الإمامه فی کتاب الله الحکیم
إنّ أهمّ وأشرف موضوع خلیق بأن تجنّد له العقول والأبصار والألباب وتتوفّر العقول على بحثه والتثبّت منه هو موضوع الإمامه ، ذلک أنّها تمثّل فی شجره الإیمان الثمره. إنّ الشجره المبارکه التی جعل الله أصلها ثابت فی الأرض بلا إله إلاّ الله وفرعها منبثق فی السماء برسول الله إنّما ثمرتها الحقیقیه الإمامه ، وإذا تجرّدت الشجره من الثمره فقدت وظیفتها وأصبحت عاله على الأرض التی تستقل بها. أیها الأحباب ، أهمّیه الإمامه تأتی کذلک ، باعتبار مظلومیتها لدى المسلمین ، فهی الرکن المظلوم عبر التاریخ من بین أرکان الإیمان ، والتی بظلمها تهدمت باقی أرکان الإیمان. فتعالوا نردّ على تحدّی من طبع الله على قلوبهم وجعل فی آذانهم وقراً ، نردّ على تحدّیهم بأن نعیش مع کتاب الله فی بیان الإمامه ، « یُثَبِّتُ اللهُ الَّذینَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِی الحَیَاهِ الدُّنْیا وَفِی الآخِرَهِ وَیُضِلُّ اللهُ الظَّالمِینَ وَیَفْعَلُ اللهُ مَایَشَاءُ » (1) . فتعالوا بالقول الثابت نتعرّف على النظریه العامّه فی القرآن حول الرکنین الأساسیین الربوبیّه والعبودیّه. [ الربوبیّه والعبودیه ] إنّ قصّه الخلق تدور حول الربوبیه والعبودیه : ربٌّ خلق وعبدٌ مخلوق مطلوب منه أن یعبد الذی خلقه ، وهو لکی یعبده لابدّ أن یکون على بیان من مراد المعبود بیاناً قطعیّاً لا مظنّه فیه. إذن ، فالقضیّه أصلها حقوق الربوبیه وواجبات العبودیه : ففی حقوق الربوبیه ـ إعلم یا أخی ـ أنّ الله لیس ربّ البشر فقط ، ولا ربّ الإنس والجن فقط ، ولا ربّ الشجر والحجر والحیوان ، بل هو ربّ کل شیء ، ولذلک فإنّ الإمامه التی یجحدها الناس فی عالم البشر هی فی الحقیقه تسری فی کل المخلوقات. _________۱ ـ إبراهیم : ۲۷٫ ولکی نعرف حتمیه الإمامه تعالوا نستعرضها فی القرآن ، لنرى وفق أیّ مفهوم تسری فی کل المخلوقات؟ [ کلّ مخلوق خلق على قاعده الاختیار الإلهی ] مفهوم أنّ کلّ مخلوق خُلق على قاعده الإختیار الإلهی له ، یعنی لیس مخلوق عبثاً ، لأنّ العبثیه فی المخلوقات ممتنعه ، « أَفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاکُمْ عَبَثاً » (1) ، فکلّ المخلوقات خلقت بتقدیر واختیار بما یستطیع الباحث المدقّق معه أن یسجّل هذه السُنه : سُنه الخلق مقرونه بسُنه الإختیار. فما من خلق إلاّ مصحوب باختیار ، لقول الحقّ تبارک وتعالى : « وَرَبُّکَ یَخْلُقُ مَایَشَاءُ وَیَخْتَارُ مَاکَانَ لَهُمُ الخِیَرَهُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا یُشرِکُونَ » (2) . إذن حیثما یوجد خلق یوجد اختیار. [ الاختیار فی العوالم الثلاثه ] فتعالوا نرى کیف أشار القرآن إلى أنّ الاختیار یشمل العوالم الثلاثه : عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحیوان ، کلّ هذا اختیار. ___________۱ – المؤمنون : ۱۱۵٫ ۲ ـ القصص : ۶۸٫ « وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِیضٌ وحُمْرٌ مُختَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرابِیبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ والأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ کَذَلِکَ » (1) ، إشاره إلى مَن الذی جعل جبلا أبیضاً وجبلا أسوداً وجبلا أحمراً. إذن هناک اختیار ، والناس کذلک ، وهذا الإختیار یتعاظم ویدخل فی مرحله تفصیلیه کلّما ارتقت المجموعه أو الجنس. فالاختیار فی الجماد دقیق ، وأدقّ منه الاختیار فی النبات ، فما أعجب ما ترى فی النبات؟! [ الاختیار فی النبات ] کلّ نبات له زهره معینه ، فهل تستطیع زهره نبات ما ـ کالرمان مثلا ـ أن تنتج برتقالا أو تنتج لیموناً؟! لقد اختیرت وصمّمت على أن تنتج الرمان ، وکم فی النبات من عجائب؟ [ الاختیار فی الحیوان ] وإذا دخلنا عالم الإنسان أو عالم الحیوان ککلّ ، والإنسان نوع من هذا الجنس الذی یجمعه قول ربنا تعالى : « وَاللهُ خَلَقَ کُلَّ دَابَّه مِنْ مَاء فَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلَى رِجْلَیْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلَى أَرْبَع یَخْلُقُ اللهُ مَا یَشَاءُ » (2) ، وهذا اختیار ، إذ لا تستطیع ذوات الأربع أن تقوم بوظیفه من یمشی على رجلین ، ولا تستطیع التی تمشی على بطنها أن تنافس من تمشی على أربع. ________________۱ – فاطر : ۲۷ ـ ۲۸٫ ۲ ـ النور : ۴۵٫ فإذا جئنا للمخلوق الذی یمشی على رجلین فما قصته فی الاختیار؟ هذا هو الاختیار الأدقّ ، هذا هو الاختیار الذی تجلّت فیه الربوبیه بکامل إبداعها وتقدیرها ، تجلّت تحدیاً وإثباتاً للقدره ، وعند نقطه التحدی بدأت المشکله فی رفض الاختیار ، فما هی نقطه التحدی؟ [ نقطه التحدّی فی رفض الاختیار ] إنّ الله تبارک وتعالى العلیم بخلقه ، لمّا خلق الجنّ وأسکنهم الأرض التی نحن فیها الآن ، وکانت لهم فیها سیاده ، وکانت لهم فیها قدرات تزید على قدرات الإنس ، قدرات خالیه من الأذواق ، قدرات مرده الجن ، عفاریت الجن ، هؤلاء الجن المعمرین واحدمنهم أحسن العبودیه لله فدخل علیه تحسین إلهی واختیار إلهی آخر ، وهو إبلیس الذی یصفه الله عز وجل فی سوره الکهف تعلیلا لاستکباره عن السجود لآدم حیث یقول : « إلاّ إبْلِیسَ کَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ » (1) . _____________1 ـ الکهف : ۵۰٫ لمّا اختار الله عزّ وجلّ أن یخلق بشراً من صلصال ، وأنبأ الملائکه بمشیئته ، وتحقّقت هذه المشیئه ، وخلق الإنسان ، وجاء وقت الإذعان لمشیئه الرحمن بالسجود له. نحن قلنا : إنّ الربوبیه ـ الألوهیه ـ تتکوّن من عنصرین : القدره على الخلق ، والقدره على الإختیار ، فالإله هو الذی یخلق ، ولهذا یقول الحق : « أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَیْرِ شَیء أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ یُوقِنُونَ » (1) ، ویقول : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِیزُ العَلِیمُ » (2) . فالخالق یقترن بقدرته على الخلق ، لا أقول قدرته فی الإختیار ، بل وحقه فی الاختیار أنّه خلق ، ألیس مِن حق مَن خلق ملک ، ومَن ملک تصرّف ، والتصرّف اختیار ، یختار ما شاء؟ اختار آدم لاستخلافه ولیهیّئه للإستخلاف بحیث علّمه ما لا تعلم الملائکه ـ من دون تفصیل ، والوقت لا یتسع لأن نتساءل ما الذی علّمه لآدم ـ علّمه الأسماء کلها ، وهذا التعلیم أجّج غیره إبلیس ، فبدل أن یقول : سبحان الذی یَخلق ولا یُخلق ویَقدر ولا یُقدر علیه ویَختار ولا یُختار علیه ، فهو بدل أن یقول کذلک قال : أنا أؤمن بأنک الخالق ، لکن أنازع فی اختیارک آدم. ________________۱ ـ الطور : ۳۵ ـ ۳۶٫ ۲ ـ الزخرف : ۹٫ انتبهوا ، لأنّ مدخل إبلیس إلى الکفر هو مدخل کثیرین دون أن یشعروا. إنّ إبلیس لم یکفر بالله خالقاً ولا کفر بالله رازقاً ولا کفر بالله فاطراً ، فقد قال لربّه : « خَلَقْتَنی مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِین » (1) ، « أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِیناً » (2) . إذن منازعه إبلیس فی نقطه الاختیار ، فطُرد إبلیس. إعلم یا أخی ، إنّ الله عزّ وجلّ موازینه لا تختل ، فالأُستاذ العادل فی الفصل الدراسی عندما یرید أن یزن تلامیذه ویعطیهم الدرجه التی یستحقّونها ـ إذا کانوا قد درسوا منهجاً واحداً أو ساعات دراسیه واحده ولقوا عنایه واحده ـ یوجّه لهم سؤالا واحداً کی یقیس قدراتهم ، یوجّه سؤالا واحداً ولا یعطی أسئله متناقضه ، فلا یعطی تلمیذاً سؤالا سهلا والثانی سؤالا صعباً! فالله الخالق الذی وجّه الى الملائکه ومن بینهم إبلیس الخطاب : « إنّی خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِین * فَإذَا سَوَّیتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِینَ » (3) . ________________________________________1 – الأعراف : ۱۲٫ ۲ ـ الإسراء : ۶۱٫ ۳ ـ ص : ۷۱ ـ ۷۲٫ لمّا فشل إبلیس فی الامتحان وحاق به جزاء الرفض بالطرد من الجنّه وکان الطرد مقروناً بتعلیم واحد ، قال ربّنا لإبلیس أخرج من الجنه ، لماذا؟ فهو لم یقل له لأنک لم تعبدن ، ولا لأنّک لم تذکر أنّی خالقک ، ولا لأنّک تصوّرت نفسک إلهاً ، وإنّما قال له : « فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا یَکُونُ لَکَ أنْ تَتَکَبَّرَ فِیهَا فَاخْرُجْ إنَّکَ مِنَ الصَّاغِرِینَ » (1) ، یعنی الاستکبار على أمر الله فی الاختیار مصیره الطرد. لقد ألمح الطبری فی تفسیره إلى أنّ إبلیس عندما طُرد من الجنّه جأر إلى الله محتجّاً وشاکیاً ومتحدیاً (۲) . هذا التحدی الذی سیکون سبباً لدخول الاختیار على بنی آدم ، تحدى بأی شیء؟ قال : یا ربّ أنا عبدتک فی الأرض وعبدتک فی السماء حتى ابتلیتنی بهذا المخلوق الذی خلقته من طین وأمرتنی بالسجود له ، فعظُم علیّ أن أسجد للطین ، هلاّ ابتلیت ذریته بما ابتلیتنی به ففضّلت بعضهم على بعض لترى کیف یفعلون ببعضهم؟ وعن هذا تتحدث الآیه فی السُنه الکونیه ، یقول الحق : « وَکَذَلِکَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْض لِیَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَیْهِمْ مِنْ بَیْنِنَا أَلَیْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاکِرِینَ » (3) . الله تعالى وجد أنّ احتجاج إبلیس احتجاج وجیه ، وبعدله وبتقدیره فی الأزل أجرى الاختیار على ابنی آدم منذ فجر الخلیقه. _______________۱ ـ الأعراف : ۱۳٫ ۲ ـ تفسیر الطبری : ۸ / ۱۷۲ ـ ۱۷۵٫ ۳ ـ الأنعام : ۵۳٫ [ الاختیار فی زمان آدم (علیه السلام) ] إعلم یا أخی ، أنّ الإمامه جُعلت لآدم عندما أصبح له ابنان ، لأنّ سیاق الآیه فی سوره المائده یدلّ على أنّه وقت وقوع حادث ابنی آدم لم یکن له غیر هذین الابنین : « وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ ابْنَیْ آدَمَ بِالحَقِّ » (1) . أبوهم مستخلف ، ثمّ عندما یصبحوا أکثر من واحد تتحرک سُنه الاختیار لکی یتبیّن من یرضى باختیار الله. کما أنّ ابنی آدم قبل الاختیار کانا مسلمین ، إذ ما زالا قریبا عهد بأبیهم المُهبط من الجنه. ما الدلیل على إسلامهم؟ الدلیل هو أنّهما قرّبا لله قرباناً ، فلو کان أحدهما کافراً محضاً ومنکراً فإنّه لا یقدّم قرباناً ، « وَاتلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ ابْنَیْ آدَمَ بِالحَقِّ إذ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أحَدِهِمَا وَلَمْ یُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّکَ » (2) . ______________1 و ۳ ـ المائده : ۲۷٫ رفض ابن آدم الشقی الاختیار ، رغم أنّه قبل ذلک کان یقدّم قرباناً ، أی : أنّه عارف بالله مؤمن به ، لکنّه رفض الاختیار ، فطُرد وأصبح شقیاً مطروداً وارتکب جریمه القتل لأخیه. إنّ إبلیس فرح مع أول دفقه دم لابن آدم على ید أخیه ، وقال : ها لقد نجحت فی التحدی!! لأنّ هو تحدى کما یقصّ القرآن : « قَالَ أَرَأَیتَکَ هَذَا الَّذِی کَرَّمْتَ عَلَیَّ لَئِنْ أخَّرتَنِ إلَى یَوْمِ القِیَامَهِ لأحْتَنِکَنَّ ذُرِّیَتَهُ إلاّ قَلِیلا » (1) ، فإبلیس یقول : إنّک إن أخرتنی یا ربّ ، فهو أیضاً معترف بالله وبالبعث ، هذا إبلیس یؤمن بالله ربّاً خالقاً وبالبعث ، لکن سقط فی امتحان الاختیار وبدأ یتحدّى ویقول : إن أخرتنی لیوم القیامه سوف آخذ أبناء آدم منک ، أی من عبودیتهم لک ، لیکونوا عبادی أنا! ولهذا یقول الحق عن إبلیس : « أفَتَتخِذُونَهُ وَذُرِّیَتَهُ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِی وَهُمْ لَکُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَالِمینَ بَدَلا » (2) . بدأت سُنه الاختیار تصبح من سنن الله التی لا تجد لها تبدیلا ولا تحویلا لمّا تکاثر البشر وبدأت النبوّات. [ الاختیار فی زمان نوح (علیه السلام) ] ربّنا یعبّر عن إرسال نبیه نوح (علیه السلام) أبو البشر الثانی بتعبیر یمثّل روح الإمامه ، أنظروا إلى نور الإمامه بدأ یشرق متمثّلا بالإصطفاء : « إنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحَاً » (3) ، والإصطفاء یعنی الصفوه ، وهو ________________۱ – الإسراء : ۶۲٫ ۲ ـ الکهف : ۵۰٫ ۳ ـ آل عمران : ۳۳٫ لیس مجرد اختیار ، بل اختیار عن علم وبصیره واقتدار وتصفیه. [ الاختیار فی زمان إبراهیم (علیه السلام) ] ثمّ دخل على الاصطفاء تطوّر جدید ، ما هو؟ سببه إبراهیم (علیه السلام) : « إنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وآلَ إبْرَاهِیمَ وآلَ عِمْرَانَ » (1) ، فهو تعالى لم یقل : إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وإبراهیم ، بل قال : « وَآلَ إبْرَاهیمَ ». الله تبارک وتعالى لمّا أکرم إبراهیم وابتلاه بکلمات وأتمّهنّ وخوطب بالبشرى : « إنِّی جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ إمَاماً » ، وتقبّل البشرى طامعاً فی سعه رحمه الله وفی استدامه هذا النور فی ذریته ، « قَالَ وَمِنْ ذُرِّیَّتی » ، أُجیب جواب المثبت للإمامه من حیث المبدأ المستبعد للظالمین منها ، « قَالَ لاَیَنَالُ عَهدِی الظَّالِمینَ » (2) أی : بلى یا إبراهیم یکون من ذریتک أئمه مع استبعاد الظالمین ، لماذا؟ ________________________________________۱ – آل عمران : ۳۳٫ ۲ ـ البقره : ۱۲۴٫ لکی تظلّ سُنّه الاختیار مقرونهً بأسباب موضوعیه ، وهی الفصل بین الظالم والصالح ، البارّ والفاجر. لقد جعل الله قاعدهً فی کتابه مفادها : أنّ النعم لا تغیّرها إلاّ المعاصی ، ذلک لأن الله إذا أنعم على عبد بنعمه « لَمْ یَکُ مُغَیِّراً نِعمَهً أنْعَمَها عَلَى قَوْم حَتَّى یُغَیِّروا مَا بِأَنْفُسِهِمْ » (1) ، فقد أنعم الله النعمه على آل إبراهیم ، وجاء فی تأسیس هذه النعمه نکته غریبه ملفته للنظر ، وهی أنّ النعمه جاءت مقرونهً بخطاب الملائکه لیس لإبراهیم. فالخطاب أوّلا لإبراهیم بالإمامه کمبدأ واستدامتها فی الذریه ، فأُجیب مع استبعاد الظالمین. لکن عند التحقیق العملی نجد أن الملائکه جاءوا إلى إبراهیم (علیه السلام) بشأن قوم لوط ، فأخذ یجادلهم فی قوم لوط ، وکانت امرأه إبراهیم البارّه الصالحه ساره عمیده أهل بیت الأنبیاء قبل الزهراء (علیها السلام) ـ قبلها ولیست مثلها ، وهذه قبلیه فی المرور التاریخی ـ یقول الوحی : « وَامْرأَتُهُ قَائِمَهٌ فَضَحِکَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ یَعْقُوبَ * قَالَتْ یَاوَیْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذا بَعْلِی شَیْخاً إنَّ هَذَا لَشَیءٌ عَجِیبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِینَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَهُ اللهِ وَبَرَکَاتُهُ عَلَیْکُمْ أَهْلَ البَیْتِ » (2) . وهنا بخلَّه إبراهیم مع الله أصبح لله بیتاً فی الأرض ، وبوّأ الله بیته لإبراهیم لیرفع قواعده ، فأصبح هناک بیتاً ولابدّ للبیت من أهل : « وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِیمَ مَکَانَ البَیْتِ أَنْ لاَ تُشْرِکْ بِی شَیْئاً » (3) ، ________________۱ – الأنفال : ۵۳٫ ۲ ـ هود : ۷۱ ـ ۷۳٫ ۳ ـ الحج : ۲۶٫ « وَإذْ یَرْفَعُ إبْرَاهِیمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَیْتِ وَإسْمَاعِیلُ » (1) . بدأت مرحله أهل البیت ، فالله أصبح له فی الأرض بیت ، وللبیت أهل ، ولا یمکن أن یکون الأهل أناساً مجهولین ، کما لا یمکن أن یوجد بیت أهله من غیر اختیار ربّ البیت. الله تعالى منذ أن رفع إبراهیم القواعد من البیت صار أهل البیت إسحاق ، ومن وراء إسحاق یعقوب ، حتى استتم بنوا إسرائیل مواکب أنبیائهم وکانت القاعده فیهم ، فهم یتوافدون نبیاً بعد نبی ، حتى إذا غیّر بنوا إسرائیل ما بأنفسهم غیّر الله ما أنعم علیهم. وجاء التغییر فی سوره الأعراف لمّا أرادوا أن یستدیموا اختیارهم وقالوا « إنَّا هُدْنَا إلَیْکَ » أی انقدْنا إلیک ، وهدنا هذه هی على الراجح السبب فی تسمیتهم یهود ، فأجیبوا : « قَالَ عَذَابِی أُصِیبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ » (2) ، فالله العظیم الرحیم یردّ علیهم : أنتم مستوجبین العذاب بما فعلتم وبدّلتم ، ولهذا قدّم العذاب على الرحمه هنا ، لأنّه فی مقام الردّ على مستحقی العذاب ، لکن رحمتی واسعه ولها سبب ولها باب ولها مدخل : « وَرَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیء فَسَأَکْتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاهَ وَالَّذِینَ هُمْ بِآیَتِنَا یُؤْمِنُونَ * الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الأُمِّیِّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوبَاً عِنْدَهُمْ __________________۱ – البقره : ۱۲۷٫ ۲ ـ الأعراف : ۱۵۶٫فِی التَّوْرَاهِ وَالإنْجِیلِ » (1) أبی القاسم محمد (صلى الله علیه وآله). [ سنه الحیاه دائماً نحو الأفضل ]أنّ سُنه الله فی الأرض وفی المخلوقات ـ وحتى الفلاسفه وعلماء الطبیعیات یقولون ـ أنّ الحیاه دائماً إلى الأفضل ، أرجو أن نلتفت إلى هذه النقطه : الحیاه فی مجموعها دائماً إلى الأفضل ، لماذا؟ لأنّ الله تبارک وتعالى ربّ الحیاه ، وهو ینمّیها ویجلّیها باعتبارها مظهراً لقدرته. یعنی الملک القادر ـ الملک البشری ـ لمّا یبدی من فنون قدرته حداً معیناً لتتوقّف عند هذا الحدّ وأصبحت قدرته عاجزه عن الإبداع فیما بعد ، یثبت محدودیته وعجزه عن أن یأتی بجدید. أمّا الله فمن أسمائه وصفاته بدیع السماوات والأرض ، وما دام هو بدیع فلا یزال مبدعاً ، وما دام لا یزال مبدعاً لا یزال الکون متقدّماً إلى الأفضل ، الأفضل فی نوع البشر والأفضل فی أنماط الحیاه ، کیف وما الدلیل من القرآن؟__________________۱ – الأعراف : ۱۵۶ ـ ۱۵۷٫ إنّ الله تعالى علّمنا فی القرآن أنّ مواکب الأُمم لمّا توافدت على الأرض کانت کلّ أمه یأتیها نبی تکفر به ، فیهلک الکافرین ویستبقی الصالحین ، والدلیل على هذا ما جرى فی سفینه نوح : « قُلْنَا احْمِلْ فِیهَا مِنْ کُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَینِ وَأهْلَکَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَیهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِیلٌ » (1)، وبدلیل قول الله تعالى عن نوح (علیه السلام) فی سوره الصافات: « وَجَعَلْنَا ذُرِّیَّتَهُ هُمُ البَاقِینَ » (2) . ألا یعنی هذا تطویر الحیاه إلى الأفضل فی النوع أو لا؟ یعنی أنّ البشر الذین بعد نوح هم أبناء أفضل مَن کان فی السفینه وهکذا دوالیک عند عاد وعند قوم صالح یهلک الطالحون ویبقى الصالحون. کذلک الإنسانیه فی مجموعها ما زالت تکتشف قیماًأخلاقیه ، وأرجو أن نکون أوفیاء للإحساس بإبداع الله فی الإنسان ، الإنسان مخلوق غریب جداً! قدراته وأخلاقیاته عجیبه بإبداع الله فیه! یعنی من إبداع الله فی الانسان أنّ قوماً کافرین کأهل الغرب بمقیاس الإیمان والکفر ، لکنهم بمقیاس العطاء الإنسانی قدّموا للإنسانیه ممّا ابتکروه واستحدثوه ما تستفید به کل الإنسانیه ـ بما فیها المسلمون وبما فیها نشر کتاب الله ـ وآخرها الإنترنیت الذی نبثّ فیه ما نستطیع أن نبثّه ، کما وجد فی الغرب التسامی الإنسانی ، حیث ارتقاء النوع ضروری إذ وجد مَن ینتصف للمظلوم حتى ولو کان بأهواء! فأیُّ صوره هذه التی تجعل عشرات الألوف من العراقیین ومن غیر العراقیین من أجناس الأرض تضیق بهم أراضیهم ویضیق بهم أهلوهم فیجدون فی کنف هؤلاء ملاذاً وحریهً؟! ______________۱ – هود : ۴۰٫ ۲ ـ الصافات : ۷۷٫ لقد استطعت أن أتکلم فی لندن وفی أمیرکا بما لا أستطیع الکلام به فی القاهره!! الخلاصه : فأیُّ دلاله فی هذا؟ إنّ الإنسانیه تتقدّم ، وما دامت تتقدّم فی مجموعها یبقى اختیار الإمامه لازم ومتساوق مع هذا التقدّم ، بمعنى أن یظل حِجر الإمامه قادر على أن یقود الإنسانیه فی ذروه تقدّمها ولا یتخلّف عن رکبها. [ الاختیار فی سوره الشورى ] فالاختیار الذی انتهى إلى بنی إسرائیل ثمّ نسخ باختیار محمد وآل محمد (صلى الله علیه وآله) ، سأوجز حدیثی فیه بین یدی سوره الشورى ، لأنّ سوره الشورى هی التی صنعت المنعطف الذی بیّن تسلسل الاختیار وبدء الإمامه فی ذریه الزهراء (علیها السلام). الحق تبارک وتعالى یقول فی سوره الشورى : « شَرَعَ لَکُمْ مِنَ الدِّینِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحَاً وَالَّذِی أوْحَیْنَا إلَیْکَ وَمَا وَصَّیْنَا بِهِ إبْرَاهِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى أنْ أقِیمُوا الدِّینَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِیهِ » (1) . أول شیء یقول الحقّ مخاطباً عبده ورسوله محمداً (صلى الله علیه وآله) : یا عبدی ورسولی محمد ، ها قد آل إلیک میراث النبیین جمیعاً ، ها قد آلت إلیک أنوار الأنبیاء جمیعاً ، ووصایای لهم جمیعاً أصبحت وصایای لک ولأمتک. ________________۱ – الشورى : ۱۳٫ ماهو جوهر الوصایا؟ [ سبب التفرّق هو البغی ] « أَنْ أَقِیمُؤا الدِّینَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِیهِ » (1) ، لأنّ التفرّق لو وقع سیکون ناشئاً بسبب البغی ، فربنا یقول : « وَمَا تَفَرَّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْیَاً بَیْنَهُمْ » (2) ، فالتفرّق إذا وقع لا یکون إلاّ بسبب البغی الذی یمثّل رفض الاختیار الإلهی. ومعنى البغی بینهم : أنّ واحداً منهم لا یروقه اختیار الله للثانی ، وهذا هو معنى قول جاهلیه قریش : « وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرآنُ عَلَى رَجُل مِنَ القَرْیَتَیْنِ عَظِیمٌ » (3) ، فالحق یقول : « وَمَا تَفَرّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ » ، بمعنى أنّه غیر مقبول فی دین الله أن یتفرّق المسلمون فی أرکان الإیمان ـ والإمامه على رأسها ـ ولا أن یعتذّروا فی تفرّقهم بمقوله : إنّ مَن اجتهد فأخطأ فله أجر ومَن تأوّل فأصاب فله أجران ، لأنّ هذه المقوله یدحضها الوحی ______________۱ – الشورى : ۱۳٫ ۲ ـ الشورى : ۱۴٫ ۳ ـ الزخرف : ۳۱٫ وینفی أن یکون التفرّق إلاّ عن بغی ولا یکون عن حسن ظن : « وَمَا تَفَرَّقُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ » (1) . ثمّ یقول الحقّ بخصوص بغیهم هذا : لولا کلمه سبقت لعاقبناهم فوراً على بغیهم ، « وَلَوْلاَ کَلِمَهٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّکَ إلَى أجَل مُسَمَّىً لَقُضِیَ بَیْنَهُمْ » (2) ، علِمَ الله لولا هذه الکلمه التی سبقت من ربّنا لشُلَّ الصنم عمر وهو یجتری على رسول الله فیقول : إنّه یهجر (۳) ، لولا الکلمه التی سبقت! فهذه الکلمه رهیبه! بدأ التفرق بغیاً بینهم وقد جاءهم العلم فی خطبه الغدیر وما قبلها .. جاءهم العلم فی کل المناسبات. إنّ ختام هذه الآیه خطیر جداً! بحیث أصبح القرآن وأحکام القرآن وعبادات الرسول محل شکّ! لدرجه أنّ المسلمین لا یعرفون کیف توضأ الرسول. أستاذنا الجلیل الشیخ الکورانی بالأمس ألفت نظری وقال لی : الرسول یتوضأ على مسمع ومرآى من المسلمین طوال حیاته ، ویُختلف فی الوضوء! ، یقع الریب فی الوضوء ، کیف یتوضأ رسول الله؟! ________________۱ – آل عمران : ۱۹٫ ۲ ـ الشورى : ۱۴٫ ۳ ـ أنظر : صحیح مسلم : ۳/۱۲۵۹ ( ۱۶۳۷ ) ، مسند أحمد : ۱/۳۵۵ ( ۳۳۳۶ ). [ نتیجه التفرّق تؤدّی إلى الریب فی الکتاب ] إنّ ختام الآیه یقول : إنّ نتیجه التفرق القائم على البغی تؤدّی إلى الریب فی الکتاب فیقع الاضطراب : « وَإنَّ الَّذِینَ أُورِثُوا الکِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِی شَکٍّ مِنْهُ مُرِیب » (1) ، صار الناس فی شکّ ، ماذا فعل رسول الله وماذا لم یفعل؟ وما معنى هذه الآیه وما معنى تلک؟ کل هذا لنقضهم عروه الإمامه بغیاً فتفرقوا.____________۱ – الشورى : ۱۴٫