الخصائص العباسیه
فی أنّه (علیه السّلام) الحامی والمحامی
یُقال : حامیت عنه محاماهً ، أی منعته من العدوّ ، ودافعت عنه ، فالحامی والمحامی هو الذی یمنع الإنسان من عدوّه ویدافع عنه ، وأبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) کان خیر حامٍ ومحامٍ لأخیه الإمام الحسین (علیه السّلام) , حتّى إنّه جاء فی زیاره أبی الفضل العبّاس (علیه السّلام) المأثوره عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أجمل الثناء على أبی الفضل العبّاس (علیه السّلام) ، وأفضل المدح والدعاء له ؛ لحمایته عن أخیه الإمام الحسین (علیه السّلام) ونصرته له ؛ وذلک حیث یقول (علیه السّلام) : (( فنعم الصابر المجاهد ، المحامی الناصر ، والأخ الدافع عن أخیه )) .
وقال السیّد جعفر الحلّی عن لسان الإمام الحسین (علیه السّلام) ، وهو یندب أخاه أبا الفضل العبّاس (علیه السّلام) لمّا وقف على مصرعه :
أاُخـیَّ مَـنْ یحمی بناتَ محمدٍ إنْ صرنَ یسترحمنَ مَنْ لا یرحمُ
ما خلتُ بعدکَ أن تُشلَّ سواعدی وتکفّ باصرتی وظهریَ یُقصمُ
وقال آخر :
أوَلستَ تسمعُ ما تقولُ سکینهٌ عمّاه یوم الأسرِ مَنْ یحمینی
إذاً فالعباس (علیه السّلام) هو مَنْ شهد له الإمام الصادق (علیه السّلام) والتاریخ ، وأقرّ له الشعراء والأدباء بالحمایه عن أخیه الإمام الحسین (علیه السّلام) ، والدفاع عنه .
الصفحه (۲۳۲)
ولا بأس بأن نذکر هنا بعض تلک المواقف التی بدت فیها حمایه أبی الفضل العبّاس (علیه السّلام) ، ومحاماته عن أخیه الإمام الحسین (علیه السّلام) جلیّه واضحه .
العبّاس (علیه السّلام) علی باب الولید
لقد کان أبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) بمواقفه المحموده ، وسیرته الطیّبه قد احتلّ لنفسه فی قلب أخیه الإمام الحسین (علیه السّلام) مکاناً مرموقاً ، ومنزله رفیعه ، بحیث صار مورد اعتماده ، ومحلّ ثقته ، ومَنْ یعوّل علیه ، ویطمئنّ إلى نجدته وحمایته .
حتّى إنّه لمّا مات معاویه وکتب یزید إلى والی المدینه الولید بن عتبه بن أبی سفیان بأن یأخذ الإمام الحسین (علیه السّلام) بالبیعه له ، وإن أبى ضرب عنقه ، وأرسل برأسه إلیه ، أنفذ الولید إلى الإمام الحسین (علیه السّلام) فی اللیل واستدعاه ، فعرف الإمام الحسین (علیه السّلام) ما یرید ، فدعا ثلاثین رجلاً من أهل بتیه وموالیه ـ ولا شک أنّه کان على رأسهم أخوه الوفی أبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) ـ وأمرهم بحمل السلاح ، وقال لهم : (( إنّ الولید قد استدعانی فی هذا الوقت ، ولست آمن من أن یکلّفنی فیه أمراً لا أُجیب إلیه ، وهو غیر مأمون ، فکونوا معی ، فإذا دخلت إلیه فاجلسوا على الباب ، فإن سمعتم صوتی قد علا فادخلوا علیه لتمنعوه عنّی )) .
وکان کما قال (علیه السّلام) ، فإنّ الولید دعاه إلى بیعه یزید فامتنع الإمام الحسین (علیه السّلام) من ذلک ، وقال : (( إنّا أهل بیت النبوّه ، ومعدن الرساله ، ومختلف الملائکه ، بنا فتح الله وبنا یختم ، ویزید رجل شارب الخمور ، وقاتل النفس المحرّمه ، ومعلن بالفسق ، ومثلی لا یبایع مثله ، ولکن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أیّنا أحق بالخلافه )) .
وکان مروان حاضراً ، فأشار على الولید بحبس الإمام الحسین (علیه السّلام) حتّى
الصفحه (۲۳۳)
یبایع أو یضرب عنقه ، وأغلظ الولید فی کلامه له (علیه السّلام) ، فعلا صوت الإمام الحسین (علیه السّلام) مع مروان والولید ، فهجم على الولید قصره کلّ مَنْ کان مع الإمام الحسین (علیه السّلام) بالباب ، وقد شهروا أسلحتهم ، وأحاطوا بالإمام الحسین (علیه السّلام) یحمونه ، ویحامون عنه ، وأخرجوه إلى منزله .
ومن المعلوم أنّ الأخ الحامی ، والصنو المحامی ، أعنی أبا الفضل العبّاس کان بلا شک هو قائد هؤلاء الثلاثین الذین دخلوا على الولید لحمایه الإمام الحسین (علیه السّلام) والدفاع عنه .
موقف العبّاس (علیه السّلام) لیله عاشوراء
ثمّ إنّ الإمام الحسین (علیه السّلام) لمّا جمع أصحابه وأهل بیته لیله العاشر من المحرّم ، وخطب فیهم خطبه أخبرهم فیها بأنّ القوم لا یطلبون سواه ، وإنّهم لو أصابوه لذهلوا عن غیره أذِنَ لهم بالانصراف عنه ، قائلاً : (( ألا وإنّی أظنّ یومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، وإنّی قد أذِنْت لکم فانطلقوا جمیعاً فی حلٍّ ، لیس علیکم منّی ذمام ، وهذا اللیل قد غشیکم فاتّخذوه جملاً ، ولیأخذ کلّ رجلٍ منکم بید رجلٍ من أهل بیتی ، وجزاکم الله جمیعاً خیراً ، وتفرّقوا فی سوادکم ومدائنکم )) .
فکان أوّل مَنْ قام وأجاب وبدأ القوم بالکلام هو أخوه أبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) ؛ فإنّه أجاب جواب الحامی الوفی ، والمحامی الناقد البصیر ، جواباً فتح على الآخرین کیف یجیبون إمامهم الإمام الحسین (علیه السّلام) ؛ حتّى یرضى الله عنهم ورسوله ، وعرّفهم کیف یقفون من إمامهم الإمام الحسین (علیه السّلام) موقف النصح والوفاء ، والنُبل والشرف ؛ لینالوا عزّ الدنیا وکرامه الآخره .
إنّه قام فقال : لِمَ نفعل ذلک ! لنبقى بعدک ؟! لا أرانا الله ذلک الیوم .
وقام الآخرون وقالوا ما یشبه هذا الکلام ، فأجابهم الإمام الحسین (علیه السّلام) ، وهو
الصفحه (۲۳۴)
یشکرهم على معرفتهم وشعورهم الطیّب ، ویثنی على إیمانهم وإخلاصهم البالغ بقوله : (( إنّی لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خیراً من أصحابی ، ولا أهل بیت أبرّ ولا أوصل من أهل بیتی ، وجزاکم الله عنّی خیراً )) .
وأبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) هو أوّل مَنْ فاز بهذا الوسام وناله بکفاءه .
یوم عاشوراء وبطوله العبّاس (علیه السّلام)
نعم ، کان أبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) هو الحامی الکفوء ، والمحامی الشجاع ، والمدافع الجریء الذی کان یجاهد بثبات ، ویدافع بعزم وبصیره عن أخیه الإمام الحسین (علیه السّلام) ، وعن أهل بیته وأُسرته ، بل عن کلّ معسکر الإمام الحسین (علیه السّلام) ؛ إذ کان معسکر الإمام الحسین (علیه السّلام) آمناً بوجوده ، مطمئناً إلى قیادته وحمایته ، مفتخراً بنجدته وشهامته .
فقلد جاء فی تاریخ الطبری وغیره : أنّ أصحاب الإمام الحسین (علیه السّلام) بعد الحمله الأولى التی استشهد فیها خمسون منهم کان یخرج الاثنان والثلاثه والأربعه ، وکلّ یحمی الآخر من کید عدوّه ، فکان ممّن خرج الجابریان وقاتلا حتّى قُتلا ، والغفاریان فقاتلا معاً حتّى قُتلا ، والحرّ الریاحی ومعه زهیر بن القین یحمی ظهره ، فقاتلا ساعه ، وکان کلّما شدّ أحدهما واستلحم شدّ الآخر واستنقذه حتّى قُتل الحرّ .
وکان ممّن خرج أیضاً عمر بن خالد الصیداوی وسعد مولاه ، وجابر بن الحارث السلمانی ومجمع بن عبد الله العائذی ، فشدّوا جمیعاً على أهل الکوفه ، فلّما أوغلوا فیهم عطف علیهم الناس من کلّ جانب وقطعوهم عن أصحابهم ، فندب إلیهم الإمام الحسین (علیه السّلام) أخاه أبا الفضل العبّاس (علیه السّلام) فاستنقذهم بسیفه ، وقد جُرحوا بأجمعهم .
والشاهد هنا هو فی انتداب الإمام الحسین (علیه السّلام) أخیه أبی الفضل العبّاس (علیه السّلام) لهذه المهمّه الصعبه ، مهمّه استنقاذ
الصفحه (۲۳۵)
المنقطعین ، والأصعب منه هو قوّه أبی الفضل العبّاس (علیه السّلام) على إنقاذهم من بین تلک الجموع المتکدّسه والحشود الغفیره ؛ فإنّه (علیه السّلام) أنقذهم على ما بهم من جراح ، وأثبت بذلک حمایته لأخیه ولمَنْ کان مع أخیه .
العبّاس (علیه السّلام) واللقاء بین المعسکرین
ثمّ إنّه لمّا أراد الإمام الحسین (علیه السّلام) أن یلتقی بعمر بن سعد ویتمّ الحجّه علیه ، أرسل إلیه عمرو بن قرظه الأنصاری یطلب منه اللقاء به لیلاً بین المعسکرین ، ولمّا جنّ اللیل وحان وقت اللقاء خرج کلّ منهما فی عشرین فارساً حتّى إذا التقیا بین المعسکرین ، وکان هذا هو اللقاء الأوّل من نوعه ، أمر الإمام الحسین (علیه السّلام) مَنْ معه أن یتأخر إلاّ أخاه أبا الفضل العبّاس (علیه السّلام) وابنه علیّاً الأکبر (علیه السّلام) ، وفعل ابن سعد کذلک وبقی معه ابنه حفص وغلامه درید .
عندها التفت الإمام الحسین (علیه السّلام) ، وقد حفّ به أخوه الحامی له والمحامی عنه أبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) ، وابنه الکمی الوفی علی الأکبر (علیه السّلام) ، إلى ابن سعد وقال له : (( ویلک یا ابن سعد ! أما تتّقی الله الذی إلیه معادک ؟ أتقاتلنی وأنا ابنُ مَنْ علمت ؟! ذر هؤلاء القوم وکن معی ؛ فإنّه أقرب لک إلى الله تعالى )) .
فقال عمر بن سعد : أخاف أن تُهدم داری .
فقال الإمام الحسین (علیه السّلام) : (( أنا أبنیها لک )) .
فقال عمر : أخاف أن تُؤخذ ضیعتی .
فقال الإمام الحسین (علیه السّلام) : (( أنا أخلف علیک خیراً منها من مالی فی الحجاز )) .
وفی روایه أنّه (علیه السّلام) قال له : (( أُعطیک البغیبغه )) . علماً بأنّها کانت ضیعه عظیمه فیها عین تتدفق کعنق البعیر ، وبها نخل وزرع کثیر ، وقد دفع معاویه فیها ألف ألف
الصفحه (۲۳۶)
دینار ( أی ملیون مثقال ذهب ) لیشتریها فلم یبعها (علیه السّلام) منه .
وهنا عندما انقطعت أعذار ابن سعد أبدى فی جواب الإمام الحسین (علیه السّلام) مقاله أبانَ فیها عن نفاقه الباطن وکفره المکتوم ، مقاله تکشف عن سوء نیّته بالنسبه إلى نبیّه وآل نبیّه (صلوات الله علیهم) ، وتعبّر عن عدم غیرته على نبیّه ، وعلى أهل بیته وحرمه وعقائله ومخدراته .
مقاله تبدی رضاه بسبی آل الرسول (صلّى الله علیه وآله) وتخدیر إمائه هو ونسائه ، مع أنّ الله تعالى جعل الرسول (صلّى الله علیه وآله) وأهل بیته (علیهم السلام) أولى بالمؤمنین من أنفسهم ، وأمرهم بأن یموتوا دونهم ، وأن یحفظوهم بأنفسهم وأموالهم ، وأهلیهم وعشیرتهم .
لقد تجاهل ابن سعد کلّ أوامر الله تعالى بالنسبه إلى رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وأهل بیت رسول الله (صلّى الله علیه وآله) ، وهو لم یکن ممّن یجهلها ، وانبرى یقول بکلّ صلافه : إنّ لی بالکوفه عیالاً وأخاف علیهم .
وهنا لمّا رأى الإمام الحسین (علیه السّلام) شدّه جفاء ابن سعد ، وعظیم صلافته ، وتفضیل عیاله على عیال رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وعیالات أهل بیته (علیه السّلام) ، وهو ممّن یعلم بوجوب حقّه (علیه السّلام) وأهل بیته (علیهم السلام) علیه أیسَ منه ومن هدایته ، وانقطع رجاؤه من إنابته وأوبته إلى الحقّ ، فترکه وانصرف وهو یقول : (( ما لک ! ذبحک الله على فراشک عاجلاً ، ولا غفر لک یوم حشرک . فوالله ، إنّی لأرجو أن لا تأکل من بُرّ العراق إلاّ یسیراً )) .
فأجاب ابن سعد ، وقد شغف قلبه حبّ الدنیا ، وغطّى عقله وعود حکومه الری ، ولو کان بثمن قتل ابن بنت نبیّه (صلّى الله علیه وآله) ، وقال مستهزئاً : فی الشعیر کفایه عن البُرّ .
ولکنّ الاستهزاء بکلام المعصومین والناصحین ، وعدم الاکتراث بنصائحهم ومواعظهم لا یجرّ على الإنسان إلاّ الندم والحسره ، ولا یعود علیه إلاّ بالضلال والخسران المبین ، وکذلک کان مصیر ابن سعد ؛ فقد خسر الدنیا والآخره .
الصفحه (۲۳۷)
الرایه فی حمایه العبّاس (علیه السّلام)
ولمّا کان یوم عاشوراء وعبّأ الإمام الحسین (علیه السّلام) أصحابه للقتال ، أعطى الرایه أخاه أبا الفضل العبّاس (علیه السّلام) ، وخصّه بها من بین جمیع أهل بیته وأصحابه ، وإنّ هذا لیدلّ على جداره أبی الفضل العبّاس (علیه السّلام) بحمایه الرایه وحفظها ، وکفاءته فی القیام بهذه المهمّه ، مهمّه الدفاع والحمایه عن معسکر الإمام الحسین (علیه السّلام) ومحاماته لهم .
وبعد أن عبّأ الإمام الحسین (علیه السّلام) أصحابه ، وأعطى الرایه أخاه أبا الفضل العبّاس (علیه السّلام) ، دعا براحلته فرکبها ، ونادى بصوت عالٍ یسمعه جلّهم ، قائلاً : (( أیّها الناس ، اسمعوا قولی ولا تعجلوا حتّى أعظکم بما هو حقّ لکم علیَّ ، وحتّى اعتذر إلیکم من مقدمی علیکم ، فإن قبلتم عذری وصدّقتم قولی ، وأعطیتمونی النصف من أنفسکم کنتم بذلک أسعد ، ولم یکن لکم علیَّ سبیل .
وإن لم تقبلوا منّی العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسکم فاجمعوا أنفسکم وشرکائکم ، ثمّ لا یکن أمرکم علیکم غمّه ، ثمّ اقضوا إلیّ ولا تُنظرون ، إنّ ولیّی الله الذی نزّل الکتاب وهو یتولّى الصالحین )) .
فلمّا سمعن النساء هذا من الإمام الحسین (علیه السّلام) صحنَ وبکینَ ، وارتفعت أصواتهنَّ ، فأرسل الإمام الحسین (علیه السّلام) أخاه أبا الفضل العبّاس (علیه السّلام) ، وابنه علی الأکبر (علیه السّلام) ، وقال لهما : (( سکّتاهنَّ ، فلعمری لیکثر بکائهنَّ )) .
فأقبلا إلیهنَّ وسکّتاهنَّ ، ولمّا سکتنَ واصل الإمام خطبته فی الناس ، واستمر فی موعظته لهم .
وما کان انتخاب أبی الفضل العبّاس (علیه السّلام) لإسکات النسوه إلاّ لجداره أبی الفضل العبّاس (علیه السّلام) للقیام بهذه المهمّه ، ومکانته المرموقه عند النسوه ، وإیمانهنَّ بنجدته وحمایته ، ودفاعه وذبّه عنهنَّ ؛ ولذلک لما رأینه مقبلاً إلیهنَّ سکتنَ اطمیناناً
الصفحه (۲۳۸)
إلى وجوده ، ورکوناً إلى حمایته لهنَّ ومحاماته عنهنَّ ، فلمّا طلب منهنَّ السکوت حذار شماته الأعداء ، وهو بشخصه حاضر بینهنَّ , أطعنه وسکتنَ وسکنَّ .
إعداد العبّاس (علیه السّلام) لکربلاء
وروی أنّ الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) کان ذات یوم جالساً فی مسجد النبیّ (صلّى الله علیه وآله) بین أصحابه یحدّثهم ، ویعظهم ویبشرهم وینذرهم ، إذ جاء أعرابی وعقل راحلته على باب المسجد ، ودخل ومعه صندوق ، وأقبل نحو الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فسلم على الإمام (علیه السّلام) ، ووضع الصندوق بین یدیه (علیه السّلام) ، ثمّ قبل یدی الإمام (علیه السّلام) ، وقال : جئتک یا أمیر المؤمنین بهدیه .
فقال (علیه السّلام) : (( وما هی هدیتک ؟ )) .
قال : هدیتی فی هذا الصندوق ، ثمّ فتح الصندوق ، وإذا فیه شیء ملفوف ، ففلّه فإذا هو سیف عضب من السیوف الجیّده ، وله حمائل جمیله ، وقدّمه للإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) ، فأخذه الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وشکره على هدیته ، ثمّ أخذ یقلّب السیف بیده وینظر إلیه ، وهو یقول لمَنْ کان معه من أصحابه : (( أیّکم یستطیع أن یؤدّی حقّ هذا السیف فیکون حقیقاً بأن أهدیه له ؟ )) .
وبینما الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) یکلّم أصحابه إذ دخل أبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) المسجد ـ وهو إذ ذاک لم یبلغ الحلم ـ , وأقبل نحو أبیه أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فسلّم علیه ، ووقف بین یدیه متأدّباً ، وأخذ یُطیل النظر إلى السیف الذی فی ید أبیه ، فأجاب الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) سلام ولده ، ثمّ أخذ ینظر إلیه وهو یعید مقالته ویقول : (( أیّکم یستطیع أن یؤدّی حقّ هذا السیف فیکون جدیراً بأن أهدیه له ؟ )) .
فقال أبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) : وما حقّ هذا السیف یا أبتاه ؟
الصفحه (۲۳۹)
فقال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السّلام) : (( ولدی عبّاس ، حقّ هذا السیف هو أن تحمی به أخاک الإمام الحسین (علیه السّلام) وتحامی عنه )) .
فقال أبو الفضل العبّاس (علیه السّلام) ، وبکلّ انشراح ورحابه : أنا لذلک یا أبتاه .
فقال أمیر المؤمنین (علیه السّلام) ، وقد ابتهج بشجاعه ولده العبّاس (علیه السّلام) ، وهشّ لبسالته ووفائه : (( نعم ، أنت له )) .
وقد أشار إلیه بأن یدنو منه ، فلمّا دنا منه قلّده إیّاه ، فطال نجاد السیف على العبّاس (علیه السّلام) فقصّره له ، ثمّ جعل ینظر إلیه ویطیل نظره ، وهو یبکی ودموعه تتحادر على خدّیه ، فقال له أصحابه : وما یبکیک یا أمیر المؤمنین ؟ لا أبکى الله عینیک !
فقال (علیه السّلام) ، وقد اختنق بعبرته : (( کأنّی بولدی هذا وقد أحاطت به الأعداء من کلّ جانب ، وهو یضرب فیهم بهذا السیف یمنه ویسره ، ویحمی به أخاه الإمام الحسین (علیه السّلام) ، ویحامی عنه حتّى تقطع یداه فی نصرته ، ویقصف رأسه بعمد من الحدید فی حمایته والدفاع عنه )) .
ثمّ بکى (علیه السّلام) ، وبکى مَنْ کان حاضراً عنده من أصحابه .