنه فی تاج العروس ج۱ ص۶۱۴ ذکر من معانیه المتسع من الأرض والوادی العمیق الوطیء ینبت العضاه وقریه لزبید فی البر مشهوره وماء لکلب کما أن الأول یمکن ارادته لأن الخبیت کما فی معجم البلدان والمعجم مما استعجم للبکری ماء لبنی عبس وأشجع یقع فی العالیه وهی الحجار وفی المستعجم أنه موضع على بریدین من المدینه.
مسلم لا یتطیر
تمهید :  جاء النبی (صلى الله علیه وآله) حاملا لواء الدعوه الآلهیه ، وفیها بث روح النشاط فی معتنقیها الى کل معروف من راجح فی الشریعه ، أو مباح تداولته العقلاء فی التوصل الى مقاصدهم لئلا یربکهم العطل ، فیتقهقروا عن الرقیّ ، ویعوزهم الحصول على الثروه ، ویضیق نطاق المملکه عن التوسع ، ویعروا ملکهم عن الأبهه ، ویقصروا عن نیل الغایات یستنتج ذلک من الأحادیث النبویه ، وکلمات الأئمه ، من خلفائه الوارده فی الحث على التجاره والزراعه والصدقه ونحوها وإلیک یسرا منها لتعرف الغایه المرموقه للشریعه المطهره.
 فیقول رسول الله (صلى الله علیه وآله) : « تسعه أعشار الرزق فی التجاره والجزء الباقی فی الغنم ، وان من بات لیلته کالا من طلب الحلال بات مغفورا له »
وقال أمیر المؤمنین (علیه السلام) : « تعرّضوا للتجاره فان فیها غنى لکم عما فی أیدی الناس وان الله یحب المحترف الأمین ، فهذا داود (علیه السلام) أوحى الیه الله تعالى : انک نعم العبد إلا انک تأکل من بیت المال ولا تعمل بیدک ، فبکى داود (علیه السلام) أربعین صباحا حتى أوحى الله تعالى الیه أنی ألنت لک الحدید فاعمل منه ، فکان یعمل بیده کل یوم درعا یبیعه بالف درهم فعمل ثلثمائه وستین درعا باعها بثلثمائه وسبین ألفا واستغنى بها عن بیت المال. »
ورأى محمد بن المکندر أبا جعفر الباقر (علیه السلام) خارجا إلى بعض نواحی المدینه فی وقت حار وهو یتصبب عرقا فقال له : إنک من أشیاخ المدینه تخرج على مثل هذا الحال لطلب الدنیا أرأیت لو جاءک أجلک وأنت على هذا الحال ؟ ، فقال (علیه السلام) : « إنی لا أخاف أن یجیئنی أجلی على هذا الحال وأنا فی طاعه الله أکف بها لنفسی وعیالی عنک وعن الناس ، وإنما کنت أخاف لو جاءنی الموت وأنا على معصیه من معاصی الله. »
ورأى ابو عبدالله الصادق (علیه السلام) المعلى بن خنیس متأخرا عن السوق فقال له : « اغدو الى عزک فإن رسول الله قال : ملعون ملعون من ألقى کله على الناس. »
 وقال ابو الحسن موسى (علیه السلام) : « من طلب الرزق من حله لیعود به على نفسه وعیاله کان کالمجاهد فی سبیل الله (۱) ».
وقالو (علیهم السلام) فی الصدقه : « إنها تذهب نحس ذلک الیوم وان الله یدفع بالبکور شر ما ینزل من السماء الى الأرض فی ذلک الیوم وان ید المعطی أحد الأیدی الثلاثه التی یقول فیها رسول الله (صلى الله علیه وآله) : ید الله العلیا ، وید المعطی تلیها ، وید السائل السفلى فاعط الفضل ولا تعجز نفسک (۲) ».
____________
 1) هذه الأحادیث ذکرها الحر العاملی فی الوسائل ج۲ ص۵۲۷ و۵۲۹ و۵۳۱ طبع عین الدوله.
 2) النصوص ۴۷٫
وفی الزراعه یقول الصادق (علیه السلام) :
« والله ما عمل أحد عملا أحل ولا أطیب من الزراعه والغرس فإن الزراعه الکیمیاء الأکبر ولقد جعل الله أرزاق أنبیائه فی الزراعه والضرع إلا ادریس کان خیاطا وأمر سبحانه وتعالى آدم  (علیه السلام) أن یحرث بیده لیأکل من کدّه (۳) ».
وهذه آثار کافیه فی التعریف بما علیه الشریعه من الحث المتأکد للدؤوب على الأعمال والنشاط فی أمر الدنیا للعون على الآخره والتکفف عما فی أیدی الناس وکفایه ما أهمهم من أمر العیال وأن التوانی عن العمل مبغوض للشارع المقدس لاستلزامه محاذیر لا تتفق مع ما یراد من البشر فی التوجه نحو الخالق جل شأنه القابض على أزمّه القضاء والقدر وأن الواقف على مباحث علمی الأخلاق والفقه یجد الکثیر من الشواهد على هذه الدعوى ومنها منفیات جاءت بها المله الحنیفیه اکتسحت ما تداوله الجاهلیون مما یضرب على ید النشیط ویوقف سیر البشر عن بلوغ الغایات.
 کالتأثیر بمجاری النّجوم وسعود الأیام ونحوسها وإن کنا لا ننکر أن المشیئه الإلهیه جعلت للأوقات الخاصه والآیات الکونیه کالکسوف والخسوف والزلزله وظهور المذنبات وتغییر الهواء دخلا فی نزول البلاء الذی قدره والخیر الذی أمضاه لکن لاعلى نحو العله التامه کعلیه النار للإحراق بحیث لا یمکن التخلف عند حدوثها ، وإنما تلک الحوادث من المقتضیات التی یرتفع أثرها ببعض الأسباب المقارنه لها.
 ومن هنا نرى المشرع الأعظم (صلى الله علیه وآله) أمر أمته بالفزع الى الله تعالى بالصلاه والدعاء والاستغفار ونحوها مما فیه الزلفى للمهیمن جل شأنه عند حدوث الأشیاء المخیفه ولا مانع عقلا من أن یودع المولى سبحانه وتعالى فی مجاری الکواکب والأوقات الخاصه جهه اقتضاء لنزول بائه ، ویجعل بمقتضى لطفه وحنانه وکرمه على عباده أسبابا آخر تسلب آثر تلک المقتضیات إن وقعت مقارنه لها.
 وقد جاءت الشریعه بکثیر من هذه الأسباب الرافعه لتأثیر المقتضیات کصله الأرحام الموجبه لنمو العدد من العمر والمال والولد وکالصدقه والتوکل على الله والإستغفار المذهب لنحس الیوم وشر ما ینزل من السماء.
 ومن هذا الباب ما جاء : أن الرؤیا على ما عبّرت ولا تقصوها إلا على من یعقل (۴) ولا یحدث بها إلا حبیب أو لبیب (۵) فالحبیب یردعه حبه عن أن یسیء الى حبیبه بالتعبیر السیء واللبیب یردعه اللب والعقل عن اساءه أخیه فی الدین ، والغایه منه رفع المساءه عن النفوس الباعثه على التأخر فی العمل وتولید روح الإقدام فیها بکسح العرقله أمام مسعاه.
____________
 3) المصدر ص۶۴۹٫
 4) البحار ج۱۴ ص۴۳۶٫
 5) المجازات النبویه للشریف الرضی ص۲۵۱ مصر.
ولیس الغرض أن تعبیر الرؤیا بالحسن مما یغیر القدر الجاری بل القضاء یکون على مجراه حتى مع حسن التعبیر إذ لیس فی نفس الرؤیا دلیل قطعیّ على دفع القدر المحتوم فیما اذا کان التعبیر حسنا بل الغایه أن الانسان مع حسن التعبیر لا یتأخر عن العمل بخلاف التعبیر السیّء فانه یوجب الفتور والتأخر عن الحرکه وربما یؤدی الى الشرک.
 ومما اکدت الشرعیه نفیه « الطیره » فانها اکتسحت ببیانها الاوفى ما اعتاده الجاهلیون مما یردع العامل عن قصده ولا یتاح له الحصول على غایاته وأوضحت مضار هاتیک العرقله أمام مسیر الأمه . فالمسلم المستنیر بالتعالیم الربوبیه لا یکترث بالأقرن والأعضب والبارح (۶).
 والى هذه التافهات من عادات الجاهلیه یشیر الکمیت الأسدی بقوله :
ولا أنا ممن یزجر الطیر همه * أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشیه * أمر سلیم القرن أم مر أعضب
وهذه العقیده الراسخه فی نفسه استفادها من تعالیم أئمته من آل الرسول (علیهم السلام) الدعاه الى شرع جدهم الذی لم یزل یهتف غیر مره بأن الطیره مرفوعه عن هذه الأمه (۷) وأنها من الشرک وما منا من یتطیر (۸) ومن استقسم أو تکهن أو تطیر طیره ترده عن سفره لم ینظر الى الدرجات العلى یوم القیامه (۹) وأن من أرجعته الطیره من حاجه فقد أشرک (۱۰) فاذا تطیرت فامض (۱۱).
____________
 6) فی تاج العروس ج۲ ص۱۲۳ : البارح ما مر من الطیر من یمینک الى یسارک ، والسانح عکسه ، والأول یتطیر منه دون الثانی ، وفیه ج۱ ص۳۸۷ : الأعضب مکسور القرن والأقرن صحیحه.
 7) الخصال للصدوق فی باب التسعه.
 8) نهایه ابن الأثیر ج۳ ص۵۸ ، وشرح النهج الحدیدیّ ج۴ ص۴۳۰٫
 9) محاضرات الراغب ج۱ ص۶۷٫
 10) مفتاح دار السعاده ج۲ ص۲۷۴٫
 11) محاضرات الراغب ج۱ ص۶۸٫
 وکتب بعض البغدادیین الى أبی الحسن (علیه السلام) یسأله عن الخروج یوم الأربعاء ، فقال : « من خرج یوم الأربعاء خلافا على أهل الطیره وقی من کل آفه وقضى الله حاجته » (12).
ولما سمعت أم کلثوم أباها أمیر المؤمنین یقول : « صوائح تتبعها نوائح » قالت : یا أبه تتطیر ؟ قال (علیه السلام) : « یا بنیه ما منا أهل البیت من یتطیر ولا یتطیر به ولکن قول جرى على لسانی (۱۳). »
ولم یحک الله التطیر إلا عن أعداء الرسل المالئین عن صراط الشریعه المنحرفین عن التعالیم المقدسه فانهم قالوا لرُسلهم : « إنا تطیرنا بکم لئن تنتهوا لنرجمنکم ولیمسنکم منا عذاب ألیم * قالوا طائرکم معکم أئن ذکرتم بل أنتم قوم مسرفون » وفی الحکایه عن قوم صالح : « قالوا اطیرنا بک وبمن معک قال طائرکم عند الله » ، وفی الحکایه عن قوم فرعون : «فاذا جاءتهم الحسنه قالوا لنا هذه وإن تصبهم سیئه یطیروا بموسى ومن معه ألا انما طائرهم عند الله » ، وفی الحکایه عن أعداء رسول الله : « وإن تصبهم حسنه یقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سیئه یقولوا هذه من عندک قل کل من عند الله ».
 فالطائر سواء فسر بالبلاء المنزل علیهم أو العمل المسبب لنزول البلاء تکون نسبته الى الله تعالى باعتبار أنه المجازی لهم على أعمالهم القبیحه ، ونسبته الیهم باعتبار تسبیبهم لنزول البلاء بالجحود والطغیان على المولى الحکیم جل شأنه وتکذیب الرسل بما جاوأ به من عند ربهم وأنذروا أممهم الذی هو سبب لتقدیر قضاء الله وحلول بلائه ونقمته.
 وعلى کل حال فالشریعه المطهره ردعت عن کل ما یعرقل البشر عن الفوز والنجاح والمضی فی الأعمال وبلوع الغایات ، وان التطیر بتلک الأمور المعروفه عند العرب فمع اعتقاد أن لها التأثیر فی الخیر والشر فهو شرک کما فی الحدیث ، ومع عدم الإعتقاد بها فمن الخطأ الواضح التأخیر عن الأعمال عند عروضها وان أشد الناس خوفا وأضیقهم صدرا وأحزنهم قلبا کثیر الإحتراز لما لا یضره ولا ینفعه ، وکم شخص حرم بذلک نفسه من الرزق بتأخره عن الأعمال لمجرد سماع أو رؤیه ما یسوؤه.
 ____________
 12) من لایحضره الفقیه للصدوق ص۱۶۸٫
 13) المستدرک للنوری ج۲ ص۲۷٫
وقد أوضح النبی (صلى الله علیه وآله) لامتّه فساد الطّیره لیعلموا أن الله تعالى لم یجعلها سببا لما یخافونه لتطمئن قلوبهم وتسکن نفوسهم الى وحدانیه الباری عز شأنه فیترسلون فی أعمالهم ولا یحذرون من وخامه العاقبه فلا ینبغی للانسان التوقف فی أعماله متکلا على هذه الأمور التی لا یقام لها وزن فی جنب الإراده الإلهیه.
 ثم من لطف الشارع بالأمه جعل لهم أسبابا یکون قیامهم بها منجاه من وخامه ما یتطیرون منه فأرشدهم إلى أن التوکل علىالله یذهب ما یخاف من الطیره (۱۴)، والصدقه تدفع الأضرار الموهومه (۱۵)، والدعاء عند السفر منجاه من الشر کما قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) عند خروجه إلى النهروان: « اللهم لا طیر إلا طیرک ، ولا ضیر الا ضیرک ، ولا خیر إلا خیرک ، ولا إله غیرک (۱۶) ».
أو کما قال موسى بن جعفر (علیه السلام) : « اعتصمت بک یا رب من شر ما أجد فی نفسی فاعصمنی من ذلک (۱۷) ».
___________
 14) الوسائل ج۲ ص۱۸۰ عین الدوله.
 15) المصدر ص۱۸۲٫
 16) أمالی الصدوق.
 17) من لا یحضره الفقیه ص۱۶۸ ، وشرح النهج الحدیدی ج۴ ص۴۳۱٫
وکما صدر من الشارع نفی الطیره أخبر عن حسن الفأل بالأسماء الحسنه ، والسر فیه أن التفأل یوجب النشاط فی العمل والمضی فی المقصد وهو الذی یریده المولى سبحانه من العباد.
 فالتطیّر بما أنه تشاؤم من المرئی أو المسموع یکون قاطعا للعبد عن مقام « إیاک نستعین » وفاتحا على نفسه باب الخوف بغیر الله ومن هنا أطلق علیه الشرک وتبرّأ منه النبی وأهل بیته فقالوا : « ما منا من یتطیر. »
 وأما الفأل فیحث أنه من الأشیاء الساره للقلوب المؤیده للآمال ، الفاتحه باب الرجاء المسکنه للخوف ، الرابطه للجأش الباعثه على الإستعانه بالله والتوکل علیه ، المفضیه بصاحبها الىالطاعه والتوحید حرّض علیه النبی وأحبه فقال (صلى الله علیه وآله) : « لا طیره وخیرها الفأل ».
وفی لفظ آخر : « ویعجبنی الفأل الصالح (۱۸) » .
وفی حدیث بریده : « کان النبی لا یتطیر وإنما یحب الفأل (۱۹) استقبلته فی سبعین من أسلم فقال لی : ما اسمک ؟ قلت : بریده ، فسر وجهه وقال: برد أمرنا وصلح ، وممن؟ قلت: من أسلم، قال: سلمنا ، ثم ممن ؟ قلت : من بنی سهم ، قال : خرج سهمنا (۲۰) ».
ولیس فی حدیث اللقحه التی أمر بحلبها فقام رجلان لیحلباها وکان اسم أحدهما مُره والآخر حرب فأمرهما بالجلوس حتى اذا قام ثالث اسمه یعیش أمره بالحلب (۲۱) ، ما یشهد للتطیر فإنه من المحال على النبی أن ینهى عن شیء ثم یرتکبه وإنما صدر منه هذا تأکیدا لما نهى عنه من التسمیه بمثل حرب ومره وجمره وأمثالها فأتبع قوله الفعل تعلیما للمسلمین بالمضی على أمره مطمئنین غیر هیابین.
 ومما یؤکده ما فی بعض الأحادیث من زیاده قول عمر : أتکلم یا رسول الله أم أصمت ؟ فقال (صلى الله علیه وآله) : بل أصمت وأنا أخبرک بما أردت ظننت یا عمر أنها طیره ؟ ولیس بذلک فإنه لا طیره إلا طیره ولا خیر إلا خیره ولکن أحب الفأل الحسن (۲۲).
والنکته فی نهی النبی عن التسمیه بالأسماء القبیحه حتى غیر بعض الأسماء الى ما هو أحسن کتغییر الحباب بن المنذر الى عبدالرحمن ، وشهاب الى هشام ، وحرب الى سلم ، وأبی مره الى أبی حلوه ، وبنی مغویه الى بنی مرشده (۲۳) ، هو إرشاد الأمه الى أن البقاء على مذاهب سلفهم من التسمیه بتلک الأسماء ربما یؤدی الى حزن بعضهم من بعض عند المصاحبه والملاقات لکون الطیره من الغرائز الکامنه فی النفوس فقد یعبر الإنسان تعبیر السوء من اشتقاق الاسم فیفارق صدیقه وأخاه فی السفر والمعاملات والشرکات فتنحل عرى الإجتماع وتفکک الوحده والتضامن ، فکان من لطف الشارع على الأمه ورأفته بهم أن عرفهم بأن لایقیموا على حال یتنفر منها لغیر عذر ولا فائده تعود فی الدین والدنیا فإنه جاء حاملا لواء الوحده والإجتماع والتراحم وادخال المسرات على المؤمنین.
____________
 18) البخاری ج۴ ص۱۴ ومسلم ج۲ ص۲۶۰٫
 19) مسند أحمد ج۵ ص۳۴۷٫
 20) الاستیعاب بترجمه بریده.
 21) موطأ مالک ج۳ ص۱۴۰ مصر.
 22) مفتاح دار السعاده ج۲ ص۲۶۲٫
 23) المصدر.
ولذا کان یأمر بالغسل والطیب یوم الجمعه ویمنع آکل الثوم من ادخال المسجد لما فیه من الإستکراء الموجب للتنفر والفرقه الرافعه للحنان والعطف.
 وأما عدوله (صلى الله علیه وآله) عن الجبلین فی طریقه الى « بدر » وکان أهل أحدهما بنو النار والآخر بنو محرق فلیس للتطیر لأنه کان على حال أحوج فیها الى الاجتماع والتضامن من التفرق وغرائز الناس على حالها من الإنقباض عن الأسماء القبیحه فأراد النبی (صلى الله علیه وآله) مماشاتهم فی هذا الحال کی لا یتفرق جیشه تطیرا من اسم الجبلین وأهلهما.
 هذا على فرض صحهالحدیث وإلا فالمجال واسع فی حساب أولئک الرجال من حیث الإعتماد على مرویاتهم.
 وسؤال الحسین (علیه السلام) عن اسم الأرض ولما أخبر بأنها کربلاء قال : « کرب وبلاء » لم یکن من التطیر فی شیء فإن المتطیر لم یعلم ما یرد علیه وإنما یستکشف ذلک من تلک الأشیاء المعروفه عند العرب إنها سبب لورود الشر ، وسید الشهداء کان على یقین مما ینزل به فی أرض الطف من قضاء الله تعالى فهو عالم بالکرب الذی یحل به وبأهل بیته.
 کما أنه (علیه السلام) لم یکن جاهلا باسم الأرض ، کیف والامام عندنا معاشر الإمامیه عالم بما یجری فی الکون من حوادث وملاحم ، ویعرف ما أودع الله فی الأشیاء من أسرار ومزایا إقدارا من مبدع السموات والأرضین ـ جلت عظمته ـ فإنه سبحانه أودع فی الأئمه الطاهرین قوه قدسیه نوریه بواسطتها کانوا یتمکنون من استکشاف الأشیاء ، ویقفون على أنساب الناس ، وما تکنّه الصدور ، وما یدّخرون ، ویعرفون لغات الحیوانات ، واذا جاز فی سلیمان (علیه السلام) أن یعرف منطق الطیر کما قال تعالى : « وعلّمنا منطق الطیر » ففیمن تکوّن من نور النبی الذی هو أکمل الکائنات أولى وأجدر ، وهذه القوه عبّر عنها فی الآثار بعمود نور یرفع للإمام (علیه السلام) عند الولاده یرى به أعمال العباد وما کان ویکون.
 فسؤال الحسین (علیه السلام) عن اسم الأرض التی منعوا من اجتیازها (۲۴) أو أن الله أوقف الجواد فلم ینبعث (۲۵) کما أوقف ناقه النبی (صلى الله علیه وآله) عند الحدیبیه فلم تنبعث حتى هبط جبرئیل یأمره بالنزول فی هذا الموضع والصلح مع قریش (۲۶) ، لأجل أن یعترف أصحابه بتلک الأرض التی هی محل التضحیه الموعودین بها باخبار النبی والوصی ـ صلى الله علیهما وآلهما ـ لتطمئن القلوب وتمتاز الرجال وتثبت العزائم وتصدق المفادات.
 وهذا باب من الأسئله معروف عند علماء البلاغه یعرف بتجاهل العارف أو سوق المعلوم مساق المجهول ، واذا کان فاطر الأشیاء الذی لا یعادر علمه صغیرا ولا کبیرا یقول لموسى (علیه السلام) : « وما تلک بیمینک یا موسى » ، ویقول سبحانه لعیسى (علیه السلام) : « أأنت قلت للناس اتخذونی وامی الهین » لضرب من المصلحه ، فالإمام المنصوب من قبله أمینا على شرعه ودلیلا لعباده لا تخفى علیه المصالح.
 وهذا کسؤال النبی عن اسم الجبلین واسم الرجلین اللذین قاما للب اللقحه ، ألم یکن النبی الأعظم المتکون من النور الأقدس عالما بذلک ؟ وإنما النکته ما أشرنا إلیها .
 لقد ورد عن الشارع أحادیث ربما یستظهر منها غیر المتأمل فی أسرارهم إثبات الطیره مثل ما ورد : أن رسول الله (صلى الله علیه وآله) قال : « لا عدوى ولا طیره وإنما الشؤم فی ثلاثه : المرأه والفرس والدار (۲۷) ».
____________
 24) کامل ابن الأثیر ج۴ ص۲۱٫
 25) المنتخب للشیخ الجلیل الطریحی.
 26) ابن الأثیر ج۲ ص۷۶٫
 27) صحیح مسلم ج۲ ص۲۶۱٫
وهذا فی الحقیقه إخبار عما تعلقت به إراده المولى جل شأنه بعدم السعاده فی هذه الأشیاء لمن اقترن بها ، وصاحبها نظیر خلق المسک وغیره من الأرواح الطیبه فبعض الأشخاص یتلذذ بها ، وبعض یلحقه الضرر منها کما أودع تعالى شأنه فی بعض الأحجار خواص من خیر أو شر تلحق من یحملها.
 ومن هذا القبیل المرأه والفرس والدار ، فإن الله تعالى قضى بسعاده من قارنها کما قضى بنحوسه جریا لناموس المصالح والمفاسد فی الأشیاء ، فأین هذا الطیره التی یحکم فیها بنحوس الشیء وإن لم یجعله الله کذلک.
 والنبی (صلى الله علیه وآله) حیث لم یسعه المصارحه بهذه الأسرار لبعد العقول عنها أجمل البیان ثم نصب قرینه على المراد باقتران هذه الثلاثه بنفی الطیره فی کلام واحد وإلا فلا یعقل منه (صلى الله علیه وآله) أن ینفی الطیره ثم یفرضها فی کلام واحد فیقول : لا طیره وإنما الشؤم فی ثلاثه ـ الخ.
 على أنه ورد فی أحادیث آل الرسول (علیهم السلام) ما یفسر ذلک الشؤم المخبر عنه ؛ ففی حدیث الصادق (علیه السلام) : « شؤم المرأه کثره مهرها ، وعقوق زوجها ، وأما الدابه فمنعها ظهرها وجماحها ، وأما الدار فضیق ساحتها وشر جیرانها وکثره عیوبها ، ومن برکه المرأه خفه مؤنتها ویسر ولادتها (۲۸) »
وفی وصیه النبی (صلى الله علیه وآله) لأمیر المؤمنین : (علیه السلام) : « العیش فی ثلاثه : دار قوراء وجاریه حسناء وفرس قباء » (29).
ونفی العدوى فی هذا الحدیث لا ینافی ما ورد أن الرجل یصیب إبله الجرب فیوردها على إبل صحیحه ، فقال النبی (صلى الله علیه وآله) : « لا توردن ذا عاهه على مصح ».
____________
 28) معانی الأخبار للصدوق ص۴۹٫
 29) الخصال الصدوق ج۱ ص۶۲٫
فإن الغرض من النهی التحرز عن إیذاء المؤمن بادخال الإبل الجرب على الصحیحه لاعتقاده أن ذلک مؤثر فی العدوى فیتسبب منه التنفر من هذا الفاعل ، والمذمه له وقد جاءت الشریعه بالتعاضد والالفه بین المسلمین . فقوله : « لا توردن ذا عاهه » لیس العدوى اذ قد یکون فی الحیوان الوارد علیه المریض مناعه تضاد میکروب الجرب فلا یصاب بذلک الداء ، ومن هنا قال الشریف المرتضى : إنا نجد کثیرا ممن یخالط الجربى فلا یجرب ویخالط الصحیح ذا عاهه فلا یصیبه من دائه شیء فنهی النبی لم یکن للملازمه الواقعیه فی التأثیر .
 کما أن أمره (صلى الله علیه وآله) بالفرار عن المجذوم فی قوله : « فر من المجذوم فرارک من الأسد » (30) لا دلاله فیه على العدوى بحیث تکون مقاربه المجذوم عله تامه للتأثر لإمکان وجود المناعه الرافعه للإنفعال ، بل الغرض من الأمر بالفرار الإیعاز الى استقذاره ، ونتن ریحه ، والتنفر منه وربما یسبب ذلک تعبیره والإزدراء علیه ، فینکسر ذلک المبتلی بقضاء اله ، والمولى الحکیم لا یرید من العباد إلا التراحم والعطف فیما بینهم.
 وامتناع النبی من إدخال المجذوم علیه للبیعه (۳۱) لا دلاله فیه على العدوى وإلا فقد ورد الحدیث أنه أخذ بید مجذوم ووضعها فی القصعه وقال : « کل ثقه بالله و توکلا علیه » (32).
 کما أن السجاد (علیه السلام) السائر على ضوء جده وأبیه لم یمتنع من الأکل مع المجذومین ؛ ففی الحدیث أنه (علیه السلام) مر على مجذومین یأکلون فدعوه الى الأکل معهم فقال علیه السلام : « لولا إنی صائم لفعلت » فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع ثم دعاهم فأکلوا وأکل معهم (۳۳).
 فلو کانت مقاربه المجذومین عله تامه للعدوى لما فعل الإمام (علیه السلام) ولکنه بیّن للواقفین على فعله معهم ممن حضر ومن الأجیال المتتابعه أن الإتصال بذوی العاهات قد لا یؤثر فی انفعال الأجسام الصحیحه لوجود القوه المانعه منه أو للتوکل على الله والثقه بأنه سبحانه مورد البلاء حسب المقتضیات.
____________
 30) امالی السید المرتضى ج۴ ص۱۱۱ ، ومختلف الحدیث لابن قتیبه ص۱۲۳ ، وسفینه البحار ج۱ ص۱۴۸ عن أمالی الصدوق ، والهیئه والإسلام للشهرستانی ج۱ ص۲۷ بغداد ، وصحیح البخاری ج۴ ص۸ کتاب الطب ، ومفتاح دار السعاده ج۲ ص۲۸۷٫
 31) مختلف الحدیث ص۱۲۳٫
 32) مفتاح دار السعاده ج۲ ص۲۸۷٫
 33) البحار للمجلسی ج۱۱ ص۱۱۷ عن الکافی.

Leave A Reply

Your email address will not be published.